الساعة هي الرابعة عصرا. هربا من السأم وحرارة الجو دخلت مقهى رضا علوان في بغداد . مقهى انيق بارد يرتاده معظم الأدباء. نقطة دالتي في العاصمة. كان المقهى كالعادة مزدحما بالرواد. هدوء تام إلاّ من صوت موسيقى هادئة تتداخل مع همس الحاضرين من الجنسين. على اليمين عند دخولي جلبت انتباهي. كانت اربعينية متشحة بالسواد تجلس وحدها . حجزت طاولة ذات كرسيين .على الكرسي الفارغ وضعت حقيبة يد وكتابا عليه لافتة صغيرة خطت بأناقة تقول محجوز. كانت في غاية الاناقة المحتشمة والوقار. وجهها خال من المساحيق والمكياج .على غير عادتي اعترتني موجة فضول طاغ لمعرفة ذلك او تلك التي حجز له اولها الكرسي الثاني .كانت منهمكة في قراءة كتاب. شعرها فاحم طويل يتوزع على جانبي صدرها يغطيه شال حرير اسود خفيف. ترتدي ثوبا اسودا يصل حد الكعبين. في نفس مكاني بالأمس، في الزاوية المنعزلة كومت كل همومي وجلست قرب فنان منهمك في رسم صورة غير واضحة المعالم . من بعيد رفع اكثر من واحد يده .عرفت بعضهم ولم اعرف الباقين الذين رفعوا ايديهم بالعدوى او بدافع المجاملة ربما ..
ــ استاذ تلك السيدة التي تجلس وحيدة هناك تدعوك ، قال النادل المسئول عن ذلك الركن من المقهى واشار الى المرأة الاربعينية التي مررت بها . متأكد انت ؟ نعم استاذ فقد سألت عنك وعرضت عليّ صورتك على الكتاب الذي بين يديها . نظرت الى المرأة .ادركت المرأة ذلك . ازاحت الكتاب عن وجه لم اره في حياتي . كان النادل لا يزال واقفا .شبه مأخوذ بدافع لا اعرف تفسيره نهضت وتبعت النادل بضع خطوات .ابتسمت المرأة وقالت:
ــ عفوا استاذ كنت منهمكة في القراءة ولم الاحظ حضورك مع اني منذ ساعة حجزت لك هذا المكان وجلست انتظر حضورك لكنك تأخرت كثيرا . تفضل بالجلوس قالت ومدت يدها مرحبة .ترددت قليلا قبل الجلوس لاستوعب المفاجئة ، في مكان انا غريب فيه امام امرأة لا اعرفها ولم اكن على موعد مع احد . صديقي الذي صحبني مرتين لهذا المقهى وسخّر سيارته لذلك، اختلقت له عذرا كي انفرد بنفسي و الصديقة البغدادية التي اتصلت مرتين لتصحبني بسيارتها اعتذرت قائلا غدا لدي مقابلة فاعذريني ..
لا بأس لأجلس فالوقوف هكذا يحرج هذه السيدة التي تدعوني عيناها للجلوس.. شكرا قلت لها.
ــ عذرا لو اعرف تلفونك لاتصلت ،ماذا يعجبك ؟ قالت واشارت الى النادل .
قبل ان أجيب ، تأملتها جيدا .هذه المرأة من ؟ انا لا اعرفها ولم التق بها من قبل لكنني اعرف هذا الصوت جيدا. سمعته عشرات المرات واعجبتني نغمته .يا الهي، من هذه المرأة ؟ تساءلت من جديد. حتى الوجه الذي تزينه حبة بغداد خيّل لي اني قد رأيته في مكان ما وفي زمن لا استطيع تحديده.
ــ استاذ، اعرف انها مفاجئة ليست لك وحدك بل لي ايضا .تدري ان حضورك شبه معجزة! .سآخذ بعضاً من وقتك فلي معك حديث طويل غريب، لا استطيع ان أحكيه هنا خصوصا وان انظار كثيرين بدأت تتجه نحونا .
ــ عذرا انا لم ..
ـــ نعم اعرف ستقول انني لم اعرفك ، لك كل الحق ولهذا علينا ان نخرج من هذا المكان كي نتعارف .ادعوك للخروج معي في نزهة قصيرة. رافقني في جولة قصيرة رجاء لن أخطفك أو اغتالك فأنا مسالمة تماما مثلك. قالت وعدلت شالها الحريري الاسود الجميل .هل ارفض دعوتها، ام اغامر مع امرأة لا اعرفها انا الغريب في متاهات بغداد التي صارت مرعبة ؟.
