أنا
رجل
متردد جدا
لأني أخشى أن لا
تكفيني خطواتي
للدوران حول خصر
الورقة ، التي بقيت حبيس أضلاعها الممتلئة
بضجيج الشعر ثلاثة
أشبار من
الوقت
أنا
رجل
فقير جدا
لأني لا أملك في
حساباتي المصرفية
غير بضعة أوراق
بمساحات لا تتناسب مع مقدار حاجتي لصناعة ثلاثة زوارق أصطاد
بها أفراخ القصائد
من قاع
الشعر
أنا
رجل
محتال جدا
لأني دائما أتحين
الفرص لأتحول الى
ضمة تتكور فوق
مؤخرة الفعل المضارع لترفعه الى مصاف الكلمات التي
لها حظوة لدى دوائر
الأعراب
أنا
رجل
متدين جدا
لأني دائما أرضى
بقسمة الله في أن
أكون مجرد حروف
ترطبها اللغة
كلما بصق الشعر
مجموعة من
القصائد
أنا
رجل
مهمل جدا
لأني دائما أقضي
ثلاثة أرباع ليلتي
أبحث عن طاولة
أضع عليها جثث احلامي قبل أن تمزق أدمغتها
جلبة القناني التي
لم أعرف أنها
مسكرة الى هذا
الحد من
الثمالة
أنا
رجل
فاشل جدا
لأني لم أقدر أن
أحقق أمنية
والدي في أن أكون
شاعرا يدغدغ
خاصرة اللغة بأصابع
النحو
قبل أن يوبخني
ويقطع مصروفي اليومي
ويرمي جميع مدخراتي
الورقية
في سلة نفايات
المنزل
أنا
رجل
كريم جدا
لأني دائما أتبرع
بريع حفلاتي الغنائية
لأطفال قضوا معظم
أوقاتهم في أنابيب الأختبار دون أن تكتمل أجهزتهم
التناسلية
********
فذلكة لابد منها:
(مشكلتي أن أصنع
ذاتي وأن أستدعي الاخرين الى أن يقوموا معي).
الفيلسوف الفرنسي
"ميشال فوكو"
(1)
العنوان أول ما
يقع عليه نظر المتلقي، لأنه يكشف النص ويشير إليه، فهو (نواة بنية دلالية كبرى وأولية)،
العنوان: سيموطيقيا الاتصال الأدبي، محمد فكري الجزار، ص 77. والبنية الدلالية في النص
الشعري للشاعر "كامل الغزي" (إني رجل متدين جدا) تحيله الى مضمون النص بشكل
مباشر، فهو يشكل المدخل المؤطر لأشتغالات النص، وعلامة لغوية وبؤرة تمركز دلالي وخطابي،
أرتبط بشكل مباشر مع النص، وله وظيفة انفعالية، وأبعاد دلالية وإيديولوجية وجمالية،
وتأثير على نفسية القارئ.
يقول الدكتور جميل
حمداوي: (فالعنوان يثير شهية القارئ للقراءة أكثر، من خلال تراكم علامات الاستفهام
في ذهنه، والتي بالطبع سببها الأول هو العنوان، فيضطر إلى دخول عالم النص بحثا عن إجابات
لتلك التساؤلات بغية إسقاطها على العنوان)، الدكتور جميل حمداوي، العنونة، مجلة عالم الفكر، ص/97. والشاعر
"كامل الغزي" اختار عنواناً جامعاً، يتوزع على مجموعة مقاطع اعتمدها كوحدة
متكاملة متعددة ذات نسق واحد، متمركز - العنوان - في كل مقطع من مقاطع النص، يأخذه
من عتبة العنوان الكلية، تلك العناوين السبع التي تناسلت ونسجت من بنية محورية واحدة،
ذات البنية النحوية الاسمية (الجملة الاسمية)، الدالة على الثبات والاستمرارية. لان
العنوان نظام دلالي سيميولوجي يحمل في طياته قيما أخلاقية واجتماعية وإيديولوجية. كما
يراه "رولان بارت".
لماذا توج الشاعر
"-كامل الغزي" نصه بعنوان انفرد به دون غيره من فصول النص وهو (إني رجل متدين
جدا)؟!
عنوان النص قد
يأتي بالكثير من المعاني التي يمكن الكشف عنها من خلال بعده الدلالي. فهو يشكل صورة
أو رؤية أو مغزى دلالي، ينطوي على الدلالات الإيحائية والرمزية والكثافة اللغوية، ما
يجعل المتلقي يتساءل عما أراد الشاعر أن يقوله من خلاله. فهو يحتوي مدلول النص، ويختزل
ويلامس فضاءاته المتجسدة في الـ(أنا) الطاغية والمتغلغلة في مساحة النص الشعري كله.
الحس الديني عند
الانسان جزء من بنيته النفسية، فهو متدين بفطرته، له تأملاته في (النفس والواقع والحياة).
يعتمد على ربط كل حدث في حياته بمشيئة الله وإرادته.
والشاعر
"كامل الغزي" مثقف واعٍ متدين، والمعيار الأساسي لتدينه هو الأخلاق والتعامل
مع الناس، فهو (يبحث عن آماله وطموحاته الإنسانية في إيمانه وعقائده ونصوص ثقافته الدينية،
يعيش وسط مجتمع فيه المتدين أكثر غربة ووحدة؛ لأن عرض الدين بشكلٍ واعٍ يبعث على التحرك
والتنوير).علي شريعتي، (الحسين وإرث آدم).
