وقد عرف التاريخ الإنساني أشكالا متعدّدة من الزواج ففي عهد الأمومة كانت الأمّ تتزوّج بمن شاءت لأيّ مدّة ثم تتزوج أخر وأحيانا يمكن أن تكون زوجة لأكثر من رجل. كما كان البعض من عرب الجاهلية يفضلون النكاح المؤقت المعبر عنه بنكاح المتعة الّذي يستمتع فيه الرّجل بالمرأة مدّة مؤقتة بمقابل ينقده لها. كما ظهر نكاح المقت وهو أن يستحل أكبر أنجال الهالك زوجة والده باعتبارها موروثة عنه فيرمي عليها ثوبه إن أعجبته أو يزوّجها بآخر إن لم تكن له رغبة فيها.
وعرف الجرمانيون نكاح الاستبضاع الذي تخالط فيه المرأة غير زوجها بإذنه أو بدونه بغية الحصول على ولد خاصّة إذا لم يوجد لأبيه وارث. أمّا نكاح الخدن فهو معاشرة المرأة لخليل لها معاشرة الأزواج سرّا. ونكاح الشغار هو الذي يزوّج فيه الرّجل ابنته لرجل أخر في مقابل أن يزوّجه هذا بابنته أيضا على أن يكون بضع كلا البنتين مهرا للأخرى. ونكاح البغايا الّذي كان موجودا إلى وقت قريب لدى بعض طبقات الأعيان ببلاد ملابار بالهند هو الّذي تضع فيه المرأة على باب منزلها علامة (راية) فيدخل عليها من يريد الاتصال بها. وإذا ما ولدت ولدا ألحقته بأشبه الناس به.
أما التشاريع السّماوية فإنّها لم تخل من الأحكام المؤطّرة للزّواج نظرا للمقاصد القدسية السامية التي يحتويها. فالديانة المسيحية مثلا حفته بطقوس دينية دقيقة واعتبرته رباطا أبديا بين رجل وامرأة لا يمكن فصمه. كما اعتنى الإسلام بالزواج ووضع قواعده وشروطه وضبط حقوق وواجبات كلا الزوجين بشكل يكرس احترام النسب والقرابة ويعزّز صلابة الأسرة التي هي الخلّية الأساسية التي يقوم عليها المجتمع ويستمدّ منها الرّكائز المؤسسة لمتانته واستمراره. إذ يقول الله سبحانه وتعالى في الآية 72 من سورة النحل "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة" ويقول في الآية 21 من سورة الرّوم " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون".
وأحيانا قد يخل الزوجان بشروط تكوين عقد الزواج التي ضبطها المشرّع ورتّب عن خرقها بطلان الزواج. كما قد ينشأ الزواج صحيحا لكنه يكون قاصرا عن إنشاء آثاره التي وجد من أجلها إذ قد تنشأ بين الزوجين بعض المشاكل التي تجعلهما يفكران في فكّ رابطة الزواج وإيقاع الطلاق بينهما.
وقبل التعمق في دراسة أوجه المقارنة بين الطلاق وبطلان الزّواج يتّجه التوقف عند تعريف المؤسّستين.
وقد عرف المشرع التونسي الطلاق بالفصل 29 من مجلّة الأحوال الشخصية بأنه حلّ عقدة الزواج. وهذا التعريف هو في الواقع غامض وغير دقيق لأن عقدة الزواج قد تنحلّ بالموت أو بالبطلان كذلك. ولغة يعني الطلاق حل الوثاق وهو مشتقّ من الإطلاق أي الإرسال والترك. وفقهيّا عرّفه زكي الدين شعبان بأنه " رفع قيد الزواج الصّحيح في الحال أو المآل بلفظ يفيد ذلك صراحة أو كناية أو بما يقوم مقام اللّفظ من الكتابة والإشارة أو حلّ عقدة التزويج".
وقد أباح الإسلام الطلاق باعتباره أبغض الحلال عند الله. إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتزّ له عرش الرحمان" فالإسلام يقبل الطلق على مضض ويحرّض الزوجات على اعتباره الملاذ الأخير بعد استنفاذ كلّ الحلول الأخرى إذ يقول الله تعالى في الآية 19 من سورة النساء" وعاشروهنّ بالمعروف فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا." إذ قد تتوفر ظروف تجعل الطلاق شرّا لا بد منه لتلافي شرور أخرى يعيشها الزوجان.
وقد نظم الإسلام أحكام الطلاق وضبط قواعد ممارسته وذلك نظرا للمخاطر التي يحملها. وفي هذا يختلف الفقه الإسلامي عن الممارسات التي كانت سائدة قبله حيث كان الطلاق يمارس بدون ضوابط فيطلق الرجل زوجته متى شاء ويراجعها متى شاء. كما يختلف عن الكنيسة الكاثوليكية التي تتمسّك بتحريم الطلاق وذلك بمقولة أنّ الزواج هو من قبيل الطقوس الدينية ويبرم لدى الكنيسة بمقتضى الإرادة الإلهية ولذا فإنّه لا يمكن أن ينحلّ إلا بالموت.
