لم تكن المناظرة التليفزيونية الأولى بين " كامالا هاريس" و"دونالد ترامب" حاسمة ، ولم تنجح "هاريس"رغم تقدمها الهجومى أن تفوز بالضربة القاضية فى مباراة الهواء ، فقد ابتعد المرشح الجمهورى بنصائح مستشاريه عن توجيه السباب الشخصى للمرشحة الديمقراطية ، بينما سعت "هاريس" لاستفزاز غريمها إلى أقصى حد ، واتهمته بالديكتاتورية والإجرام والكذب والعداء للديمقراطية وحكم القانون ، وفى قضايا الداخل الأمريكى الأكثر أهمية للناخبين ، بدا "ترامب" حريصا على بيان موقفه الكلاسيكى الرافض لتدفقات ملايين المهاجرين غير الشرعيين ، بينما لجأت "هاريس" إلى حصار خصمها فى قضية حق النساء بالإجهاض ، وبدا الطرفان على كفتى ميزان متناوش فى قضايا الاقتصاد وأزماته ، وفى القضايا الدولية ، بدت "هاريس" حريصة على إبراز طابع قيادى ، ووصفت صورة "ترامب" بأنها مخزية ومثيرة للسخرية عند الحلفاء الأجانب ، بينما وجد "ترامب" ضالته الوحيدة فى مديح حظى به من "فيكتور أوربان" رئيس الوزراء المجرى ، واتهم "هاريس" بقيادة العالم باستفزاز موسكو إلى حرب نووية ، واكتفى بتكرار ألفاظه المعتادة عن قدراته السحرية فى وقف حروب العالم ، والحصول على مئات مليارات الدولارات من شركاء أمريكا فى حلف شمال الأطلنطى ، وفى القضية الفلسطينية ، زايد "ترامب" على "هاريس" فى إشهار الولاء لكيان الاغتصاب "الإسرائيلى" ، واتهم "هاريس" بالعداء لإسرائيل "المهددة بالتلاشى خلال سنتين" إذا فازت "هاريس" ، بينما أعادت "هاريس" تأكيد موقف الدعم المطلق للكيان "الإسرائيلى" ، والسعى لإيقاف حرب "غزة" ، وإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين ، وإعادة إعمار "غزة" ، والمضى إلى "حل الدولتين" وحق تقرير المصير للشعب الفلسطينى .
حملة "هاريس" من جانبها
، تشجعت بأداء مرشحتها فى مناظرتها الرئاسية الأولى ، وبإتقانها استخدام لغة الجسد
وتعبيرات الوجه فى السخرية من كلام "ترامب" ، وبالذات حين ردد أخبارا كاذبة
عن أكل المهاجرين لقطط وكلاب الأمريكيين (!) ، وطالبت حملة "هاريس" بتكرار
المناظرة فى وقت قريب ، وهو ما بدا "ترامب" مترددا فى قبوله ، ورغم أن
"ترامب" بدا مقموعا وممنوعا من استثمار هوايته فى "الردح" الشخصى
، اللهم إلا فى وصف "هاريس" بأنها "ماركسية" كأبيها الهندى ، وهو
ما ردت عليه "هاريس" بنصف ابتسامة ساخرة ، لكنها لم تسكت على اتهام
"ترامب" لها بالعداء لإسرائيل ، وقالت أن تاريخها كله حافل بالولاء الأكيد
لإسرائيل و"حقها فى الدفاع عن نفسها" ، فالولاء للكيان "الإسرائيلى"
بمثابة "البقرة المقدسة" فى المجتمع السياسى الأمريكى ، وإن بدت "الرواية
الفلسطينية" ظاهرة الأثر فى خطاب "هاريس" ، القريبة أكثر من رئيسها
"جو بايدن" إلى الجناح التقدمى فى الحزب الديمقراطى ، والحريصة على اجتذاب
أصوات الأمريكيين من أصول عربية ومسلمة ، وهى كتلة تصويت تقارب 700 ألف صوت ، قد يكون
لها أثر بارز فى بعض الولايات المتأرجحة ، ويلزم "هاريس" الحصول على أصوات
