يقدّم
هذا الموشّح تجربة شعرية تتأسس على تداخل الوجد الصوفي مع جماليات الاحتفاء بذكرى
ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام. ليس النصّ مجرد تهنئة أو نصّ مدائحي، بل
فضاء روحي واسع يُعاد فيه بناء الحدث الديني عبر لغة تستدعي الرمز، وتحاور
التاريخ، وتعيد إنتاج العاطفة في هيئة ضياء يتسرّب من حروف الشاعرة إلى وجدان
المتلقي. التصوف هنا ليس مضمونًا فحسب، بل طريقة حضور، ورؤية للعالم تُترجم إلى
موسيقى داخلية وصور سيميائية تعمّق التجربة الجمالية.
1. البنية
الوجدانية: من الحدث إلى الشهود
****************
ينفتح
الموشح على صورة كونية تُعلن ميلاد النور:
«وُلدَ
البدرُ وقد شقّ السّما / قمرٌ مِن مِثلِهِ وجهًا حَضَر»
هنا
يتحوّل الحدث التاريخي إلى مشهد كوني، حيث ميلاد فاطمة عليها السلام يرتبط بانشقاق
السماء وظهور البدر. الصورة تعمل كعلامة سيميائية تشير إلى انتقال الوعي من عالم
المادية إلى عالم الكشف. فالميلاد ليس بداية زمن، بل بداية معنى. هذا الأسلوب يضع
المتلقي مباشرة في دائرة "الشهود" الصوفي، حيث يصبح الحدث الديني تجربة
داخلية تُستشعر أكثر مما تُروى.
2. المحبة
بوصفها قانونًا وجوديًّا
**************
يتكرر
حضور الحبّ في النص كقيمة كونية لا كعاطفة بشرية:
«لم يدع
في مهجتي إلّا الهوى / كوثرٌ من حبّها نورًا ظهر»
المحبة
هنا ليست انفعالًا، بل "كوثر" صافٍ يتدفّق، ما يجعلها رمزًا برّانيًا
يشير إلى فيض الرحمة والبركة. توظيف الكوثر ليس صدفة؛ فهو رمز يُحيل إلى الطهر
والامتلاء، ويمتد ليشكّل علاقة سيميائية بين فاطمة و"العطاء الإلهي". بذلك
يصبح الحبّ في النص شريعةً روحية تحكم الوجدان ولا تخضع له.
3. سيمياء
الابتلاء: الجمال بوصفه امتحانًا
*************
تطرح
الشاعرة في القسم الثاني فكرة الحسن بوصفه "نسقًا" يختبر الأرواح:
«كم
كساني الحُسنُ فيهِ نسقا / بامتحانٍ جلّهُ لا يُستهن»
الجمال
هنا ليس زينةً بل محنة نورانية، تتقاطع مع المفهوم الصوفي للمشاهدة: فكلما زاد
الجمال، زاد الامتحان. هذا يشير إلى علاقة جدلية بين الجمال والوعي، حيث يُنتظر من
العاشق أن يسمو بنظره ليبلغ معنى البهاء، لا أن يكتفي بسطحه. الشاعرة توفّق بين
جمال الواقع ومفهوم البلاء الروحي، فيتحول النص إلى سلّم صوفي يرتقي بالمتلقي نحو
تأويلات أعمق للبهاء الفاطمي.
4. الولاء
كهوية روحية
**************
في
القسم الثالث، تتجلى العلاقة بين المحبة والولاء، حيث يصبح الولاء ذاته مقامًا من
مقامات السالك:
«مُلّكَ
العشقُ المُصفّى أضلعي / من إلٰهٍ أمرُه كم نحتسب»
العشق
هنا ليس اختيارًا، بل "تملّك" ربّاني. الرموز السيميائية (الأضلع،
الراية، الرداء...) تخلق لغة جسدية – روحية توحي بأن الولاء يتحول إلى نَفَسٍ
داخلي يحرّك الكيان كله. النص ينسج هذه العلاقة باعتبارها امتدادًا لطريق
السالكين، حيث الولاء ينقذ الروح من "لحدٍ" يضطرب، ويعيد لها سكينة
القرب.
5. التصوّف
الأنثوي: حضور الزهراء بوصفه نورًا مُوجهًا
****************
يحمل
القسم الأخير من النص حضورًا أنثويًا كاملًا، تتجسد فيه الزهراء كرمز شفاعي ومرشد
روحي:
«زيّني
زهراءُ عرسي زيّني / ببياضٍ نورُه في ملبسي»
الحضور
الأنثوي هنا ليس وصفًا شعريًا، بل بنية روحية تستمدّ قوتها من فكرة "الطهر".
البياض رمز دلاليّ لصفاء السيرة، وطهارة الأصل، ونورانية البدايات. الأنثى في النص
ليست موضوعًا، بل ذاتٌ فاعلة تمنح، وتفيض، وتشفع. هذا الحضور يجعل النص قريبًا من
التصوف النسائي الذي يقيم علاقة خاصة بين النور والإلهام والشفاعة.
6. جمالية
التلقي: كيف يستقبل القارئ هذا النص؟
***************
يتلقى
القارئ هذا الموشح عبر مسارين متوازيين:
أولًا: المسار
الروحي
حيث
تتدفّق الدلالات في صور نورانية متصاعدة، تنقل المتلقي من عالم الحسّ إلى عالم
المعنى. القارئ هنا يشارك النص تجربة الكشف، فيستشعر فيضًا يملأ المسافات بين
الكلمات.
ثانيًا:
المسار الجمالي
الإيقاع
الهادئ، المحسوب، والنبرة الموشحية تمنح النص موسيقى خفيّة تُعبّر عن روح المناسبة.
الصور تتوالد على شكل طبقات، ما يخلق لدى المتلقي إحساسًا بامتداد الرؤية وعمقها.
التلقي
هنا ليس محايدًا؛فالنص يدعو القارئ إلى الدخول في مقام التذوق الروحي، لا مجرد
القراءة. إنه نصّ يكتمل بجمهوره كما يكتمل بأصالته.
وارتكازا
على ما سبق يمكن القول أن:
التصوف
عن الشاعرة أحلام الحسن مرتبط بالحدث كإلقاء للمعنى الروحاني في العقل الجمعي للمتلقي
لا بوصفه زينة لغوية وحسب، مع عدم إهمال الشاعرية في البنية المعمارية للموشح.
يوفق
هذا الموشح بين الحدث الديني (ولادة الزهراء) وبين شاعرية المعنى عبر بناء مشهديّ
صوفي يجعل من المحبة والولاء جماليات روحية تتجاوز المدح التقليدي.
إنه نصّ
لا يكتفي بالإشادة، بل يعيد تشكيل الحدث عبر طبقات من الرموز التي تدفع المتلقي
إلى التأويل، وإلى استشعار حضور الزهراء عليها السلام بوصفها نورًا يتسرب إلى
الداخل.
وبهذا
يتحول التصوف في النص إلى "إلهام" حقيقي، لا يُقدَّم كعرفٍ بل كدهشةٍ،
ولا يُكتب بوصفه سردًا بل بوصفه كشفًا، فتغدو القصيدة جسدًا نورانيًا تتفاعل فيه
المعاني مع الوجدان، وتلتقي فيه الروح بالشعر عند نقطة واحدة: الجمال الذي يهدي
ولا يبهت والمعنى الذي يبث الجمال في النفوس عبر حمولات أيدولوجية تعمق الهدف من
كتابة الشعر .
شكرا
جزيلا للأديبة اللشاعرة القديرة المبدعة الراسخة المثقفة الدكتورة أحلام الحسن على
هذا الجهد المقدر.
**************
د.سيد
فاروق
النص
موشح
مستحدث "
مباركٌ
عليكم ذكرى ولادة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليهم صلوات
الله وسلامه
" سيدة
نساء العالمين "
وُلدَ
البدرُ وقد شقّ السّما
قمرٌ
مِن مِثلِهِ وجهًا حَضَرْ
يا
ودادًا في فؤادي حُكّما
يعرفُ
الخطوَ وما منهُ صدرْ
لم يدع
في مهجتي إلّا الهوَى.
كوثرٌ
من حبّهِا نورًا ظَهَر
عَذبُ
فيضٍ لفؤادي فارتوَى
لم يغب
فرضُ الهوَى لا لم يدر
من
ودادٍ فاطميّ المُستوَى
ساكنًا
في أضلعي ما يومَ فَر
ءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءء
كم
كساني الحُسنُ فيهِ نسقا
بامتحانٍ
جُلّهُ لا يُستهنْ
لستُ
أُحصي في هَوَاهم ألقا
من
بهاءٍ عاذلي قد يُفتَتَن
صَبَّ
غيثُ الحُبّ ِ فينا عَبَقَا
مُمطرًا
في غيثِهِ هذا الوطنْ
كم
مشينا في هواكم طُرقَا
كم بدا
فيها التّرابُ مُمتَحَنْ
من
يحيدُ عن رُباهم صُعِقَا
في
حميمٍ أو هلاكٍ قد رَكَن
ءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءء
إن
تُرفرف بنتُ طاها أشرُعي
يَستَبقْها
كُلُّ ما بي يَستَجِب
مُلّكَ
العشقُ المُصفّى أضلعي
من
إلٰهٍ أمرُهُ كم نَحتَسِبْ
في
ولائي إنّني لا أدّعِي
فزمانُ
الضّيمِ فينا كم يَهِب
فخُذي
منّي ولائي واصنعي
لي
رداءً علّني لا أحتَطِبْ
أنقذي
عُمري وزُوري مَرتَعِي
والمَسِي
اللحدَ لكي لا يضطربْ
ءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءء
لامني
النّاسُ ولاموا أجفني
رغمَ
علمٍ بالوَلاءِ اﻷنفَسِ
ذا
غرامي فاكتُبِيهِ دوّني
عَهدَ
عمرٍ مِن رضاكم يَكتَسي
زيّني
زهراءُ عُرسي زيّني
ببياضٍ
نُورُهُ في مَلبَسِي
واغمريني
في بهاءِ المَسكنِ
واملئي
لي كأسَ خيرٍ أحتسي
أمدِدِيني
واشفعي لي إنّني
بين
خوفٍ وانتِظارِ المُفلسِ
شعر /أ.د.
أحلام الحسن
==================ا

0 comments:
إرسال تعليق