يبدو العرب اليوم فى حالة انتظار على رصيف التاريخ ، فبرغم أن أغلب الحكومات العربية صوتت أمميا مع إدانة الحملة العسكرية الروسية فى أوكرانيا ، بينما رفض القليل منها أو امتنع عن التصويت ، إلا أن الجمهور العربى بدا مختلفا ، ومتحمسا فى أغلبه للرئيس الروسى "فلاديمير بوتين" ، ربما باستثناء تيارات على الساحة السورية ، التى شهدت تدخلا روسيا دمويا منع سقوط جماعة بشار الأسد .
وقد لا يكون حماس الشارع العربى محبة فى روسيا ، ولا كراهية لأوكرانيا التى
لا ناقة لنا فيها ولا جمل ، لكن بغضا للأمريكيين وللغرب بعامة ، الذين تحداهم "بوتين"
بشراسة ، وأعلنوا ضده حرب عقوبات اقتصادية قصوى غير مسبوقة فى التاريخ ، لكنهم لم
يتجاسروا على الدخول فى حرب عسكرية مباشرة ، يعرفون أنها لن تبقى ولن تذر ، خصوصا
مع حيازة روسيا لأقوى ترسانة نووية فى الدنيا المعاصرة ، تتيح للرئيس "بوتين"
أن يدمر حواضر الغرب جميعها فى دقائق ، وهو ما جعل الرئيس الأمريكى "جوبايدن"
يضع لنفسه وعلى نفسه خطوطا حمراء ، تغل يده عن نصرة دميته الرئيس الأوكرانى
الكوميدى "فولوديمير زيلينسكى" ، الذى سلحت ودربت وزودت واشنطن جيشه
بعشرات آلاف الأطنان من المعدات الفتاكة ، ودفعته لتحدى روسيا ، فى نزال معلوم
النتيجة سلفا ، حتى وإن تأخرت المواعيد ، ولكن دون أدنى استجابة لصرخات واستغاثات "زيلينسكى"
اليومية ، ودعواته المتوسلة لأمريكا وحلف "الناتو" إلى فرض حظر جوى فى
سماء أوكرانيا ، أو حتى السماح لبولندا المجاورة بتقديم مئات من المقاتلات
السوفيتية القديمة ، وتكفل واشنطن بنقلها إلى ما تبقى من قواعد أوكرانيا الجوية ،
وهو ما رفضه الرئيس الأمريكى ، وبدعوى التخوف من الدخول فى حرب مع روسيا ، توافرت
فرص ومناسبات لدفع واشنطن إليها ، ليس آخرها مقتل صحفى أمريكى فى ضواحى "كييف"
، والهجوم الروسى بالصواريخ على قاعدة "يافوريف" غرب أوكرانيا ، وهى
قاعدة أمريكا الكبرى لتدريب المقاتلين الأوكرانيين الأكثر إقداما وصلابة ، من نوع
كتائب "آزوف" و"الرادى" ، الذين تسعى روسيا لإبادتهم ،
باعتبارهم من جماعات القوميين الأوكران "النازيين" بأوصاف موسكو .
وبقطع النظر عن مجريات الحرب الدائرة ، وما شهدته من تباطؤ ملحوظ فى تحرك
القوات الروسية ، والتردد فى اقتحام المدن الكبرى بوسط وغرب أوكرانيا ، والتركيز
على مناطق "الدونباس" و"ماريوبول" فى الشرق ، وعلى "خيرسون"
وشمال البحر الأسود و"بحر آزوف" فى الجنوب ، ربما بهدف اقتطاعها وضمها
إلى روسيا فيما بعد ، وإرغام حكومة "كييف" على توقيع صك استسلام ، قد
تتأخر فرصه إلى مدى أسابيع ، بقتال واقتحامات متقطعة متأنية ، تؤدى مع المفاوضات
الجارية إلى "خض ورج" الوضع الأوكرانى ، الذى يشهد نزيفا متصلا بهروب
وهجرة الملايين ، بقطع النظر عن هذا كله ، وسواه من الأساليب الروسية المتداخلة ،
فإن مغزى حرب أوكرانيا ظهر من أول يوم ، ومن أول طلقة رصاص ، وتغير العالم بغير
رجعة إلى ما كان ، وهو تطور لم ينشأ اليوم ، ولا حتى مع أزمة أوكرانيا التى تحولت
إلى صدام بالنار ، بل بدت أماراته ظاهرة قبل ما يزيد على عشر سنوات ، حين تعرضت
موسكو للخديعة ، وحرمت نفسها من استخدام حق "الفيتو" المخول لها فى مجلس
الأمن ، وسمحت لقوات "الناتو" بفرض حظر جوى فوق ليبيا ، وبدعوى منع نظام
القذافى من قصف المدنيين المنتفضين ، لكن العملية تحولت إلى حرب قصف ودمار شامل ،
انتهى بمقتل القذافى وخسارة روسيا لنفوذها ومصالحها فى ليبيا ، وهو ما صمم "بوتين"
على عدم تكراره فى سوريا ، وأيد بشار الأسد الذى تدخلت إيران لنصرته بوجه الثورة
السورية ، وإلى أن تدخلت روسيا على نحو مباشر ، ومن قواعد "حميميم" و"طرطوس"
، وغيرت موازين القوة ، وأنقذت بشار بعد ما كاد يهلك حكمه ، وقد لا يفيد التوقف هنا
عند طبائع المعادلات السورية الداخلية المضطربة ، فقد كانت الثورة السورية فقدت
قوة اندفاعها الشعبية السلمية الأولى ، وتحولت إلى حرب مهلكة ، بدت أطرافها
المسلحة مرتهنة كلها للخارج ولمليارات دولاراته ، ثم قد لا يكون من جدال كثير فى
وحشية التدخل الروسى كغيره من كل صنف ولون ، لكن واقعة التدخل الروسى المسلح ، بدت
إشارة إلى تطور عالمى جديد ، مختلف عن فترة الغزو الأمريكى الهمجى لأفغانستان ثم
العراق ، التى عكست انفراد القطب الأمريكى وقتها بإدارة شئون الدنيا ، وسريان ما
عرف باسم "القطبية الأحادية" التى أعقبت انهيارات موسكو الشيوعية ،
وانفراط كتلتها السابقة فى شرق أوروبا ، وزحف حضور "الناتو" إلى مقربة
من حدود روسيا نفسها ، والسعى لالتهام وضم "جورجيا" و"أوكرانيا"
، واستيقاظ الدب الروسى على وقع أقدام "الناتو" الثقيلة تطرق بابه ،
وإشعال نار "الثورات الملونة" عند حدوده ، وكانت الاستجابة ظاهرة بحرب
جورجيا المحدودة ذات الخمسة أيام ، ثم بحرب ضم "القرم" واقتطاعها من
أوكرانيا عام 2014 ، ثم بتحرك القاذفات والسفن الحربية الروسية إلى سواحل سوريا
أواخر 2015 ، وتقبل واشنطن لما جرى كأمر واقع ، لم تنجح فى قلب معادلاته ، ولا فى
دفع روسيا لحرب استنزاف طويلة فى سوريا ، تعاود التفكير فيها اليوم مع غزوة روسيا
لأوكرانيا ، وإن كان الرئيس الروسى "بوتين" يدرك ما يخطط له ، ولا
يتراجع عن حملة إفشاله ، برغم العبء الثقيل لعقوبات الغرب الاقتصادية والمالية
والرياضية والثقافية والسياسية وغيرها ، فلم يعد بوسع أمريكا أن تعاود ما فعلته
عبر نحو عقدين من التحكم بالقمة الدولية ، ولا بوسعها عزل روسيا كما تروج ،
وبالذات مع يقظة الشرق الآسيوى ، التى توالت فصولها عبر عقود ، وصنعت ملامح جديدة
لسباقات السلاح والاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا ، وفى آسيا ستون بالمئة من مجموع
سكان العالم ، و30% من مساحة اليابسة ، وروسيا بامتدادها الأرضى الهائل ، بلد "أورو
ـ آسيوى" فى الوقت نفسه ، وهى أكبر أقطار الأرض مساحة (17 مليون كيلومتر مربع)
، وبرغم عدد سكانها المتوسط (160 مليون نسمة) ، وحجم اقتصادها المتواضع نسبيا ( 1.7 تريليون دولار) ، فإن إطلالتها الكونية
الواسعة من غرب العالم إلى شرقه ، تمنحها جوارا دافئا مع الصين ، ذات الستة ملايين
كيلو متر مربع ، وبعدد سكان مرعب ( 1.5 بليون نسمة) ، يزيد مع الجاليات الصينية
إلى ما يجاوز عدد سكان الغرب الأمريكى والأوروبى والتابعين مجتمعين ، وبقوة اقتصاد
وتكنولوجيا ساحقة ، تمنح الصين المكانة العالمية الأولى من سنوات بمعيار تعادل
القوى الشرائية ، وترشحها خلال سنوات معدودة لاحتلال مكانتها المستحقة الأولى
عالميا بإجمالى ناتجها القومى الاسمى النقدى ، إضافة لشبكتها التجارية الكونية
المعروفة باسم "الحزام" و"طريق الحرير" ، وهو ما يعنى أن
الانفتاح على الصين وحدها ، يعد أوسع أبواب العالم المعاصر ، وهو ما خططت له روسيا
العائدة إلى مقارعة أمريكا بقوة السلاح ، فقد صار للصين وروسيا علاقات "بلا
حدود" ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن محاولات أمريكا والغرب خنق روسيا لن تجدى
غالبا ، ويدفع واشنطن الجزعة إلى حملة ابتزاز وضغط على بكين ، فشلت مرارا ، فالصين
لا تخفى تأييدها الضمنى والصريح للتصدى الروسى ، وتزيد من معاملاتها التجارية مع
روسيا (146 مليار دولار سنويا) ، القابلة للزيادة إلى ما لا حدود ، إضافة لاضطرار
الغرب الأوروبى إلى شراء البترول والغاز الروسى ، وعبر أراضى أوكرانيا نفسها ، فى
خلاف علنى بالمصالح مع سعار واشنطن المحموم .
والخلاصة ، أن عالما جديدا يكتمل تشكيله ، وأن استقطابا عالميا شرقيا غربيا
يقوم ، قطب روسى ـ صينى فى مواجهة القطب الأمريكى الغربى ، لا يشبه الاستقطاب
الثنائى القديم زمن الحرب الباردة ، ربما إلا فى تسميات أطرافه المتقاربة مع تغير
الأوزان ، فلم يعد من مكان لاستقطابات الأيديولوجيات الإشتراكية والرأسمالية ، بعد
ما جرى من تحولات وانقلابات فى سيرة اقتصاد الصين وروسيا من قبلها ، بل صار
الاستقطاب هذه المرة بجوانب معقدة ، تختلط فيها المعانى القومية بصيغ حكم
واختيارات بعينها من اقتصاد السوق ، تختلف فى حدود دور الدولة بالذات ، مع انكشاف
وتساقط أقنعة المثال الغربى ، وتكشف إفلاس قيمه المروجة ، وانفضاح عنصريته الفاقعة
، مع مواريث الدم التى بنيت عليها رفاهيته ، وكلها معان تثير خيال العرب كما غيرهم
من الأمم المقهورة ، فقد جنى العرب من الغربيين كل المصائب تقريبا ، ويدفعهم الحنين
إلى تذكر الزمن السوفيتى ، الذى كان مساندا لأغلب قضاياهم فى التحرر والتنمية ،
وبرغم اختلاف الزمن الروسى الحالى ، فإن شيئا من رائحة الحنين المستعادة ، يدفع
أغلب الشارع العربى لتمنى انتصار روسيا ، وكأنها تقوم بالوكالة عنهم بتصفية الحساب
المرير مع الأمريكيين ، ومع تركة الغرب الاستعمارى التى سحقت أحلامهم ولا تزال .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق