كثيراً ما حسدتُ أطفال القريةِ وهم يركضون نحو النهر، يلقون بأنفسهم فيه، يتقاذفون بالماء، فيطيرُ رذاذً فوقهم.. كنت أخاف النهر حدَّ الفزع، إذ كثيراً ما خوفوني منه وأسمعوني حكايات عن أطفال نهشت أسماك القرش أرجلهم. كان بعض الأطفال يتحدونني في عبور النهر، والبعض ينمي فيَّ عقدة الخوف وبعضهم يسخر مني فأعود وأشكو لأمي وأبكي، كانت تقف عاجزة، فهي لا تستطيع أن تعلمني السابحة، ووالدي الذي يقبع في سجن الحويجة لا يستطيع طبعاً. والدي هذا أضاف لنا عبئاً إلى أعباء حياتنا المريرة، فشيخ القرية يكرهه وكذلك أبنه وزوجته كانوا يكرهوننا لكرهه، هذا الكره المعلن شجع أطفال القرية وبعض الناس على إذائنا.. أمي لم تكن تستطيع أن تفعل شيئاً، كانت شابة جميلة وهذا الجمال لم يكن نعمة عليها، يغري بها أناساً كثيرين وكانت تصدهم ثم انكفأت على نفسها ولم تعدّ تغادر الكوخ.. جدتي كانت تقاوم بشراسة.. ((لم يكن أبوك كما يقولون، أراد أن يضمد جراحهم فجرحوه، وكان الشيخ يخشاه)).. كانت تحدثني عن كركوك وسجن الحويجة وبغداد والقطار والناس في الشمال وأن أبي يعشق قضية..
– غير أمي؟. قلت لها مرة، ضحكت
وقالت:
- غيرنا جميعاً،
- ستعلميه السياسة وسأفقده يوماً
ما كما فقدت أباه. كانت أمي تقول بحزن.. سأتعلم السابحة، لابدَّ أن اعبرَ النهر
وإلا أقتل نفسي، قلت لأمي ذات يوم باكياً... انزوت وراحت تبكي.
- ما به؟ قالت لها جدتي.
– يريد ان يتعلم السباحة وإلا
سيقتل نفسه.. سكتت جدتي.. وفي يوم قائظ، أيقظتني. – قم واتبعني كانت نبرتها حادة
آمرة وكنت أخشاها.. تبعتها، خرجنا من القرية ابتعدنا كثيراً. دسنا على حشائش
وأشواك كثيرة أدمت أقدامنا الحافية، ولكنها لم تعر ذلك اهتماماً، كانت تسير بمحاذاة
النهر بثبات وكنت أتحاشى النظر إلى أمواجه المتلاطمة، انه نهر الكحلاء في ميسان.
عند نقطة بعيدة، حيث لم نعد نر
أحداً، وقفت جدتي.. نزلت إلى النهر بملابسها،
- تعال أصعد على ظهري، هيّا.
– ترددت، لكنها صاحت بي. كنت أعرف
عنادها، تعلقت بظهرها والتفت يداي حول رقبتها الغليظة بشدة.
– ما هكذا، ستخنقني، صرخت بي،
وانسابت تسبح كتمساح نحو وسط النهر، في المنتصف توقفتْ، أفلتت يدي فجأة وغاصت ولم
أجدْ لها أثراً.. رعبٌ فضيع انتابني، صرخت ورحتُ أحرك يدي باضطراب وأيقنت أني غارق.
غير بعيد ظهرتْ وهي تقول، هيا، اسبح، تعال نحوي، ولكني غصت في الماء فانقضت عليّ
وأخرجتني، من جديد أعادتني إلى ظهرها وغاصت.. فعلت ذلك عدة مرات معي.. عند العودة
قالت،
– لا تخبر أحداً بذلك هل سمعت؟
عدني، فوعدتها خائفاً، لكني أخبرت أمي بذلك، ونشب بينهما شجار حاد
،
– هل جننتِ؟ قالت أمي.
– لابدَّ أن يتعلم السباحة ويعبر
النهر، صاحت جدتي.
– علميه عند الجرف، تدرجي معه!
– ستمتلئ بطنه طيناً ولن يتعلم،
عليه أن يخرسهم ويهزأ بهم، ثم هل حلَّ مشكلةً هروب؟
والله لأقلعن الخوف من أعماقه !
كل يوم تأخذني إلى نفس المكان،
صرت أسبح.. لكنها لم تكتف بذلك
– سابقني، سابقتها.
– أريد أن تسبقني، قالت لي ذات
يوم.. كانت سباحة ماهرة لكني ذات يوم سبقتها وعبرت النهر، على الجرف كانت تقف،
ترقبني وأنا اعبر إلى الضفة الأخرى وأعود راجعاً.
– هل أخبرت أحداً غير أمك؟
- أبداً.
– حسناً ليكن هذا سرك، وسيأتي يوم
يجبرك على إعلانه فلا تتردد.. لم أفهم في البدء ما قصدت.. جاء عيد، وتجمع الناس
عند النهر ووجهاً لوجه تقابلنا، أنا وابن الشيخ، كان طاووساُ بشرياً.
– هل مازلت ترتجف من النهر؟
بادرني.
– أبداً؟
- من يقول؟
- أنا.
– إذن أعبره.
– نعبره معاً، أنا وأنت! جن جنونه
وقال
– هل تتحداني؟
- نعم!
