خرج
النائب والفنان ياسر جلال على الناس بتصريح عجيب، قال فيه إن قوات الصاعقة
الجزائرية نفذت إنزالا في ميدان التحرير بعد نكسة 1967 لإنقاذ المصريين من هجومٍ
إسرائيلي محتمل، وإنه استقى هذه “المعلومة” من والده.
تصريح
لا يدهش فقط لغرابته، بل لأنه صدر من عضو في مجلس الشيوخ المصري، أي من موقع يفترض
فيه المسؤولية والوعي، لا الترديد العاطفي للحكايات المنزلية.
إن ما
قاله النائب ليس مجرد زلة لسان، بل خطأ فادح يمس الوعي القومي والتاريخ العسكري
المصري. فالجيش الجزائري في تلك الفترة كان في طور التأسيس بعد حرب التحرير، ولم
يملك القدرة ولا المبرر لإرسال قوات إلى القاهرة. لم يحدث، لا في الوثائق المصرية
ولا الجزائرية، أي ذكر لمثل هذا “الإنزال الأسطوري”. فهل يجوز لمن يجلس تحت قبة
البرلمان أن ينسج رواية كهذه أمام الرأي العام دون تحقق أو توثيق؟
هنا لا
نتحدث عن فنان يسرد مشهدا دراميا، بل عن نائب يتحدث باسم الدولة. ومن الخطير أن
يتحول المنبر السياسي إلى منصة للأساطير، وأن تستبدل الحقائق بالتخمينات التي تروى
على لسان الآباء. فالمعلومات العسكرية ليست تركة عائلية، ولا تستقى من “ذكريات
الوالد”، بل من أرشيف الدولة، من الوثائق التي كتبتها الدماء لا الألسنة.
والأدهى
أن مثل هذا الكلام، حين يخرج من فم مسؤول، يهين ذاكرة أمة كاملة، ويشوه صورة نضال
الشعبين المصري والجزائري معا. فالجزائر لم تكن بحاجة إلى أسطورة لتثبت شجاعتها،
ومصر لا تحتاج إلى خيال لتستعيد كرامتها بعد النكسة. كلا البلدين قدما ما قدماه من
دم حقيقي لا من حكايات عائلية.
إن ما
قاله النائب ليس مجرد “تصريح خاطئ”، بل استهتار بالمسؤولية السياسية والثقافية. فحين
يتكلم نائب تحت قبة البرلمان عن واقعة عسكرية لم تحدث، دون أدنى تدقيق، فهو يشارك
ـ من حيث لا يدري ـ في عملية تزييف الوعي الوطني. وهي الجريمة الأخطر من كل فساد
مادي، لأنها تسرق من الناس ذاكرتهم وتعبث بضميرهم الجمعي.
إننا لا
نملك رفاهية التهاون مع من يخلط بين الفن والسياسة، بين الأداء والواقع، بين
الكاميرا والحقيقة. فالبرلمان ليس موقع تصوير، والتاريخ ليس نصا دراميا يمكن إعادة
كتابته حسب المزاج.
ومع
كامل الاحترام للوالد الكريم، إلا أن الجهل بالتاريخ لا يبرره حسن النية، ولا
يغتفر حين يصدر من مسؤول يمثل الشعب.
لقد آن
الأوان لأن ندرك أن الكلمة السياسية مسؤولية وطنية لا نزهة إعلامية. ومن لا يملك
من الوعي ما يصون التاريخ، فالأجدر به أن يصمت، لأن الصمت أحيانا أرحم من الكذب
المغلف بالعاطفة.فالتاريخ لا يجمّل، والوطن لا يحمى بالأساطير.ومن يعبث بالذاكرة،
ولو بخطأ عابر، يشارك في جريمة تزييف الوعي..وجريمة الوعي، في الأوطان، لا تقل
خطورة عن الخيانة.

0 comments:
إرسال تعليق