************
(2)
التكرار ميزة النص
الحديث فهو أداة جمالية تساعد الشاعر على تصوير حالته، فقد لجأ الكثير من شعراء الحداثة
إلى تقنية التكرار لكشف الجوانب النفسية للشاعر وانعكاسها على باطن النص. وقد شكل تكرار
الضمير ظاهرة شائعة في الشعر العربي الحديث، خاصة في استهلال النص، وضمير الـ(أنا)
المتكلم هو أكثر الضمائر السائدة في النصوص، الشعرية، والتي تقوم عليه عوالم النص.
لانه يكشف عن مشاعر الشاعر، فله التأثير الدلالي من خلال سياق النص، لأنه عنصر فعال
فيه، فبالأضافة الى وظيفته الدلالية التي تتماشى مع فكر الشاعر فانه يحفز مشاعر القارئ،
ويعطي ديناميكية للنص اذا اجتمعت فيه (قوة الخيال، وحسن الصياغة، وسلاسة الألفاظ، وعمق
المعنى).
كُتب نص الشاعر
"كامل الغزي" بأسلوب ولغة سردية متداخلة يبرز الشاعر فيه ضمير المتكلم ليظهر
الإحساس بوجوده وكينونته، الذي حمل قلق الذات إزاء الوجود، وما يتعلق في ذاته من مشاعر
وأفكار وأحاسيس.
يبدأ النص بالضمير
الـ(أنا) للاشارة الى ذات الشاعر كموضوع تقوم عليه فكرة النص، (الانوات) في النص متعددة،
تجسد المحرك الذي يرتكز عليه النص، ومركز تشكيل الصورة الشعرية فيه.
تسير الأنا في
النص في مسارات متعددة تتجلى في كل مراحل النص الشعرية، وفق رؤية معينة.
(أنا رجل متردد
جدا/ أنا رجل فقير جدا/ أنا رجل محتال جدا/ أنا رجل متدين جدا/ أنا رجل مهمل جدا/ أنا
رجل فاشل جدا/ أنا رجل كريم جدا)
وتبدو الصياغة
الفنية لهذه الجمل الشعرية مثيرة للانتباه. يخضع فيها الشاعر نفسه الى عملية (إعادة
تقييم معرفي) حسب مسمى علماء النفس. هو يكتب عن ذاته ويصفها من خلال تعابير رمزية تكشف
عن مشاعره.
ف(أناه) تظهر من
خلال صوت الشاعر تتفاعل مع مكنوناته النفسية
وارتداداتها.
أنا رجل ....
(متردد/ فقير/
محتال/ متدين/ مهمل/ فاشل/ كريم)
فقد أستخدم الشاعر
(التناقض اللغوي) على مستوى الجمل في تشكيل صوري شعري جمالي وتعبيري ذات معان مختلفة
تمركزت في داخل النسيج الشعري.
************
(3)
اعتمد الشاعر على
بنية (تجزئة النص) في كتابة نصه المتكون من سبع مقاطع، تنفصل عن بعضها في التأويل،
وتلتقي في الفضاء الشعري في دلالاتها. و(تجزئة النص Text segmentation هي عملية تقسيم النص المكتوب إلى وحدات ذات معنى).
أن التعددية في
المقاطع تؤدي إلى تعددية في المعنى والدلالة وهذا ما يسعى اليه الشاعر. مما يؤدي إلى
تكثيف الصور الشعرية وتنويع الإيقاع الشعري في داخل النص.
*************
(4)
للأرقام أهمية
كبرى، وهناك علم يتحدث عن الأرقام يسمى (Numerology) يقدم معلومات عن الاحداث التي ترافق حياة الانسان،
وان لكل رقم معنى مختلفة عن الأرقام الأخرى، وكلما تكرر الرقم أكثر كانت الدلالة أقوى.
وتشير الدراسات التي تتناول أسرار الأرقام الى (أن تكرر الرقم يكون الإنسان بحالة تركيز
عالٍ أو تفكير شديد بموضوع محدد، أو هو بحيرة وتردد أمام خيارات هامة بالنسبة له).
وجاء في (المعجم الفلسفي) لمؤلفه "جميل صليبا"، أن العدد أي عدد أحد المفاهيم
العقلية الأساسية، لذلك نجد الكثير من الشعراء استخدموا الرقم في معظم نصوصهم الشعرية.
وعندما يتكرر الرقم
(3) مرات في نص الشاعر "كامل الغزي".
ثلاثة أشبار من
الوقت
ثلاثة زوارق أصطاد
بها
ثلاثة أرباع ليلتي
هذا يعني له معنى
خفي يشير إلى دلالات معينة عند الشاعر، وله ميزة خاصة أو دوافع ورؤى مختلفة في أقحام
النص من قبله في فهم المقصود من المعنى أو الدلالات التي يوحى بها الرقم في التأثير
وجذب أنتباه المتلقي، أو التعبير عن حالة يمر بها الشاعر سواء كان بقصد أو بدون قصد.
وهذا الرقم قد يخلق عند الشاعر حالة من (توازن عال بين الروح والعقل والجسد).
نحن أمام نص تشكل
الذات مركز أرتكاز تخوض فيه الـ (أنا) صراع من أجل توكيد الذات، ومحوراً لا تفارق بنية
النص، تتحول فيه من جانب فكري الى رؤية شعرية يمكن أن تكون بؤرة النص.
0 comments:
إرسال تعليق