– عند الغروب كان الشيخ وابنه
يقفان بباب كوخنا وسط صمت الحاضرين ووجومهم.
– هل صحيح ما سمعت يا ابن
السياسي؟ قال الشيخ وهو يرتجف حنقاً، تحديت أبني في السباحة؟
- نعم وفي عبور النهر.
– أنت يا ابن السياسي؟
- نعم أنا.
– دعه يفعل، إنه يريد أن يفطس في
النهر، قال ابن الشيخ.
– حسناً هيّا أعبرا أمامي والآن.
- لا ليس الآن، قلتُ.
– متى إذن؟.
– في منتصف شباط.
– ماذا؟ في عز البرد؟
- نعم في عِزِّ البرد وإلا لن
أتسابق.
– قبلت التحدي قال ابن الشيخ
وأردف، يريد ألا تخيس جثته.. كان الناس ينظرون لا يصدقون ما يسمعون.. تحدثوا
كثيراً، لاموا جدتي، عنفتها بعض العجائز، ((تريدين قتله أيتها المجنونة، كيف يسابق
وهو الذي يرتجف من رؤية النهر؟))، لم تجبهن، لكن الناس انتظروا منتصف شباط.
- تجمد النهر في منتصف شباط وراح
الثلج يتساقط بوفرة عند الصباح، لكن القرية خرجت بأجمعها تشهد الحدث الفريد، غص
الشاطئ بالشيوخ والنساء والأطفال، تدثر بعضهم بألحفة ثقيلة وبطانيات وقفت العجائز
راجفات مستطلعات، عيون الناس تنظر إلى النهر المتجمد، بدا صامتاً مخيفاً.. وقف ابن
الشيخ أمامي، أبوه واقف يسمع كلمات التحدي، أنا وابن الشيخ نتبادل الكلمات.. جدتي
ترقب المشهد، لفت عباءتها حول وسطها..
– هيا أبدءا السباق، قال الشيخ،
خلع ابن الشيخ ملابسه ولم أخلع.
– ماذا تنتظر، جبنتَ؟ صاح بي
الشيخ.. لي شرطان للسباق، قلت بثقةٍ.
– ماذا؟ أتشترط علينا يا ابن
السياسي؟.
- نعم، بغيرهما لن أتسابق.
– وما هما؟
- أولاً ان يكون سباقنا بعيداً عن
القرية، وحددت له المكان.
– وثانياً؟ صاح الشيخ.
- أن يأخذ الفائز ملابس الخاسر
وأن يعود الخاسر إلى القرية عارياً تماماً.
– أهذا شرط أم جنون ياابن الكلب ؟
صاح الشيخ وهو يرتجف حنقا.
– بغير هذين الشرطين لن يتسابق،
صاحت جدتي بتحد، هيا إلى المكان وسارتْ، تبعتها، تبعنا الشيخ وابنه وكل القرية.. عند
المكان الذي اعرفه، تعريت، نزعت دشداشتي، سلمتها لجدتي ونزلت إلى النهر.
– عند سماع الإطلاقة يبدأ السباق
وسوف أقتل من يتخلف، جاء صوت الشيخ.. أطبق الثلج عليّ، أبره الحادة راحت تنخس جسمي
الذي تجمد، كانت عيناي تربوان إلى الضفة الأخرى، رحت أسبح بكل قوة، نسيت كل شيء
غير الوصول إلى الضفة الأخرى.. هناك على الضفة الأخرى كانت النيران تشتعل جمع من
الناس يلقون الحطب عليها، نار تنتظر ابن الشيخ لتدفئه.
بقوة عجيبة كانت يداي وقدماي تحطمان
الثلج تفكان حصاره عن أضلعي الضعيفة .. عبرت، عند الضفة الأخرى ألتفت، لم أجد ابن
الشيخ، نظرت إلى الناس، كانت جدتي على الضفة الثانية تركض، جموع الناس تركض خلفها،
تحاول اللحاق بها، من يلحق جدتي إذا ركضت! عالياً كانت تحمل ملابس ابن الشيخ. لم
يستطع أحدٌ اللحاق بها حتى إطلاقات مسدس الشيخ المضطربة، وسمعتُ زغرودتين، كانت
جدتي تزغرد، أمي الصامتة تزغرد، زغردتْ جارة لنا، وراحَ مطر من زغاريد يهطل على
القرية، على أكواخها التعبة، طغى على إطلاقات مسدس الشيخ المضطربة.. ثم حدث شيء
آخر حيَّرَ الشيخ. نزلتْ جدتي إلى النهر، سبحت باتجاهي، دشداشتي الزرقاء ترفرف
بيدها كبيرق. نزلت أمي، نزلت جارة لنا، هرع الناس إلى النهر نزلوا فيه، عبروا
للضفة الأخرى نحوي، عبر الجمع نحوي، حتى أكواخ القرية ظننت أنها عبرت نحوي، صرت
أديم اشتعال النار، أذكيها، كان الماء دافئاً كان الجو دافئاً، دفأته زغاريد
القرية وأشعة الشمس التي افتقدها الناس منذ زمن وحرارة الأجساد التعبة.. احتضنني
جدتي، أطلقت زغرودة وألقت ملابس ابن الشيخ في النار.!!
........................ ..
القصة من المجموعة القصصية
" الحزن على طريقة وردة"
للأديب العراقى عيسى عبد الملك
0 comments:
إرسال تعليق