خلافا لكل التوقعات الغربية المتبجحة ، لم يعلن الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين " عن شئ مما تسابقوا إليه ، فلا هو أعلن عن انتهاء عمليته العسكرية الخاصة فى أوكرانيا ، ولا هو أعلن تغييرا جوهريا فى قواعد اللعبة الجارية ، ولا قفز إلى إعلانها حربا روسية كاملة الأوصاف ، تستدعى اللجوء إلى حالة الطوارئ والتعبئة الشاملة ، بل بدا "بوتين" فى حالة ثبات انفعالى مدهش ، تليق بلاعب شطرنج ولاعب "جودو" محترف ، وقال أن الأحفاد سينتصرون لميراث الأجداد ، وأن النصر العظيم الذى حققه الأجداد قبل 77 سنة على النازية الهتلرية ، سوف يحدث مثله فى "العملية العسكرية الخاصة" ضد من أسماهم بالنازيين الجدد فى الميدان الأوكرانى ، وأن عصر استفراد أمريكا بمصائر العالم قد ولى ، وأن الروس اليوم يحررون وطنهم "الأم" حتى حدوده التاريخية فى "الدونباس" وما وراء "الدونباس" ، وأعاد التذكير باعتقاده أن التحرك العسكرى الروسى كان "الحل الوحيد الصائب" .
وعشية احتفال "بوتين" بعيد النصر السوفيتى ، كانت الأمارات
تتدافع إلى النهاية المتوقعة منطقيا ، عبر قراءة خط سير الحوادث ، وهو ما أشرنا
إليه فى مقال سابق بعنوان "نهايات صيفية" ، توقعنا فيه أن تمتد العملية
العسكرية الروسية إلى مدار شهور سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر المقبل ، وأن يعلن الرئيس
الروسى وقتها التوقف عن إطلاق النار أو
الهدنة ، فى اللحظة التى يفرض فيها وقائع على الأرض ، لا تكون عندها من فرصة
للتراجع عن أهدافه المعلنة من البداية ، وباتفاق سلام أو من دونه ، وهو ما يجرى
فعلا ، وبهدوء عسكرى متمهل ، لا يعبأ كثيرا بالصخب الغربى الأمريكى والبريطانى
بالذات ، ولا بطلب الرئيس الأمريكى "جو بايدن" لاعتمادات مالية جديدة من
الكونجرس تضيف 40 مليار دولار إلى ذخيرة التدفق العسكرى فى الميدان ، وبهدف أمريكى
معلن ، عنوانه "إضعاف روسيا" ، وربما هزيمتها وتفتيتها ، وخلع "بوتين"
بثورة متوهمة ، دفعت الرئيس الأمريكى إلى إحياء قانون قديم صدر أواخر الحرب
العالمية الثانية ، يكفل سرعة نقل ووصول السلاح الأمريكى عبر جسر جوى إلى أوروبا "الأوكرانية"
هذه المرة ، وعلى ظن أن التاريخ قد يعيد نفسه على طريقة استنساخ "النعجة
دوللى" ، ويلقى بوتين مصير هتلر ، تماما كما بدت كل سياسات "بايدن"
منقولة بالحرف عن عصر الحرب الباردة الطويلة زمن الصراع مع السوفييت ، التى انتهت
بانهيار الاتحاد السوفيتى ، وإذلال روسيا من بعده ، وهو ما لم يعد ممكنا بعد صحوة
روسيا مجددا ، واستيعابها لدروس ما مضى ، وبعد التغير الواسع العميق فى توازنات
الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح على خرائط الدنيا ، واستناد روسيا على جدار التفوق
الصينى الزاحف إلى القمة الدولية باقتدار ، والتكامل الروسى ـ الصينى الزائد
الذاهب إلى "علاقة بلا حدود" ، وليس الرئيس الأمريكى وحده فى سياسة
استنساخ "النعجة دوللى" ، التى نفقت بأمراض الشيخوخة المبكرة بعد ست
سنوات لا غير ، ووضعت بقاياها للعبرة فى متحف "اسكتلندى" ، بل بدت القصة