ولايات ثلاث منها فى المجمع الانتخابى العام ، وبالذات ولايات "بنسلفانيا"
و"ويسكونسون" و"ميتشجان" ، وحتى تستطيع الوصول إلى رقم الفوز الذهبى
، وهو الحصول على أكثر من 270 صوتا لمندوبى المجمع الانتخابى البالغ عددهم 540 ، فالنظام
الانتخابى الأمريكى يمضى على درجتين ، أولاهما التصويت الشعبى ، وتبدو "هاريس"
متقدمة فيه على "ترامب" فى أغلب استطلاعات الرأى ، لكنه لا ينعكس تلقائيا
فى عدد أصوات مندوبى المجمع الانتخابى ، فالمرشح الرئاسى الذى يفوز بأكثر من خمسين
بالمئة فى ولاية ما ، يكسب مئة بالمئة من أصوات مندوبى الولاية فى المجمع الانتخابى
، وهو ما يؤدى لعديد المفارقات فى تاريخ ونتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ، وقد
خسر "ترامب" انتخابات 2020 بسبب ولاية "جورجيا" ، التى تقدم فيها
"بايدن" بعشرة آلاف صوت لا غير ، فحصل على كل أصوات مندوبى الولاية ، وفى
انتخابات سبقتها ، فاز "ترامب" فى النهاية على منافسته "هيلارى كلينتون"
فى انتخابات 2016 ، رغم أن "هيلارى" تفوقت عليه بملايين الأصوات الشعبية
، وهو ما كانت له سوابق ، بينها حالة المنافسة بين "آل جور" و"جورج
بوش" الإبن ، كانت كفة التصويت الشعبى راجحة بالملايين لصالح "آل جور"
، لكن "بوش الإبن" فاز فى النهاية بأصوات مندوبى ولاية "فلوريدا"
، وعلى عكس "آل جور" الديمقراطى
، الذى لم يعاند فى النتائج ، لم يسلم "ترامب" أبدا بهزيمته فى انتخابات
2020 ، وظل يتحدث عن فساد النظام الانتخابى الأمريكى ، ثم عن فساد النظام القضائى كله
، الذى اتهمه بالتحيز ضده ، وإدانته فى دعاوى تزوير وتحرش جنسى ، وبدا سعيه للرئاسة
مجددا ، وترشحه المتكرر لمرة ثالثة ، وبالمخالفة لعرف الترشح لمرتين لاغير ، بدا ذلك
كله فى جانب لا يخفى منه ، كسعى من "ترامب" لاستصدار عفو رئاسى عن إدانات
دامغة لحقت بشخصه ، لكن "ترامب" قد لا ينجح فى الوصول للرئاسة هذه المرة
، رغم أن قاعدته الانتخابية تبدو راسخة ، وترتكز بالأساس على قواعد اليمين المحافظ
المقتنع ـ كما "ترامب" ـ بوجود مؤامرة على أمريكا والجنس الأبيض ، الذى يعتبر
نفسه حجر الأساس فى البنيان الأمريكى ، ويخشى من تزايد تدفقات المهاجرين الملونين ،
الذين يهددون أولوية جماعة "الواسب" ، أى البيض الأنجلوساكسون البروتستانت
، وقطاعات كبيرة منهم ، تردى وضعها الاجتماعى الاقتصادى مع فقر التعليم ، ومع تراجع
معدلات تفوقهم السكانى ، وقد كان هؤلاء البيض يشكلون نحو 70% من السكان إلى عهد قريب
، وصاروا أقل من 60% بين السكان اليوم ، وهو ما ولد بالمقابل عنفا لفظيا وفعليا دفاعا
عن مظلومية مدعاة للجنس الأبيض فى أمريكا ، وظهورا لنزعات شبه نازية ضد جماعات السود
والملونين الزاحفة سكانيا ، وقد كان انتخاب "باراك أوباما" الملون رئيسا
قبل أقل من عقدين نذير شؤم عند البيض المتعصبين ، وهم مع "ترامب" اليوم فى
مواجهة مع الملونة "هاريس" ذات الأصول الهندية الأفريقية ، المستندة إلى
تأييد حار من "أوباما" نفسه ، وتبدو كأنها طبعة نسائية من "أوباما"
، وهو ما يزيد من استثارة نزعات تفوق العرق الأبيض المظلوم فى زعمهم ، رغم دوره الأول
فى تأسيس أمريكا بعد إبادة الهنود الحمر واضطهادهم العبيد السود ، وهو ما يبرز طابعا
ثأريا وراء التنافس الانتخابى الرئاسى الراهن ، وتآكل الأجنحة المعتدلة فى الحزب الجمهورى
، وتحويله إلى حزب خاص "ملاكى" لشخصية "ترامب" العنصرية المتعجرفة
، التى تربط عودة ما تسميه "أمريكا عظيمة مرة أخرى" باسترداد العظمة للجنس
الأبيض ، وتنفر من "موزاييك" أمريكا المتعددة الألوان ، وتخشى من تنامى الهجرة
الشرعية وغير الشرعية المدمرة لسيادة البيض ، فوق تنمية نزعات التعصب الدينى البروتستانتى
، وفئاته الإنجيلية الأكثر تعصبا لأولوية "التوراة" والعهد القديم ، بما
فيها نزعة "الصهيونية المسيحية" التى تعطى أولوية دينية لدعم الكيان
"الإسرائيلى" ، وهدم المسجد الأقصى ، وإقامة ما يسمى "هيكل سليمان الثالث"
مكانه ، وتسييد وضع يهودى ، يهيئ الظروف المطلوبة لعودة السيد المسيح ثانية إلى الأرض
، وقيادة حرب "هرمجدون" الأخيرة ضد العرب والمسلمين عموما .
ومن هنا نفهم ، كيف أن
"ترامب" الملياردير المقاول غير المبالى تقريبا بالأديان ، يضع استقطاب مشاعر
الصهيونية المسيحية إلى صفه الانتخابى ، ويرى أن "إسرائيل" الحالية صغيرة
جدا ، وأنه لابد من توسيعها ، وقد سبق له أن أيد ضم القدس والجولان لهذه "الإسرائيل"
، ولن يعجب أحد إن فاز برئاسة ثانية ، وأعلن تأييده لضم "الضفة الغربية"
و"غزة" رسميا إلى هذه "الإسرائيل" ، وربما مساعدة اليمين الصهيونى
الدينى فى ضم مناطق من أقطار عربية مجاورة لهذه "الإسرائيل" ، وهو ما يدفع
"بنيامين نتنياهو" لانتظار قدوم "ترامب" مجددا إلى رئاسة البيت
الأبيض ، مع حماس حكام وأنظمة عربية لانتظار "ترامب" أيضا ، وكثير منهم حلفاء
موضوعيون لنتنياهو و"إسرائيله" ، فوق أنهم يجدون فى "ترامب" شخصية
مناسبة أكثر لأوضاعم الداخلية ، فهو لا يكترث لحقوق الإنسان التى يدهسونها ، وهو رجل
يمكن شراء ذمته بفوائض مليارات البترول ، وقد لا تبدو "هاريس" وحزبها الديمقراطى
أفضل من "ترامب" بالنسبة لقضايانا ، رغم أن "هاريس" تبدو أقل فجاجة
، وتتخفى كعادة الرؤساء الديمقراطيين الأمريكيين وراء شعارات بمظهر براق ، قد تخدع
بعض الأوساط الشعبية العربية ، لكنها لا تختلف فى الأثر والجوهر العملى ، فهم يتحدثون
أحيانا عن بعض الحق الفلسطينى ، لكنهم يربطون أحاديثهم بنيل رضا وموافقة "إسرائيل"
أولا ، كما فى أحاديثهم مثلا عن الدولة الفلسطينية فى الضفة و"غزة" ، لكنهم
يربطون الأمر كله بشروط "إسرائيل" ، التى لن ترضى طوعا أبدا بإقامة أى كيان
فلسطينى ، وقد كان "أوباما" و"بايدن" ـ مثلا ـ على خلاف شخصى مع
"نتنياهو" ، لكنهما قدما إليه كل أنواع الدعم بالمال والسلاح والتأييد فى
المحافل الدولية ، فالحقيقة القديمة المستجدة تبقى موكدة ، وهى أن "إسرائيل"
هى أمريكا فى مطلق الأحوال ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا عندنا قبل واشنطن
.
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق