تعاريج ومنعطفات دماغي مكتظةٌ
صمتاً ، بوحٌ أبكم يُلامس كلّ مسامات جسدي ، همسٌ يلج أحاسيسي ، صقيع شوقي يثلجني
، وصف حالتي لا تليق به أي أبجدية . حتّى الدُمى التي هي من قشّ تصرخ وهي تحترق ،
صراخها صامتٌ كالدخان في متحف الظلم ، ككابوسٍ طويل .
اليوم يجب أن أستحم بماء الحقيقة !.
ثلاثة وستون عاماً أنكرني صدرُ أصدقائي ، تنصهر في
ذاكرتي خفقات الروح والجسد ، لا أحملُ عكازاً وأنا أُغادر الطريق الصعب بتاريخ
عمرٍ من الزمن يطوّقني بيديه العاتيتين ، حفلُ إبتهاجٍ ما كنتُ أملكُ أي مبررٍ
لرفضه !.
حضروا بفوانيسٍ ، أضاؤوها ، كانوا
حولي ، وكأنهم يريدون القول " بأنّ عليّ شخصياً اطفاء تلك السنين من عمري
كجمراتٍ خافتة بين تلك الفوانيس ".
إنهم على حق ، ربما عن وعيٍّ
وادراك ، لذلك إنهم يقصدون تنفيذ هذا الطلب ولآولِ مرّةٍ في حياتي .
حدّقتُ مطوّلاً وبذهولٍ مشوّه في
الفوانيس ، فرأيتها متهالكة الأنوار قرب أطباق الفواكه والحلوى ، إنها تحترق وتنوس
، كأن الظلام قد أطفأ ملايين البيوت في العالم ، لكني " صاحب الثلاثة
والستين فانوساً " بمقدوري أن
أُضيؤها وقت ما أشاء وفي اللحظة التي أُقرر .
كان النور المنبعث من الفوانيس
باهتاً ، خريفياً كمحطات عمري الرمادية التي مضت دون تجربةٍ حقيقية .
بالأمسِ قالت صديقتي :
أنت بلا رأي . " قالتها هكذا
...
غضبتُ ، فقد كنتُ أظنُّ أنني
أتبنّى موقفاً ما ، وأشياءٌ كثيرةٌ تقنعني داخل ذاتي لرفد هذا الرأي في كلّ لحظةٍ
بالكلمةِ وبالفعل ، فأنا أملكُ ضرورة التعامل مع المواقف ، حتّى صديقتي كانت
ضروريّة خاصّة .
" أنتَ بلا رأي " .
قالتها بحتميةٍ وهدوء ، وبوجهٍ
رسمت تقاسيمه شكلاً فوضويّاً من أشكالِ اللؤم ، وكأنها كانت تقتنع تماماً بأن ما
افترضته لحظتها كان واضحاً كالشمسِ في عينيها ، لذا انفجرت محاولاً اثبات العكس ،
طفقتُ اتحدّثُ عن اشياء ومواقف كنت سببها ، وأخرى لم أكن طرفاً فيها ، لكني
اقتحمتها . فسّرتُ صمتها واستماعها لي على أنه نوعٌ من الفعلية الذاتية ، لتفسير
الوصفية الشخصية .
هكذا مرّ كل شيءٍ في تلك الليلة ،
كقطارٍ رقمه " ثلاثة وستون " مضى
حديداً جامداً على الأرض دون مسافرين .
ثلاثة وستون ، محطةٌ لم توضع بها حقيبةُ سفرٍ واحدة ،
ثلاثة وستون فانوساً تضيء تحت وهج الشمس ،
ثلاثة وستون عاماً تنام قرب بعضها كأوراقٍ
خريفيةٍ صفراء ، جافّة ، لا تلبث أن تحملها الريح وتمضي دونما هدف ، ثلاثة وستون عاماً مترهلاً ، بائساً كعجوز شُلّت
ساقاه ، يتوكأ عصاً منخورة هشّة .
قالوا " الاحتفال بالعمر ليس
إلاّ فاصلة لتطوير الذات ، وسموّها بالانسان نحو الأفضل " .
أعجبني الحديث ، بل راقت لي
كلماتهم .
أحسستُ بأنها ستكون فاصلة لالتئآم
جرحٍ يتوسد خاصرتي ، وها أنا أقف أمام فوانيسي " الثلاثة "، ينطفىء المكان والزمان ، كلهم يصفقون ،
يهنؤون ، يستقبلون صفحةً جديدةً من كتاب " الستين " دون مقدمةٍ أو عقدةٍ أو تسلسلٍ منطقي أو نهاية
مشوّقة .
ذهولي يكبر الآن ، يراودني إحساس
بأنني أقف على عتبات الفصل الأول ، من العام الأول ، في المحطة الأولى ، سمها
كيفما تشاء ، لكنها في النهاية تماماً كاستقبال الأرض البور المجدبة لأولِ قطرةِ
غيثٍ حقيقية تتركُ أثراً أبدياً وعمقاً ملحوظاً .
أقبض على نفسي ، أحسُّ
بالثلاثة والستين من الزمن التي تطوّقني ،
قد صارت حزينة من أجلي ، بل من أجلِ نفسها ، " أيعقلُ أنه لم يكن يُمارس
الرأي ؟! " ، إذن ، فما بال الطفولة الضائعة ، الفقر ، العذاب ، السجن ،
النفي ، الغربة ، القهر ، التهميش والتشريد ، " كل ذلك بلا رأي ؟ ! " .
إننا ننتظر لحظةً فاصلة ، فاصلة
الزمن المفلس ، زمني المنفي والمشرّد على جنبات التاريخ ، كتذكرة سفرٍ غير صالحة
ومشوّهة .
مهلاً أيها الأصدقاء ، يجب أن
تكون الفوانيس مطفأة . ويجب مطالعة الرواية من صفحتها الأولى ، وعليَّ تجديد
التذكرة لأبدأ السفر من هذه المحطة .
قالوا : أنيروا الفوانيس .
قلت : لا ، بل انتظروا قليلاً .
أحسستُ بضياعٍ ذاتي في محطاتٍ متناقضة مليئة بالحواجز ، أزدادُ حماساً
كلما أُخالُ " أنهم " يتخذون موقفاً ضدي .
يستولي عليَّ ، بل يداهمني تفكيرٌ
فجائي بالهرب ، كما لو أن تلك السنين تنتظم فوق بعضها البعض كحزمة ملفاتٍ أضعها
تحت إبطي وأتسلل من بينهم .
كم كنت أتمنى لو قام أحدهم
باستبدال الفوانيس بالشموع ، ولكن ! .
أرى الآن من يتقدّم نحوي من بين
الجمع المتكتل حولي كألواحٍ زجاجيةٍ صمّاء ، تفتحُ ثغرها باسمةً ، بلمعانٍ متألق
في عينيها الوادعتين ، إقتربت منها بخشوعٍ ، تلوتُ قصائدي بمعبدها ،خشيت أن يشتعل
كبريت شوقي فأحترق ، تمتمت " سأكون معك حين لا أحد " ، أنفاسها فاحت من
كل مسامات جسدي ، رتّلتها بما تيسّر من رغبةٍ ، انفلتت الحزمة عن بعضها ، تناثرت ،
راحت تتراقص أمامي على المائدة ، كل مع فانوسه ، كما لو أني أخطو الخطوة الأولى
بعد شللٍ دام ثلاثة وستين عاماً .
0 comments:
إرسال تعليق