ذاتها مؤثرة متجددة فى موطنها الأصلى ، وسايرتها بريطانيا التى كانت امبراطورية
عظمى فى زمان صار بعيدا ، وتحولت إلى دولة من الدرجة الثانية بعد هزيمتها
التاريخية فى "حرب السويس" المصرية ، لكنها تتصرف مع روسيا الجديدة بروح
"أنجلو ساكسونية" متعجرفة ، وتلجأ إلى نوع من "الريبيرتوار" المسرحى
، تعيد فيه عروضا قديمة ذهب أوانها ، تماما كما يفوت اليوم زمن القوة الأمريكية
المنفردة المتسلطة كونيا ، ولجأت لندن أكثر من واشنطن إلى عروض "كاريكاتيرية"
مثيرة للسخرية ، تأمل ـ مثلا ـ تصريحات بريطانية صدرت متواقتة مع "عيد النصر"
الروسى ، بينها تصريح عجيب لوزير الدفاع البريطانى "بن والاس" ، قال
فيها بالنص "أن أوكرانيا قادرة على تدمير الجيش الروسى" ، قبلها نصح "بوتين"
بألا يختبر بريطانيا ، بدا الأمر فكاهيا ، خصوصا بعد بدء تساقط ضباط وجواسيس
بريطانيين فى قبضة القوات الروسية ، وبدء العد التنازلى لانكشاف "خبيئة
آزوفستال" على ما تحمله من انفضاح أسرار الحشد الأمريكى البريطانى ونشاطه
المريب فى أوكرانيا ، ليس اليوم فقط ، بل منذ ضم روسيا لشبه جزيرة "القرم"
عام 2014 ، وهو ما لا يتخفى به المريب الذى "يكاد يقول خذونى" ، وتدل
عليه التقارير اليومية للبنتاجون ووزارة الدفاع البريطانية عن مجريات الحرب
الأوكرانية ، وكلها تؤكد على ما تزعمه من هزائم لحقت وتلحق بقوات الجيش الروسى ،
وعلى انهيارات متسارعة فى الدائرة اللصيقة بالرئيس الروسى ، وعلى تخاريف من نوع
إصابة الرئيس الروسى بالسرطان أو بالشلل الرعاش ، وعلى اعتقال "بوتين" لوزير
دفاعه الجنرال "سيرجى شويجو" ، وعلى اكتئاب الأخير وتعذيبه ، ودخوله إلى
غرفة العناية المركزة ، وعلى سواها من ركام الأكاذيب المذاعة على مدار الساعة
كاشفة للأمنيات وكأنها حقائق ، وقد سقطت بالجملة فى احتفال "9 مايو" ،
الذى استعرض فيه شويجو قواته بفخر ظاهر ، وبدا فيه الرئيس "بوتين" بكامل
الصحة والعافية واليقظة الذهنية المتألقة ، بينما يدورالخصوم فى متاهات الغيبوبة
النفسية والعقلية ، وتتوالى حلقات مسلسل "الخرف" الذى يضيع فيه العجوز "بايدن"
، وتميد الأرض تحت أقدام رفيقه وتابعه رئيس الوزراء البريطانى "بوريس جونسون"
، الذى ذهب إلى الهند ، كما ذهب قبلها إلى السعودية ، وفى مسعى خاب لردع أطراف
مؤثرة عن التعاطف أو التبادل التجارى مع روسيا ، وأفلتت من فمه فى زيارة الهند
عبارة تلقائية صريحة ناطقة ، قال فيها بالنص "أنه لمن المحزن أن احتمال
انتصار بوتين يبدو أمرا واقعا" ، لكن "جونسون" لم يتوقع احتمالات
هزيمته شخصيا ، وفى عقر داره ، حين جاءت الانتخابات المحلية البريطانية الأخيرة
بنذر كوارث ، تعده ليس فقط بالخروج الإجبارى اللاحق من منصب رئيس الوزراء ، بل
بمخاوف مضافة على مصير "المملكة المتحدة" نفسها ، مع الغلبة المفاجئة
للقوميين الاستقلاليين الانفصاليين فى "اسكتلندا" و"أيرلندا
الشمالية" ، بل فى "ويلز" أيضا ، ومع هزيمة واسعة لحزب المحافظين
الحاكم فى "إنجلترا" نفسها ، وكأن أحلامه فى تفتيت روسيا انقلبت إلى
كوابيس فى مقاطعات بريطانيا أولا (!) .