وكانت لهذه الأفكار انعكاساتها التشريعية حيث رفض العديد من فقهاء فرنسا الطلاق معتبرين أن الزواج ليس مجرّد عقد يبرم بإرادة منفردة أو حتى بإرادة الطرفين بل هو مؤسسة ، وبالمقابل ظهر تيار آخر نظّر للطلاق وذلك باعتبار الزواج عقدا كسائر العقود يجوز فسخه . إذ يقول الإنجليزي بيتام في كتابه أصول الشرائع : " لو وضع مشرع قانونا يحرّم فضّ الشركات ويمنع رفع ولاية الأوصياء وعزل الوكلاء ... لأجمع الناس جميعا على أنه غاية الظلم واعتقدوا صدوره عن معتوه أو مجنون. فيا عجبا إن هذا الأمر الذي يخالف الفطرة ويجافي الحكمة وتأباه المصلحة ولا يستقيم مع أصول التشريع تقرّره القوانين بمجرّد التعاقد بين الزوجين في أكثر البلاد تمدّنا وكأنها تحاول إبعاد الناس عن الزواج فإن النهي عن الخروج من شئ نهي عن الدخول فيه".
وقد تبنّى المشرّع التونسي موقف الفقه الإسلامي في اعتبار الزواج عقدا يجوز فسخه متى دعت الحاجة إلى ذلك. إذ يقول ابن القيم" النكاح والطلاق يلحقان بالبيع والإجارة ..." .
ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ مجلة الأحوال الشخصية التونسية لم تتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية في باب الطلاق إلاّ جزئيا إذا أنّها لا تتضمن مثلا الإشارة إلى الطلاق الرّجعي وإلى الطلاق المكمّل للثلاث... .
أمّا بطلان الزواج فهو مبدئيا جزاء رتبه المشرّع عن الإخلال بالشروط التي يقوم عليها عقد الزواج. وقد عرّفت محكمة التعقيب في قراراها عدد 21419 بتاريخ 13 جوان 1989 الزواج الباطل بأنه زواج تتوفر فيه مقتضيات الزواج العادية من إشهار ومساكنة وإنفاق وتواصل معاشرة. وتحت هذا العنوان تؤدّي الزوجة لزوجها المفروضات التي يرتبها الزواج. والزوج يؤدّي من جهته ما هو محمول عليه من واجبات الزوج تجاه زوجته ." وجاء في الفصل21 من مجلة الأحوال الشخصية أن : " الزواج الفاسد هو الذي اقترن بشرط يتنافى مع جوهر العقد أو انعقد بدون مراعاة أحكام الفقرة الأولى من الفصل الثالث والفقرة الأولى من الفصل الخامس والفصول (15 و 16 و 17 و 18 و 19 و 20 و20 من هذه المجلة).
والمشرع التونسي لا يفرق بين مصطلحي البطلان والفساد ويستعملهما للدّلالة على معنى واحد إذ جاء بالفصل 22 من مجلّة الأحوال الشخصية أن الزواج الفاسد يبطل وجوبا" وذلك إقتداء بالفقه المالكي والشافعي الذي لا يفرّق بينهما. في حين أن الفقه الحنفي يستعمل المصطلحين ولكن للدّلالة على معنيين مختلفين.
أما الزواج الباطل فهو الذي فقد شرطا من شروط الانعقاد ممّا جعله ينشأ مختلاّ بحيث يكون وجوده وعدمه سواء. وهذا ما عبر عنه الحنفيون بأنه "ما لم يشرع لا بأصله ولا بوصفه". في حين أن الزواج الفاسد هو الذي فقد أحد شروط صحته , وعرفه الحنفيون بأنه : " ما شرع بأصله لا بوصفه ".
وفي الحقيقة فإن التمييز بين الزواج الباطل والزواج الفاسد يمكن أن يساعد على ضبط الطبيعة القانونية للبطلان.
وبالرجوع للقانون الفرنسي يلاحظ أنّه ولئن استعمل مصطلحا واحدا هو "الزواج الباطل : le mariage nulإلا أنه ميز بين حالات يكون فيها البطلان نسبيا وأخرى يكون فيها مطلقا. لكن المشرع التونسي لم ينص على طبيعة البطلان وكذلك لم يتعرض فقه قضاء محكمة التعقيب إلى هذا الإشكال إلا في مناسبات قليلة. وقد جاء في القرار التعقيبي الصادر بتاريخ 17/1/ 1961أنّ قانون الأسرة يهمّ النظام العام وذلك لأن الزواج هو مؤسسة قبل أن يكون عقدا." وقد تبنى بعض الفقهاء هذا الرأي إذ اعتبرت الأستاذة كلثوم المزيو أن بطلان الزواج يكون مطلقا في جميع الصور خاصة إذا تعلق الأمر بالإخلال بأحد الشروط الشكلية الواردة بقانون 1 أوت 1957 والتي تهم النظام العام فلا يمكن للطرفين خرقها ذلك أن القضايا المتعلقة بقانون الأسرة تهم النظام العام".
وقد تعرض هذا الرأي إلى النقد لأن الحالات التي يتّجه فيها التصريح ببطلان الزواج توجد بينها صور لا تهم فيها دعوى البطلان إلا مصلحة المتعاقدين ومن ذلك صورة الرضا المعيب والذي يمكن تصحيحه بالمصادقة اللاحقة على العقد .
وعليه فإنه يكون من المبالغة القول بالبطلان المطلق كجزاء لجميع الصور والتي يكون فيها أحد أركان العقد مختلا. ويبقى على المشرّع التدخل لرفع الغموض وضبط الحلول المناسبة لهذا الإشكال.
وبناءا على ما تقدم يمكن القول بأن الطلاق وبطلان الزواج كلاهما طريقتان يقع بمقتضاهما انفصام الرابطة الزوجية ولكن لكل منهما خصوصياته المميزة التي تقتضي أحكاما وحلولا تشريعية دقيقة.
0 comments:
إرسال تعليق