• اخر الاخبار

    الأحد، 20 نوفمبر 2022

    أ.د. صبري أبو حسين يكتب عن : تكريم فاقدي البصر في ظلال الإسلام

     

     


    هذا العنوان له أهميَّة كبرى وقيمة عظمى في حياة الناس؛ إذ لا تجد مدينة أو قرية إلا وفيها عددٌ من فاقدي البصر، وهؤلاء يحتاجون إلى ما يغرس في نفوسهم الأمل ويدفعهم إلى الإقدام على الحياة بنفس هادئة راضية مطمئنة، كما يحتاجون إلى معرفة أحكام دِينهم ومتطلبات دُنياهم في جميع شُؤونهم العامة والخاصة.

    ولا ريب في أن الإسلام دين التيسير والتخفيف، وأنه دين الرحمة العامة الشاملة، الرحمة للعالمين أجمعين: صحيحهم ومريضهم، قويهم وضعيفهم، سليمهم ومعوقهم، وأن نظرة الإسلام إلى الناس نظرة معتدلة سواء، كلهم كأسنان المشط، وكلهم أبناء آدم، عليه السلام، وكلهم إخوة، فلا تمييز ولا عنصرية ولا استكبار أو استعلاء من مخلوق على مخلوق، ولا تجاهل لمخلوق، ولا إقصاء لمخلوق، للكل الحق في الحياة الكريمة الطيبة، وللكل نصيب فيها، فالإسلام يحرص على تحقيق المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات والتوازن بينها، بعدل وفضل وإنصاف، قال الله تعالى:  ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات ١٣]، وقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-:(ايها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)؛ فالتقوى هي معيار التفاضل بين البشر! وهي مناط التكريم والتميز.

    وبهذه الرؤية الإيجابية عاشت الحضارة الإسلامية النبيلة الراقية الصافية الشافية الوافية الواقية، تلك الحضارة التي تجمع ولا تفرق، وتعين ولا تهين، وتعمر ولا تخرب، وتستوعب ولا تقصي، وتستثمر في البشر ولا تفرط فيهم، ولا تراهم عالة أو عبئا أو ثقلا أو معوقا...

    وقد جاء في السنة النبوية الشريفة تبشيرا لهؤلاء الذين ابتلاهم الله بفقد البصر، فقد روى الإمام البخاري عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه- قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه يقولُ: إنَّ اللَّه - عز وجل- قَالَ:"إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ يُريدُ عينيْه"..

     كما أنَّه ينبغي أنْ يُوضَع في حسبان الجميع أنَّ الله - سبحانه وتعالى - تفضَّلَ بنعمة الذكاء وتوقُّد البصيرة غالبًا على المكفوفين بأكثر من غيرهم، وصَدَقَ الله حيث يقول: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]؛ فأعمى البصيرة والروح والعقل فقط هو المعوق، أما من فقد بصره وسمت بصيرته وارتقت وتعمقت وأفادت الحياة والأحياء فهو عنصر بشري بناء فاعل مؤثر ، يحرص عليه ويكرم ويفضل ويقدم على الآخرين، ما دام فضلهم وسبقهم وارتقى عليهم.

    وأكبر دليل على ذلك شخصية الصحابي الجليل عبدالله ابن أم مكتوم القرشي الضرير- رضي الله عنه- ذلكم  الذي كان مؤذن نبي الإسلام محمد- صلى الله عليه وسلم-هو وبلال بن رباح،رضي الله عنهما، و كان بلال يؤذن للصلاة مرة وهو يقيم لها والعكس. وقال الرسول محمد: «إن بلالًا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»، وكان رسولنا الخاتم-صلى الله عليه وسلم-يستخلفه على المدينة المنورة في غزواته فيصلي بالناس ويرعى شؤونهم، وقد استخلفه ثلاث عشرة مرة في الأبواء وبواط وذي العشيرة، وغزوته في طلب كرز بن جابر، وغزوة السويق، وغطفان، وفي غزوة أحد، وحمراء الأسد، ونجران، وذات الرقاع، وفي خروجه إلى حجة الوداع، وفي خروجه إلى بدر.

