منذ الوهلة الأولى، تداهمنا تساؤلات ابتداءً من العنوان "نهر الرمان". والنهرُ مرتبطٌ بالماء الذي يسيل به، وقد يتبادر الى الذهن ذلك اللون المرتبط بالدم أو بسلسلة حوادث جارية مركزها الحيرة والتساؤل والإبحار في عمق المجهول، ضمن تسلسلات حوارية بدت بعضها مربكة للقاريء حيث محاولة لملمة تشابكات السرد من أجل الوصول لما يقصدة الكاتب.
ألموت أو توقع الموت الذي يصبح مألوفًا لنا منذ
الصفحة أو ربما الأسطر الأولى " لا تجرؤ، الليلة، على اجتياز حواجز الأسئلة التي
دوت مثل انفجار عبوة، وسط ضجيج الراكضين...ص 7 السطر الأول"، وعند الانتقال الى
أخر صفحة "ما الموت؟ ولماذا يتحتم علينا ان نمارس لعبته طوال حياتنا؟ ص 155 آخر
سطر في الرواية".
وعليه فلابد لنا من القبول ،شئنا أم أبينا، بطريقة
سرد الرواية التي تحتاج للتأني في القراءة في بعض مفاصلها ، حيث حاول ،شوقي كريم، عنونة
أبوابها حسب الثيمة لكل باب، وقد حاول قدر الإمكان الحفاظ على هذا النهج. وقد بدت بعض العناوين مطابقة تمامًا. في البوابة
الأولى " أما الطائر الحبيس فأنّا له أن يميز بين القفص والهواء وهو يظن، مِن
ضعفه، أنه في الأصل بلا جناحين. إبن الرومي ص7 ". وعليه نرى جهدًا استثنائيًا
في حصر الباب الأول في هذا المنحى. " تظل روحك تنفش ريش انهيارها.. وهي تقاوم
الوجع الذي صار مستحيلًا...كل ما عليك فعله، رفعُ راياتِ قبولِكَ واستسلامِك... إنزع
أَرديةَ غروركَ وتكفَّن بالقبول..." وبالتأكيد من يقبل بتقييد الحرية ومسح رأيه
لابد أَن يعتادَ على حالته، ونرى هنا محاولة مساعدتنا في التوغلِ نحو أعماقنا، لرفض
حالةِ صَهرِ الفكرِ والقبولِ بالأمر الواقع، لكي لاتتحول الظاهرةُ إلى عُبوديةٍ أَبدية.
لكننا نجدُ البابَ الثاني ناقصًا لمصدرِ قائله،
والثالث أُغنيةٌ قديمة. وقد جاء عنوان الباب الرابع بدون مصدرٍ أَيضًا "إنْ كنتَ
حَكيمًا، فأنتَ حكيمٌ لنَفْسِكَ وإن استهزأتَ فأنتَ وحدكَ تتحَمَّل". وقد أسعفتني
الذاكرة عندما كنت أدْرُس التوراة والأنجيل في دراسة مقارنه حيث وجدت النص في التوراة
old testament
سفر الأمثال 12:9 وفي بقيةِ الأبوابِ لا إشكالَ فيها حيث ذُكِرَ صاحب
النص.
وبين لحظاتِ الموتِ والحياة وحواراتِ القلبِ مع
الروح، لابد من استراحةٍ بدت وكأن الروائي "شوقي كريم" يعكس نفسه وبوضوح
He reveals himself.
"... ما أَرغبُ فيه، مكانٌ آمنٌ يمنحني الدفءَ والسكون والطمأنينة. أَحتاج إلى
طمْأنة نفسي وهدوء بالِها. ص 66). ونلاحظ أيضًا وبنفس الصفحة تساؤل إِستنكاري يُعرَف
جوابُهُ وقد جاء بمنتهى الروعة والصدق والموضوعية التي تعكس وبوضوح أفكار الكاتب."
كيف لواحدٍ مثلي يحملً إرثًا مِن الخراب أن يعيشَ آمنا؟... الحروب التي وشمت بوجودها
على جدران ذاكرتي بكل قبحها وغرورها وأكاذيبها...." وهكذا يستمر السردُ بسهولة
هذه المرة رافضًا لمنهج القتل والدمار الذي يصور لنا الحرب بأنها عرسٌ يتم الإحتفال
بعيد ميلاده كل سنة لتستمر أنهار الدم تسيل وبلا رحمة.
وعندما
نكون في وسط أنهار الدماء، يتحول كل شيء إلى تلك النهاية. ألموت. حتى الكلام المقبول
الذي تربينا عليه في مرحلة ما، يتحول إلى وهم" ...سيدي.. معلمنا يوهمنا أن الوطن
شيء جميل، ربما كان يَعرفُ أنَّ الوطنَ توابيتٌ وسواتِرٌ وبكاءُ ليلٍ حزين....ص
87"، ويأتي الجواب من أحد مستفيدي ومشعلي الحروب الذي لابد أن يصبح وقودًا في
النهاية " وِلَكْ أُسْكتْ تافِه، مِنْ أَينَ لكَ هذا الكلام الفاسد؟ عليك أن تموت
بشرف، نموت. نموت.. ويحيا الوطن.ص88" ويأتي الرد وبكل عفوية، سيدي إذا متنا ما
الذي يتبقى من الوطن؟ ص88 ". ويحاول الروائي "شوقي كريم" أَن يضعنا
في دائرة عاشها العراقيون كاشفًا وبانسيابية، إجراءات أّعوانِ السلطة ومحاولتهم جعلَ
المواطن مذنبًا ومرتدًا نحو أعماقه صغيرًا وذليلًا، ليغرسوا إحساسَ الخوفِ في أَعماقه
ويكون جبانًا لآخر يوم في حياته، حيث نجدُ الحوارَ وكأنه يعيدنا إلى رحلةٍ عاشها العراقيون
بكل تفاصيلها ".. أراك تناصب سلطاننا من خلال أفكارك العداء... هل قاتلتَ في الحرب
الأخيرة.. أَلديكَ شهداءٌ أَو مفقودون من أَهلكَ وهل تبرَّعتَ بالذهب لإتمام العربةِ
السلطانية....ص130؟"
ورغم محاولة الروائي "شوقي كريم" في
تعرية النظام، يبدو من غير المعقول للمسؤول الحزبي البعثي تسمية الحرب العراقية الإيرانية
"بالحرب الأخيرة". إن المتابع الفطن والذي عايش الحقبة التأريخية، يفهم ما
بين السطور وإنها أولُ حربٍ زَجَّ فيها البعثيون الشعب العراقي ولم يكن قبلها حرب.
إن تفاصيل الحوار قد عشناها وبتركيز خلال تلك الحرب. الحرب الثانية عند دخولنا الكويت
وما تلاها حيث حرب عاصفة الصحراء. وأَيضا وبرأيي المتواضع تبدو جملة "العربة السلطانية" غير واردة
لأن تبرير جمع المصوغات الذهبية الذي حدث خلال سني الحرب العراقية الإيرانية، هو لدعم
المعركة ومن غير المعقول أن يَزجَّ مسؤولًا بعثيًا نفسه في هكذا تسميات. وكلمة
"السلطانية" تهكمية وقد نُقِشتْ في ذاكرة الكاتب وذاكرتنا أيضًا. وفي كل
الأمور لابد أن تكون الرواية كما الشعر وبقية صنوف الأدب، دليلًا وشاهدًا توثيقيًا
للمرحلة.
ويبدو بوضوح محاولة تغليب العقل في الهيمنة على
السلوك الإنساني وكأنه يعطينا درسًا في التحدي للظلم رغم مخاطر النفي والقتل والزج
في الحروب" لا أنتمي للحزب ولا أعرف مسؤولًا
حكوميًا... لا أقرأ كتب السلطان....ص 130". وبالتأكيد ومن غير المنطقي أن تكون
جملة " أتقرأ كتب السلطان.." مقبولة، ويبدو أن ردة الفعل ما زالت في أذهاننا
أو ربما رفض الكاتب ومقته للشخصية الحقيقة جعلته لا يذكر الجملة بمقبولية تناسب مرحلة
الحوار ولتصبح" أتقرأ كتب الرفيق القائد صدام حسين...؟
لقد اتصفت الرواية بأسلوب سردي باهر ومتنوع، قد
تجعل المتلقي يراجع بعض مفاصل ما يقرأ أو تجعله يتسارع وقد يتوقع ما يقصده الكاتب سلفًا.
كل هذا في حوار طغت عليه الإفتراضية virtual dialogue في تجربة موت غريبة ضمن بناء
روائي لافت وعملية تخدير وغياب الوعي لثلاثة أيام حيث حوارات القلب والروح والجسدد
والتشبث بالحياة لدرجة التوسل وقد قادنا الحوار إلى تشظٍ في بعض الأحيان رغم محاولات
تجميعه وتركيزه ولملمته وبدت واضحة قدرة الكاتب على السيطرة على مفاصل السرد وبكل براعة
وفي بعد زمكاني بين الواقع وعدمه ضمن استرجاعات flash back محسوبة بعناية.
وقد بدت الأسماءٌ مألوفةً وهذا ما عرفناه في
معظم كتابات "شوقي كريم". ورغم امتلاك الطبيب والمخدرة مساحة واسعة من السرد،
إلا أن الروائي" شوقي كريم" منح أعضاء الجسد كالقلب والجسد والنفس والروح
كيانًا إفتراضيًا ضمن عملية أنسنة رائعة unique
personification
لدرجة أنه قرَّب العالم الإفتراضي إلى شبه واقعي خاصة تعامله مع تفاصيل
واقعية ينوه بها الكاتب متنقلًا بين معاناة فترات زمنية اقترنت بالموت وقد جاء هذا
الإقتران منسجمًا بفترة الأيام الثلاثة التي هو بين الحياة والموت.
الرواية بالمجمل مغامرة ليست سهلة عبّرَت عن إقتدار
لافت في إدارة الحوار وتفكيك تفاصيله التي قد تحتاج إلى قارىء نخبوي، ورغم ذلك بدت
مفاصل السرد وطريقته انسيابية وبدون تصنعُ وهذا يعكس مدى القدرة على إدارة الأسلوب
السردي الذي عودنا عليه الروائي شوقي كريم في كتاباته.
...............................
**تموز 2022
0 comments:
إرسال تعليق