أدركت ما جال في خاطري. أن اجلس قرب امرأة جميلة لا اعرف اسمها في سيارتها الخاصة امر لم افعله من قبل في البصرة قط وان فعلته فان اكثر من خبيث سينقل الخبر واكثر من واحد سيفتح تحقيقا معي ان كانت المرأة بمثل جمال واناقة هذه الغريبة ناهيك عن المحضر الذي سيفتح لي في البيت عند العودة .هات يدك يا استاذ فلست مخيفة الى هذا الحد وثق ستكون بأمان معي قالت ضاحكة .استنهضت رجولتي وطاوعتها .عند باب المقهى توقفت لتأخذ رزمة اعدها لها الحانوتي وفق طلب سابق .لا حظت في الرزمة شيئا يشبه قنينة شراب او شيئا لم اعرفه كان ملفوفا .انطلقت بنا السيارة مسرعة على الخط السريع .كانت تسوق بمهارة وثقة كمن يتجه نحو هدف محدد لا اعرف كنهه .اردت التمعن في تقاطيع وجهها فخجلت .كانت صامتة تفكر .تسوق دون ارتباك .دخلنا شارع المغرب .مررنا بقاعة الرباط. ها هو التقاطع الذي مررت به قبل ثلاث شهور امامنا. توقفت امتثالا للإشارة الحمراء ما ان فتح الطريق حتى ضغطت على دواسة البنزين .اتضح لي خط سيرها .تماما قرب متنزه كورنيش الاعظمية، ركنت السيارة ، اطفأت محركها ولأول مرة كلمتني على هيأة سؤال ، هل سبق ان جئت هنا ؟ قلت نعم .هنا سنجلس قليلا قرب دجلة الحزين ما رأيك ؟.تلك مصطبة معزولة لا يجلس عليها احد .اشارت الى مصطبة قديمة على بعد امتار من شجرة سدر ذابلة الاوراق تطل بشكل منحن على النهر كما لوانها تحضنه .اخرجت منديلا ورقيا وراحت تمسح ذروق العصافير والتراب . تفضل اجلس قالت .من الكيس الذي كان معها اخرجت قنينة عصير وقالت اشرب عصيرك قبل ان نخوض في تفاصيل الاحداث. دهشت وقلت قبل ان ندخل في تفاصيل الاحداث عرفيني بنفسك فانا غريب في بغداد وبغداد لم تعد بغداد السلام التي عرفتها !
.ــ انا ذكرى، مغتربة في كندا. صديقتك منذ عامين على صفحة الفيس .جئت لرؤية قريبة تحتضر وماتت . .
ـــ وما علاقتي بذلك ؟
ــ. انت محور العلاقة والأحداث .
ــ أنا ؟ عن اي احداث تتكلمين سيدتي ؟
ــ هل سبق لك ان جئت هنا؟
ــ نعم.
ــ وأين جلست بالضبط؟ فاجأني هذا السؤال ترى ما تريد بالضبط.؟ لم تمهلني بل بادرت ،
ــ هل جلست على نفس هذه المصطبة ومتى ؟
ــ نعم قبل بضعة أشهر.
ــ هل كنت وحدك يومها ؟
ــ اهو محضر تحقيق ؟ ماذا تريدين ولماذا تسألين ؟
ــ سألتك هل جلست وحدك على هذه المصطبة ؟ .
ــ في الحقيقة لم اكن وحدي .جلست هنا في مكانك عجوز من بغداد. كانت صدفة غريبة .
ــ من الاعظمية ؟
ــ نعم .ـ
ـ هل تحدثتما معا في موضوع معين ؟
جاء سؤالها كالصاعقة.
ــ نعم تحدثنا .
ــ فيم تحدثتما .؟
ــ الى م تهدفين سيدتي ؟
ــ لقد تحدثنا في موضوع لا يخصك .
ــ من قال انه لا يخصني ؟ ربما يخصني .
ــ.جلست مع العجوز وتحدثتما عن صورة قديمة. وشربت عصيرا من نوع هذا العصير الذي قدمته الآن لك، اليس كذلك ؟
ــ نعم ناولتني عصيرا مثل الذي قدمتيه لي .
ــ تدري اني اعرف كل قصتكما منذ اول لقاء لكما في الجامعة كطالبين ثم عاشقين عاكستهما الاقدار ،غيبتك سجون السلطة وانقطعت اخبارك ؟.هل تريد ان اسرد عليك كل المأساة ؟.
ــ حيرتني .
ـــ بعد اربعين عاما التقيتما هنا على نفس هذه المصطبة دون ان يعرف احدكما الآخر.
ــ نعم تلك هي المأساة ، كنا نحن الاثنين عجوزين .
ــ تلك المرأة ، امي وقد ماتت بالسرطان قبل شهر. عند الحشرجة ذكرت اسمك واجهشت بالبكاء .كنا وحيدتين ولي وحدي فتحت صندوقها الاسود .
وجمت .كدت اصرخ لولا ان عائلة مرت قريبا منا..
حمدا لله اني وجدتك فغدا اعود الى كندا علي أن أوظب حقائبي للسفر صباح غد .دعني اوصلك
ــ هنا اسكن . شكرا يا ذكرى .
قرب ملعب الشعلة الرياضي اوقفت محرك السيارة . التفتت الي وقالت ،هذا ما تركته لك. ولأنه يخصكما فليس من حقي التصرف به . قالت وسلمتني علبة مذهبة معطرة .
في الليل اغلقت باب غرفتي وفتحت العلبة .كانت رسائلي القديمة وشريط لأغنية الاطلال وصورة لنا ، انا وأم ذكرى في الجامعة قبل أن ينكر خلٌّ خلّه ثمّ نشيخ !
0 comments:
إرسال تعليق