    وكان هذا الصحابي الضرير من أول من هاجر إلى المدينة بعد مصعب بن عمير؛ فرارًا بدينهم، بعد أن اشتد أذى قريش على المسلمين، فكان هو ومصعب أول من قدم إلى المدينة من المهاجرين. وكان يتمنى الجهاد غير أن فقدانه للبصر كان يمنعه من ذلك ثم تحقق له ما يطلبه في معركة القادسية التي حدثت على أرض الفرس سنة 15 هـ في عهد عمر بن الخطاب وكان عبد الله حامل لواء المسلمين فيها وسقط فيمن سقط من الشهداء على أرض المعركة.

    وقد نزلت سورة عبس فيه؛ حيث روى الترمذي في جامعه ومالك بن أنسٍ في موطئه وغيرهما من حديث عائشة أن الوليد بن المغيرة وقف مع الرسول-صلى الله عليه وسلم-وهو يكلمه وقد طمع في إسلامه، فبينما هو في ذلك إذ مر به ابن أم مكتوم الأعمى، فكلم الرسول وجعل يَسْتَقْرِئُهُ القرآن فشق ذلك منه على النبي حتى أضجره وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه فلما أكثر عليه انصرف عنه عابساً، وتركه فأنزل الله فيه: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى.... إلى قوله:(فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) أي إما بعثتك بشيرًا ونذيرًا، ولم أَخص بك أحدًا دون الأخر، فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصدى به لمن لا يريده. فبعد هذا الموقف كان يستقبله الرسول قائلا: أهلا بمن عاتبني فيه ربي. ففي قصة هذا الصحابي الجليل  الضرير تكريم من الله عز وجل، واستثمار من رسولنا- صلى الله عليه وسلم- لقدراته الإعلامية في شعيرة الأذان، ولقدراته الشخصية  في إدراته عاصمة الدولة خليفة للقائد الأعلى صلى الله عليه وسلم.

    وأجلى مظهر لشريعة الإسلام وحضارته في هذا البعد الإنساني يتمثل في الموقف من إخواننا المعوقين عامة، والمبتلين بالعمى خاصة؛ فقد خفف الله - عز وجل- عن الأعمى كل تخفيف، وراع  حالته المرضية تلك، فجاء النص الصريح في رفع الحرج والمشقة عنه في التكاليف. حيث يقول الله - تعالى -: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [النور: 61]. ويقول:﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 17]، فظاهر من هذا أنَّ فريضة الجِهاد لا تجبُ على الأعمى؛ وأنَّ الله- تعالى- قد عذَرَه بنصِّ القرآن.

    لقد تعاملت الشريعة الإسلامية مع الأعمى على أنه شخص كامل الأهلية، ولدَيْه من الحواس الأخرى ما يستطيع به معرفة ما يسير به في الحياة سيرا طيبا منظما فاعلا معمرا.

    وفي مدونة الفقه الإسلامي، على مستوى مذاهبه التسعة، ما يدل على حرص الفقهاء على إدماج الأعمى وتوظيفه واستثمار حركته في الحياة، ففي بحث متخصص بعنوان(أحكام الأعمى في الفقه الإسلامي) للباحث [محمد عمر صغير شماع] وردت الأحكام الفقهية الراسخة السامية الراقية الثابتة بالأدلة فيما يخص عبادات الأعمى ومعاملاته، وفيها دلالة على حرص فقهاء المسلمين على مراعاة حالة العميان في التعامل الحياة والأحياء،  ومنها الآتي:

    ١- القول بجواز أذان الأعمى ما إذا وجد معه مَن ينبِّهه بدُخول الوقت ويرشده؛ مثل أنْ يكون معه بصيرٌ يعرفه كبلالٍ مع ابن أمِّ مكتوم، أمَّا في وقتنا الحاضر فإنَّه يجوز أذان الأعمى بلا كراهةٍ مطلقًا، سواء كان معه مَن ينبه أم لا؛ حيث تعدَّدت الوسائل الحديثة وكثُرت، فما أنْ يحين وقت الصلاة حتى تسمع النداء من كلِّ مكان.

    ٢- أنَّ إمامة الأعمى جائزةٌ؛ جائزةٌ؛ لأنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - استخلَفَ ابن أم مكتوم يؤمُّ بالناس وهو أعمى، أمَّا قول الحنفية بالكراهة فالكراهة هنا هي كراهة تنزيهيَّة، وهذا قد حصل به جمعٌ بين الأدلَّة.

    ٣- أنَّ الوكالة من الأعمى جائرة؛ وذلك أنَّ الأعمى يحتاج إلى ضروريَّات الحياة من المأكل والمشرب، ولا يتمكَّن من شِرائها بنفسه، فله أنْ يوكل، وإذا مُنِعَ من التوكيل لكان عليه من الحرج والمشقة الشيء الكثير.

    ٤- أنَّ الأعمى يجوزُ أنْ يعهد له الإنسانٌ من بعده بوصيَّته للأعمى لرعاية مصالح أولاده؛ وذلك لأنَّ الأعمى رجلٌ تتوفَّر فيه جميع الشروط الخاصَّة بالوصيَّة، فلماذا يُمنَع؟

    ٥- أنَّ العمى ليس بقادحٍ في ولاية التزويج؛ لأنَّه لا يمنع من تحصيل المقصود بالبحث والسماع والاستقصاء.

    ٦- أنَّ شهادة الأعمى جائزةٌ متى تيقَّن الصوت وعرف صاحبه؛ لأنَّ طريقه السماع، والأعمى يستطيع أنْ يضبط الشهادة ويُؤدِّيها كما يُؤدِّيها البصير.

    أنَّه لو لم تُقبَل شهادةُ الأعمى في بعض الأمور لأدَّى ذلك لضَياع كثيرٍ من الحقوق، ولربما لا يوجد سِواه، وهذا مخالفٌ لسماحة الشريعة وسعتها ووسطيتها.

    ٧-أن بيع الأعمى وشِراءَه صحيحٌ فيما لا يحتاج إلى الرؤية؛ لأنَّه إذا منع الأعلى من البيع والشراء لنفسه لَترتَّبَ عليه حَرَجٌ ومشقَّة شديدة تتنافَى وروح التشريع الإسلامي الذي جاء للتيسير على المكلَّفين.

    ٨- أنَّ إجارة الأعمى واستئجاره صحيحة، ما عدا ما يحتاج إلى رؤيةٍ فلا يصحُّ استئجاره.

    ٩- كما وضع الإمام أبو حنيفة تشريعاً يقضي بأن بيت مال المسلمين مسئول عن النفقة على المعوقين....فما أجمله من تشريع وما أجملها من فتوى! حيث تقف الشريعة الإسلامية بجوار الضعيف وقفة حضارية واقتصادية مسؤولة ومنضبطة.

    وبمثل هذه الرؤى الشرعية المنفتحة استطاع كثير من المبتلين بفقدان البصر أن يثبتوا حضورهم في تاريخ الإسلام والمسلمين، من أبرزهم من الصحابة حسان بن ثابت وكعب بن مالك والبراء بن عازب وغيرهم رضي الله عنهم، ومن الأدباء بشار بن برد وأبو العلاء المعري، والدكتور طه حسين عميد الأديب العربي، والشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني والشاعر المصري الكبير الصاوي شعلان، ...وغيرهم من المكفوفين العظماء النجباء الذين أثروا حياتنا بكل جميل نبيل، وجديد مفيد.

    نسأل الله أن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحيانا وأن يجعله الوارث منا. وأن يلهم المبتلين بفقد  البصر الصبر والسلوان وأن يعينهم على الحياة وأن يبارك في بقية حواسهم.

     

     

     

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: أ.د. صبري أبو حسين يكتب عن : تكريم فاقدي البصر في ظلال الإسلام Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top