ونأتى لنوع آخر من أنواع الحب وهو "الحب العذرى " واعتقد أن الأدب الإنساني مجدَ الحب العذري، وركز على عجز المحب عن الوصول إلى حبه، يعني الإنفصال المكاني أو الظرفي الذي يكون سببا في التهابات الشوق وتأجج الحب،5فمن صفات الحب العذري البراءة من الرغبة الجنسية، وتتحول الحبيبة إلى لوحة معلقة في قلب المحب لا تشبه بأي حال من الأحوال الحبيبة بلحمها ودمها.فالمحب هنا يعيش فى خيال رسمه بنفسه.
فيروى لنا الدب العربى قصة مروية عن "قيس وليلى" فيقال أنه وقع ذات يوم مغشيا عليه من شوقه إليها، فرقت لحاله وأتت تعالجه بحنان لكي يستفيق من غشيته ولما أفاق نظر إليها وقال:" استغنيت بك عنك."
الحبيبة في هذا المشهد مخلوق آخر صنعه الشاعر المحب، لكي يتغنى بجماله ويتعذب من فراقه ويعبرعن شوقه. أما جميل بثينة، فقد حولها إلى سر وجوده وتوأم روحه فكانت بثينة في شعر جميل، مصدر إلهام مستمر طالما أنه لم يرها ولم يلمسها ؛وفى إحدى حواراتى على راديو "الغزال " بمارسليا مع الإذاعي اللامع "وناس الطالبى" سألنى :هل تستلهم أشعارك من محبوبتك؟فكانت الإجابة بنعم..ولكن الزواج يقتل "الحب"!!
والواقع أن الحبيب في الحب العذري هو صورة لذات المحب أكثر مما هو شخص الحبيب الذي أطلق شرارة هذه المشاعر، الحبيبة كانت مجرد مادة لصناعة الصورة، وقماشة رسمت عليها اللوحة، وذلك لأن المرأة التي يريدها أي رجل ليست موجودة في امرأة واحدة، وكذلك الرجل الذي تريده أي إمرأة، وإن كانت المرأة أميل للإخلاص لرجل واحد وأشد تغافلا عن عيوب الحبيب، لأن جهازها الإحساسي أرق، وجرحها من نهايات الحب أعمق، فضلا عن أنها مفطورة على منح الحب.
المهم أن الفنان أو الشاعر العذري لا يجد ضالته إلا في المرأة التي تشبع شغفه للحب المطلوب في هذه الحالة لذاته لا لغيره يعني حب من أجل الحب لا من أجل الحبيب، ولذلك يصل بنا التحليل إلى أن الحب العذري على سمعته الحميدة بين الناس لما له من الفضل على الأدب والشعر وترهيف الأحاسيس، هو في الحقيقة نوع من النرجسية والوله بالذات التي ترفض ما تقدمه لها الحياة من علاقات طبيعية واقعية فيها النقص والكمال، وفيها العيب والجمال، وفيها الألم والسعادة.. فتنسج _نفس الشاعر_ من خيالها حبا وتجعل من حبيبها مادة لهذا الحب بصورته المثالية التي لا يشوبها أي نقص، وينتهي بها المطاف تعلقا بالخيال والمثال قد يكدره التعرف على الحبيبة التي تنال.
لقد أثر هذا الحب بما حظي به من ترويج في الأدب والقصص والأساطير والسينما والتلفزيون والمسرح، على الذوق العاطفي للمحبين، وجعل الرجل الذي يطلب الحب يلهث وراء صورة فارس الأحلام، والمرأة تلهث وراء صورة الحورية، أصبحت العلاقة متطلبة أكثر من اللازم مرهونة بطقوس رومانسية لا تكتفي بالوردة بل تبحث عن ألوان الإثارة، واختلط الحب الرومانسي بنزعة الاستهلاك ومستويات الشبق الجنسي بحثا عن صورة مثالية هي في الحقيقة من نسج الخيال.
ولأن هذا الحب بالذات يموت بعد الزواج، شاع أن الزواج نهاية الحب وكأنه النسخة الوحيدة والصيغة الفريدة للحب، فالمخلصون للحب الرومانسي يؤخرون الزواج أو لا يتزوجون أصلا إذا أمكنهم ذلك، والبعض أصبح يصرح بعد الخبرة أن الحياة الجميلة تعاش قبل الزواج فمن الأفضل تأخير هذا الهم.
المسألة هنا أوسع من الإخلاص للحب الرومانسي، بل هي خلط عجيب بينه وبين الحب الجنسي والحب الإستهلاكي، ولأن سمعة الحب الرومانسي أفضل، تختبيء أشكال الحب الأخرى خلفه.
إلى هنا نصل إلى أن “الحب الواقعي” الذي أعتبره حلا لمشكلات العلاقات بين الرجال والنساء على مافي هذه الكلمة من تناقض ظاهري، فالحب في الأذهان يناقض الواقع ويتمرد عليه، ولكنه في العلم صورة من صوره ومشهد من مشاهده… هذا الحب بالذات لاهو اتصال إلى درجة الإستحواذ ولا انفصال إلى درجة النرجسية الرومانسية ، إنه اتصال مع فسحة من الحرية وانفصال مع جذبة تشد المحب إلى حبيبه طلبا للوصال.
فى النهاية بقى أن أقول ..ما اعنيه من سلسلة مقالاتى تلك هو أن ظاهرة " عسل الحب المر"؛خلقناها بأيدينا وهى تشبه نوع من أنواع الحب وهو "الحب الاستحواذي ".. شكل مرضي من أشكال التعلق، وغيرة شرسة، ووساوس، ونوع من السلطة تمارس على الحبيب كي لا يبتعد ولا ينشغل ولا يغيب، فإذا غاب رن الهاتف وإذا حضر حوصر بالذراعين، وفى السياسة "الميديا ووسائل الاتصال " لا تنقطع .. حب يكتم الأنفاس ويحول المحبوب إلى شيء مملوك بالكامل.
والواقع أن هذا الحب المرضى يخفي قلقا عميقا من الانفصال، وضعفا شديدا للثقة بالنفس، ويؤدي في نهاية المطاف بحسب قوة شخصية المحبوب السجين، إما إلى الهروب والإنعتاق الفعلي أو إلى نوع من الرياء والمداراة على حساب المشاعر الحقيقية..اعتقد كلامى مفهوم!! انتهى
0 comments:
إرسال تعليق