ولم يعد من شئ فى القصة خافيا ، فلسنا بصدد حرب محدودة لروسيا فى أوكرانيا
المجاورة ، بل بصدد حرب ذات طابع عالمى ، دخلتها ضد روسيا 43 دولة اجتمعت فى قاعدة
"رامشتاين" الأمريكية على الأراضى الألمانية ، ومن دون أن تؤدى الحرب
الشاملة إلى شئ مما زعموه عن "عزل روسيا" ، فبرغم آلاف العقوبات المالية
والتجارية غير المسبوقة ضد موسكو ، وبرغم إشاعة العداوة العنصرية الكارهة لكل ما
هو روسى ، وبرغم تدفق السلاح "الفتاك" من كافة الأنواع والأجيال إلى
الميدان الأوكرانى ، وبرغم الحملة المحمومة عالميا ، فإن شيئا مما أراده الغرب ،
ومما أرادته واشنطن ، ومعها الحلف "الأنجلوساكسونى" بالذات ، وكلها
أهداف وأمانى معلنة ، لم يتحقق منها شئ فى الواقع المنظور ، بل ربما تحقق
الكثيرعلى العكس منها ، فقد تكون التعبئة الضارية قد أدت إلى نوع من إعاقة التقدم
العسكرى الروسى ، لكنها لا تمنع قدرا تاريخيا يبدو مرجحا ، هو النصر الروسى
العسكرى المحقق ، وطبقا لأهداف موسكو المعلنة ، و"الأرض تكذب الهجاصين" كما
يقولون ، فبرغم انسحاب القوات الروسية من حصار "كييف" ، والتركيز أولا
على جبهة الشرق الأوكرانى ، وتبنيها لتكتيك عسكرى ، يهدف إلى خفض الكلفة المالية
والبشرية ، واعتماد سياسة القصف الصاروخى والجوى لكل مناطق أوكرانيا ، ومداومة
التدمير اليومى لمخازن وخطوط نقل السلاح الأمريكى والغربى ، مع اتصال الزحف البرى
بنفس بطئ هادئ ، يقضم أراضى إقليم "الدونباس" بلدة فبلدة ، وصل إجماليها
حتى كتابة السطور إلى خمسة وثمانين بالمئة من إقليم "الدونباس" الأغنى
بموارده المعدنية والزراعية والصناعية ، ولم تبق فى "الدونباس" مدن مهمة
خارج حوزة الروس والقوات الحليفة ، سوى "سلافيانسك" و"كراماتورسك"
، وهى ستسقط حتما كما يبدو ، إضافة لاستيلاء الروس على مقاطعة "خيرسون" الجنوبية
منذ بداية الحرب ، وعلى أجزاء كبيرة من مقاطعات "خاركيف" و"ميكولايف"
و"أوديسا" ، والاقتراب الحثيث من قطع اتصال ما يتبقى من أوكرانيا بالبحر
الأسود ، بعد ضم "بحر آزوف" و"ماريوبول" بكاملها ، وكلها
تطورات مرئية ملموسة ، شجعت على زيادة الشروخ فى التحالف الغربى الأوسع ، الذى
اندفعت إليه أطراف بالحرج وبالإكراه الهستيرى ، وبينها ألمانيا وفرنسا ، وهو ما
يفسر حرص الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون" على مداومة الاتصال بالرئيس
الروسى ، وكلامه عن التوصل لاتفاق بعيد عن خرافة "إذلال روسيا" الأمريكية
البريطانية ، مع تعليق رغبة أوكرانيا بالانضمام للاتحاد الأوروبى ، وتصاعد
الخلافات الأوروبية فى جدوى العقوبات المزمعة ضد موارد الطاقة الروسية ، والانتعاش
المذهل لعملة "الروبل" الروسى ، وغرق أوروبا وأمريكا فى دوامة التضخم
وغليان الأسعار ، واحتمالات ذهاب "بايدن" إلى محنة الوهن والغياب
السياسى ، وربما إلى مزابل التاريخ .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق