بدا الموقف لأول وهلة مثيرا للتعجب ، بولندا تتهم روسيا ، وأمريكا تبرئ موسكو ، وتتبنى وجهة نظرها فى حادث سقوط صاروخين على أراضى بولندا العضو فى حلف شمال الأطلنطى "الناتو" ، أثارت معه بولندا ضجة هائلة ، واتهمت روسيا بإطلاق الصاروخين عمدا ، وطلبت من حلف "الناتو" التنسيق والتشاور فى الرد العسكرى ، ونفت موسكو القصة من جهتها ، واعتبرت الاتهام البولندى "استفزازا متعمدا" ، واكتفت وزارة الدفاع الروسية بعبارات نفى قصيرة حاسمة ، بينما ذهبت مصادر "الكرملين" إلى ماهو أبعد ، وقالت أن الصاروخين أوكرانيان من طراز "إس ـ 300" السوفيتى الذى تستخدمه أوكرانيا ، وكانت المفارقة الملفتة ، أن الدوائر الأمريكية المعنية أيدت الأقوال الروسية ، وقال الرئيس الأمريكى "بايدن" فى تعقيبه الأول ، أن الصاروخين لم تطلقهما روسيا "على الأرجح"، ثم جاءت إيضاحات لاحقة من مصادر أمريكية ، كشفت أن مصدر إطلاق الصارخين أوكرانى ، وأنهما أطلقا من قاعدة أوكرانية فى مدينة "لفيف" غربى أوكرانيا الملاصق لبولندا ، وأنهما فعلا من طراز "إس ـ 300" ، كما قال الروس بالضبط ، فما كان من بولندا إلا أن ابتلعت لسانها ، وخرست أصوات اتهام روسيا (!) .
وفى ظروف سبقت ، لم تكن من عادة الإدارات الأمريكية
تحرى الحقيقة والإنصاف ، بل سعت دوما لترويج تلال الأكاذيب ، وكلنا يذكر ما جرى فى
التمهيد لغزو العراق ، ونشر واشنطن لادعاءات مفضوحة عن أسلحة دمار شامل فى العراق ،
ثم اعترفت بعد الغزو بأنها لم تجد شيئا مما زعمت ، وكانت القصة كلها ذريعة مفبركة ،
لكن اللعب مع روسيا غير التلاعب فى العراق ، ونشر مزاعم عن هجوم صاروخى روسى على بولندا
، لن تكون عواقبه أقل من توريط واشنطن فى حرب معلنة رسميا مع موسكو ، قد تتطور إلى
صدام نووى مهلك ، فالمادة (5) من ميثاق "الناتو" ، تلزم أمريكا بالدفاع الحربى
عن كل شبر من أراضى الدول المنضمة للحلف ، وقالت واشنطن أنها ستذهب إلى الحرب ردا على
أى طلقة رصاص روسية ضد دول "الناتو" ، وهو ما أرادت واشنطن تجنبه بالنفى
السريع المتطابق مع النفى الروسى ، وفى نفس التوقيت تقريبا ، الذى انتهت فيه أعمال
اجتماع قمة العشرين فى جزيرة "بالى" الأندونيسية ، وصدر بيانها الختامى خلوا
من الإدانة الصريحة لروسيا بالاسم فى حرب أوكرانيا ، واكتفى البيان بإشارة إلى إدانة
بعض الدول لحرب أوكرانيا ، ثم أشار إلى وجود وجهات نظر مختلفة فى الموضوع الأوكرانى
، وبدا فى الأمر محاولة أمريكية لتجنب صدام أوسع مع روسيا ، وبالذات مع ثقل حضور الصين
، التى رفضت بحزم أى إدانة لحليفها الروسى الحاضر فى القمة ذاتها ، ووصفه وزير الخارجية
الصينى بأنه "قوة عظمى" ، ولم تجد أمريكا مخرجا سوى أن تستجيب على نحو ملموس
للضغط الصينى ولحلفائه فى قمة العشرين الأكبر اقتصادا ، خصوصا بعد قمة جمعت "بايدن"
مع الرئيس الصينى "شى جين بينج" ، حرصت فيها بكين على تأكيد حقها القومى
فى ضم "تايوان" سلما أو حربا ، وفيما بدا موقف الصين أكثر قوة وتوازنا ،
لم تجد الأطراف الغربية المشاركة من فرصة مفتوحة ، تتجاوز "الإعراب عن الأسى"
بسبب الهجوم الصاروخى الروسى الأوسع على أغلب المدن الأوكرانية ، وتدمير قواعد ومحطات
طاقة ، أدت لسيادة الظلام فى نصف أوكرانيا ، بينما بدا الرئيس الأوكرانى "فولوديمير
زيلينسكى" فى وضع المحاصر ، وهو يخاطب قمة العشرين عبر فيديو مسجل مسبقا ، يرفض
فيه ما أسماه "مينسك ـ 3" ، فى إشارة مفهومة لاتصالات روسية أمريكية متلاحقة
فى الأسابيع الأخيرة ، جرى أحدثها فى "أنقرة" التركية عشية اجتماع قمة العشرين
بلقاء مديرى المخابرات الأمريكى والروسى ، وبمبادرة من واشنطن ، التى تقول أنها تريد
إبقاء قنوات الاتصال مع موسكو مفتوحة ، وبهدف خفض التوتر النووى ، وإجراء مفاوضات استطلاع
لتجديد اتفاقات "ستارت" والعودة لتفتيش نووى متبادل بين الطرفين ، سبق أن
أوقفته موسكو ، التى تريد تضمين الموضوع الأوكرانى فى الاتصالات الروسية الأمريكية
الجارية ، وقد شملت عمليا أغلب المسئولين المعنيين فى البلدين ، من مجالس الأمن القومى
إلى وزراء الدفاع والخارجية ، وجرت وتجرى فى الكواليس الهاتفية ، أو فى عواصم شرق أوسطية
وعربية مستعدة للاستضافة بحماس ، ولها مصالحها الذاتية فى وقف حرب أوكرانيا ، وهو ما
تبدو واشنطن أقرب للتجاوب معه ، ومن دون التمسك بالضرورة بمطالب الرئيس الأوكرانى ،
ولا اشتراط الانسحاب الروسى المسبق من كل الأراضى الأوكرانية ، وهو ما ترفضه موسكو
طبعا ، وتصر على تنفيذ قرارها بضم الأقاليم الأربعة (دونيتسك ولوجانسك وزاباروجيا وخيرسون)
إلى أراضيها ، إضافة لإقليم شبه جزيرة "القرم" وميناء "سيفاستوبول"
المنضمين لروسيا منذ عام 2014 ، وهو ما يطلق عليه فى الكواليس الاسم الكودى "مينسك
ـ 3" ، فى إشارة إلى سوابق اتفاقيتى "مينسك ـ 1" و"مينسك ـ2"
، التى نصت على منح حكم ذاتى موسع لإقليمى الدونباس "دونيتسك" و"لوجانسك" ، وهو
ما أخلت به أوكرانيا ، وأعادت ضم أراضى واسعة من إقليمى الغالبية الروسية ، وكان ذلك
سببا معلنا فى شن روسيا لعمليتها العسكرية الخاصة قبل نحو تسعة شهور ، وانغماس الغرب
كله فى حرب ذات طابع عالمى على الأراضى الأوكرانية ، ومن وراء قناع جيش أوكرانى ، تبدل
جلده وسلاحه مرات ، بأكثف حملة تدفق سلاح متطور إلى الميدان الأوكرانى ، قادتها واشنطن
بتكلفة عشرات المليارات من الدولارات ، ومن دون نجاح نهائى فى "إضعاف روسيا"
وإلحاق الهزيمة بها ، برغم آلاف مؤلفة من عقوبات إقتصادية ومالية غربية ضد موسكو ،
ردت عليها الأخيرة ، بخفض إمدادات الغاز الروسى إلى أوروبا ، الذى لم تفلح أمريكا فى
تعويضه ، وفرضت أسعارا فلكية مضاعفة بأربع
مرات على الأقل ، تؤدى إلى خنق اقتصادات أوروبا الكبرى ، التى يشعر قادتها اليوم بأنهم
الضحية الأولى لما جرى ويجرى ، ولم يعودوا متحمسين لدفع تكاليف استمرار الصراع فى أوكرانيا
، ويتطلعون لوقف الحرب اليوم قبل الغد .
وبالجملة ، تبدو إدارة بايدن محشورة فى الزاوية
الحرجة ، وهى تلمس تململ الحلفاء والأتباع فى أوروبا وغيرها ، وتبحث هى الأخرى عن طريقة
لوقف الحرب وحفظ ماء الوجه ، ودفع "زيلينسكى" إلى التفاوض مع موسكو ، ومن
دون أى اشتراط مسبق ، بينما يصرخ الرئيس الأوكرانى ، ويطلب مزيدا من السلاح الأمريكى
والغربى ، ويسعى إلى توريط الجيش الأمريكى مباشرة فى الحرب ضد روسيا ، وهو ما يقابل
على ما يبدو بغضب أمريكى مكتوم ، خاصة مع كشف واشنطن للهوية الأوكرانية للصاروخين الساقطين
بالأراضى البولندية ، وهو على الأرجح عمل متعمد وليس خطأ عفويا ، وهدفه الزج بأمريكا
رسميا فى الحرب مع روسيا ، وهو حدث قد يكون له ما بعده ، فقد تواترت قبله تصريحات علنية
لمسئولين أمريكيين كبار ، دعا بعضها أوكرانيا للكف عن المطالبة باسترداد شبه جزيرة
"القرم" ، فيما طرح آخرون ، من وزن الجنرال "مارك ميلى" رئيس أركان
الجيوش الأمريكية سيناريوهات أثارت سخط "زيلينسكى" وصحبه ، من نوع احتمال
تجمد الموقف العسكرى مع دخول فصل الشتاء ، ودعوة أوكرانيا لاغتنام الفرصة ، ولتفاوض
مع روسيا تخشاه "كييف" ، وبالذات بعد إعلان الرئيس الأمريكى "بايدن"
رفضه لإرسال مقاتلات أمريكية إلى أوكرانيا ، وبدعوى تجنب حرب مباشرة شاملة مع روسيا
، وبقدر ما يثيره التراجع الأمريكى النسبى من أحوال ذعر فى "كييف" ، فإنه
قد يبعث على ارتياح ضمنى فى موسكو ، التى تبدو خططها للأيام المقبلة ظاهرة ، فهى تعيد
تنظيم قواتها فى أوكرانيا ، واستجلاب المدد من قوات "التعبئة الجزئية" ،
وتبنى خطوط دفاع أقوى ، وتستعد لحملة تصعيد أخيرة كاسحة فى الشتاء ، تريد بها اعتصار
ما تبقى من حيوية أوكرانيا ، والتركيز على قصف محطات الطاقة ، ودفع الأوكران إلى التجمد
والموت بردا ، وتشتيت انتباه القوات الأوكرانية ، وقطع خطوط إمدادها ، وقضم الأراضى
المتبقية خارج سيطرتها فى إقليمى "الدونباس" ، مع الدفاع المستميت عن مواقع
سيطرتها فى مقاطعتى "زاباروجيا" و"خيرسون" ، التى أجرت القوات
الروسية انسحابا منظما من قطاعها الغربى (غرب نهر دنيبرو) ، وهو يشكل نحو ثلث إجمالى
مساحة مقاطعة "خيرسون" ، فيما لا تبدى القوات الروسية أولوية وحرصا على ضم
ما تبقى من مقاطعة "زاباروجيا" ، ربما عملا بمقتضى قرار الضم الصادر عن
"الدوما" و"مجلس الاتحاد" الروسيين ، الذى لا يشترط الوصول إلى
الحدود الإدارية الكاملة للمقاطعتين ، فالانسحاب الروسى فى "خيرسون" ، لم
يأت لمجرد اعتبارات عسكرية ، بل له على الأغلب معنى سياسى ، قد يكون متفقا عليه ضمنا
مع الجانب الأمريكى ، وبهدف رسم حدود الضم عند شرق نهر "دنيبرو" ، وجعل المانع
المائى الطبيعى فاصلا سياسيا مستديما .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق