إلى الشاعر " حسين جبار محمد
"
(تذكر يا صديقي أن الصمت لا خطر منه، وانه
براءة وجمال)
الروائي الروسي
"فيودور دوستويفسكي"
ندوبُ الصمت
يتركُ فينا الصمتُ ندوبٌ
جُرحٌ يمتدُّ قريباً
جنْبَ الروحِ دبيبٌ
تسألُكَ الروحُ
أينَ مغاورُ هذا الحرف
في أيِّ شموسٍ يخبو
يتركُ فينا اللغوُ غيوبٌ
أيُّ مضاربَ لتلاسنِ هذا الحرف
أيُّ لسانٍ يكبو
أيُّ سيوفٍ بين شفاهٍ تربو
أو أيُّ خيولٍ بميادينِ السبقِ تذوبُ
هذا الصمتُ المائلُ للغيبِ دروبٌ
ماسرنا فيها عجباً
ماتمنا بمزالقها
إلا أنَّ الجُرحَ لها فوتٌ
والنزفُ لها عوَقٌ
هذا الحرفُ عيوب..
الشاعر إنسان لا يعبر عن أفكاره وهواجسه
بشكل مباشر، بل هو يتمثلها، فتصبح جزءاً منه لا تنفصل عن كينونته، وعن رؤاه ومواقفه
وأحاسيسه. والشعر كينونة الإنسان، ومسعى سايكولوجي وروحي، سواء كان هذا الإنسان شاعراً
أم متلقياً، فهو قيمة فنية وجمالية، وعالم رحب من العواطف الإنسانية.
إن اللغة الشعرية المعاصرة ذخيرة الشعر
والمعبرة عنه، فهي على حد قول "أدونيس" (وسيلة للغوص في أعماق النفس الإنسانية،
للكشف عما يختلج نفسية الشاعر من أحاسيس مختلفة).
وحينما نتكلم عن اللغة نقصد خصائصها الفنية،
لأن لغة الشعر متميزة وذات خصوصية، لأنها لغة إيحاءات، فهي هوية النص الشعري التي تعطيه
الخصوصية، تعتمد الأختزال اللغوي، والإيجاز والأستعارة والخيال والرمزية، أضافة إلى
أنها تميل للإنزياح عن المألوف والغموض والأبتعاد عن المباشر.
عتبة النص:
لقد تعددت مفاهيم العنوان كونه (أداة إجرائية)
أو (ضرورة كتابية) أو (بؤرة النص) أو (مفتاح دلالي) أو (بنية صغرى) أو (لامة لسانية)
تختزن مكونات النص وتكشف جمالياته وإغوائه للمتلقي بضرورة الولوج إلى داخل النص. فالعنوان
كما يراه "رولان بارت" عبارة عن (أنظمة دلالية سيميولوجية)، تعمل على تفكيك
النص، بوصفه بنية نصية مستقلة. وعنوان النص"ندوب الصمت" كدلالة لغوي وشعرية
وعنوان سيميائي، نجد الشاعر أتخذه عنواناً
للمجموعته الشعرية ككل، حتى يكون هناك تمهيد دلالي يتمركز في ذهن المتلقي أثناء
عملية القراءة. فلا يمكن قراءة العنوان بعيداً عن النص، فنحن نحتاج حتى نفهم العنوان
ينبغي أن نفهم النص، الذي يشكل نقطة أنطلاق إلى النص وفهمه، من خلاله جس نبض النص،
ومعرفت أغراضه الرمزية والإيحائية والفنية والجمالية، ويمكن تحديد هذا الفهم في ضوء
العلاقة التبادلية بين العنوان والنص والقارئ.
عندما وضع الشاعر العنوان "ندوب الصمت"،
تجاوز اللغة المعيارية إلى لغة منزاحة، فهو عنوان أرتدادي مكتنز المعنى والدلالة خرج
من مكونات النص الأساسية، قد يكون أكثر عناوين المجموعة الشعرية للشاعر " حسين
جبار محمد " التي حملت عنوان النص ذاته "ندوب الصمت" أقتصاداً لغوياً،
فقد أختصر بكلمتين فقط هما "ندوب الصمت"، حتى يُثير في مخيلة القارئ الكثير
من التأويلات والدلالات، وفهم عوالم النص كموجه دلالي في ذهن المتلقي، والذي يتعدد
ويتشظى بحسب أبعاد النص.
جاءت البنية التركيبية للعنوان "ندوب
الصمت" بصيغة(مضاف ومضاف إليه)، التي تعني لغةً: ( الإمالة والإلصاق والإسناد)،
فتشكل الإضافة فيه بنية نحوية متكاملة، إذ إن (المضاف والمضاف إليه وإن كانا كلمتين
في التحليل اللغُّوي، وفي الشكل، إلا أنهما يعبران عن معنى واحد، وهما بمثابة كلمة
واحدة)، سناء حميد البياتي، قواعد النحو العربي في ضوء نظرية النظم، ص133.
فالعنوان قائم على التنسيق اللغوي،
الذي يبدو في ذروة الإنزياح في التشكيل
اللغوي، بين المضاف والمضاف إليه، وهذا يبدو واضحاً من بنية الإضافة، في إسناد (الندوب)
إلى (الصمت). ف"الندوب" نكرة دلالتها مفتوحة على أحتمالات متعددة، ولكن أي
ندوب يقصد الشاعر التي ترك الصمت أثرها على جدران الروح، والذي لا يمكن لغير الشاعر
أن يدركها. هل إن ثيمة الصمت تحولت الى معيار لأدانة الذات أم الدفاع عنها؟.
قراءة النص:
خص الشاعر "حسين جبار محمد" نصه
بعنوان، ذات بنية لغوية لها مقاصدها الدلالية، يختزل بها رؤياه بما يخدم فكره وحالته
النفسية، فقدم نصه الشعري "ندوب الصمت" وهو مشبع بالمعنى الفلسفي في إطار
سيميائي كثيف الدلالة، تظهر فيه رؤية ذات نزعة وجودية عميقة، من خلال ثيمة (الصمت)
التي تتضمن معنى فلسفياً وجودياً بأطار جمالي شعري، مع تداخل الدلالات الشعرية فيه،
وأستخدام لغة غير مباشرة كأداة لأضاءة المعانى والصور في النص.
الصمت هو ذات الشاعر التي ترى ندوبها المؤلمة
في مرآة عاكسة للروح ومعاناتها، فيتحول الصمت بندوبه الى صمتاً حسياً، فهو -الشاعر-
يحاور ذاته ويرمم أنكساراتها.
فالنص يعكس واقع مأزوم، يحمل في طياته الكثير
من الأسئلة التي تأخذ حيزاً دلالياً في إشكالية الصمت، بالرغم من أن لغة الصمت عند
الشاعر تضج بالكلام، للتعبير عن أفكاره التي يريد البوح بها. فيكون الصمت معادل موضوعي
لحوار مستعر مع الذات.
فالصمت في النص قضية إشكالية، وهي إن الشاعر
لا يستهويه عالم الصمت، الذي هو تأمل عميق للذات وبواطنها، والمرآة التي تكون أكثر
وضوحاً للنفس، وحل لموجة الغضب وتهدئة العقل، و(الصديق الوحيد الذي لا يخونك أبداً)
كما يقول "كونفوشيوس"، في حين يصفه الشاعر:
(يتركُ فينا الصمتُ ندوبٌ
جُرحٌ يمتدُّ قريباً
نحن نلاحظ في جمل النص الشعرية تنوع الصياغات
الشعرية، استخدم الشاعر في نصه كلمات ذات كثافة دلالية عميقة تخدم فكرة النص. وهذا
التنوع يدل على أن ثيمة الصمت تتضمن معان فلسفية، لأزمات إنسانية وجودية، تقفز إلى
الذهن، يمكن الأستدلال عليها من خلال(خلق مساحات واسعة من الإنزياحات العميقة في ذهنية
المتلقي).
(أينَ مغاورُ هذا الحرف
في أيِّ شموسٍ يخبو
يتركُ فينا اللغوُ غيوبٌ
أيُّ مضاربَ لتلاسنِ هذا الحرف
أيُّ لسانٍ يكبو
أيُّ سيوفٍ بين شفاهٍ تربو
أو أيُّ خيولٍ بميادينِ السبقِ تذوبُ)
يتساءل الشاعر عن كينونته، من خلال جملة
من التساؤلات الوجودية التي تثير فيه شحنات وجدانية تتفاعل عبر الألم والأنفعال، تدعوه
إلى فهم أعمق للواقع.
0 comments:
إرسال تعليق