الرواية التي بين أيدينا نحاول تأطيرها بمفهومين مختلفين متكررين غالباً لكنهما منسيان؛ مفهوم التهميش، ومفهوم الصراع الذاتي المتداخل مع واقع مشتت. فكيف يكون المدخل لمعرفة أية اشكالية إن كانت هناك فعلاً مسألة يحتاجها المتلقي الباحث عن خفايا ما في أي كتاب، وما هي اهداف كاتبه؟
رواية "نسوة روميل" بنسقها التصاعدي؛ انبثقت من تهميش "أم الوليد"، تلك المرأة القروية البسيطة بما تحمل من عقيدة وفكر، ونزعة أنثوية سُلبت منها بالتقريض والإهانة من زوج لا يعرف ما هي الأنثى؛ واحدة من ضحايا التعسّف الاجتماعي والعنف الأسري غير المكتشف؛ التي تظل صورتها للنهاية تتحكم بتطويق الأحداث، وما تؤول اليه النتائج المشبعة بالغموض، وكيف تكون الحاجة للمرأة حين تقفز صورة الجميلات لتركيب اثارة ورقية كواحدة من بؤر النص المثيرة، فيها الصحيفة محرك تفاعلي مضمرة، بلا إرادية منسية، تشير عن بعد لنوع متطرف من الطغيان، لم يفلت من قبضة التاريخ.. يبدو من مقدمة السرد الوصفي المحكم بغزارة دلالاته أن ذلك الرجل (الزوج) لا يعرف حتى معنى الأبوة؛ أبوته لابنه "الوليد" بطل الرواية.
دخلت كاتبة الرواية فاطمة حفيظ لعمق واسع في نفسية أبطال روايتها، تقود القارئ لشيء تأتي تتمته بلاحق تشويقي آخر تبدأ عبره دهشة التلقي ليتابع بعدئذ دون الاصابة بملل القراءة، وهذا ما عرفناه عنها في روايتها الاولى "شمعون" لتشق طريقها اليوم خلال منفذ اختارته ضمن المسيرة الابداعية التجديدية في الكتابة حين تستخلص خلاصة ثقافتها من موروثها البيئي، والاجتماعي عبر موطنها الجزائر وتلك القرى التي لم تعرفها ربما خارطة جغرافية غير ما تتناقله الأسماع. من يقرأ البداية يظن أنَّ الحكاية جرت قبل عشرات طويلة من السنين، لكنها كانت قبل سنوات قليلة ماضية. مع كل ذلك من الصعوبة بمكان الإقرار بأن ما أرادته الكاتبة هو الحقيقة بأجمعها ليجلّيها النقد، لكنَّ المؤكد أنها جزء مهم من الحقيقة نفذت منه تحليلياً وسطرت صوراً شتى تجمع بها ألوان الماضي والحاضر، وهذا دليل على قوة ارادة الكاتب وثقته بنفسه اذا أراد الولوج لعالم كتابة الرواية بلا خوف وتردد كمحاولة لا تعدو أن تكون سوى نشر رسالة اعلامية أدبية جديدة تنهض بالأدب والأديب، والكاتب وما يكتب، والمُنتج وما ينتج من عطاء؛ هدفه أولاً وأخيراً خدمة التنوع الثقافي الانساني قاطبة، وليس فئة أو جهة واحدة، وهذا أهم ما تبغية الروائية حفيظ لمن لم يعرفها على وجه التحديد.
في "نسوة روميل" تتصارع الاحداث مع بعضها لتشكل صدمة بنائية جاءت من التركيب اللغوي الوصفي المتقن، ليعطي حينئذ ذلك الوصف بما يحمل من ايقاع حزين ما يريده الكاتب من المعاني، وما يتخلله السرد من الجمال، التي ينبغي توفرها في أي نصٍّ، وهذا ما أكدناه في نظريتنا النقدية التجديدية "نظرية التحليل والارتقاء". أما سيكولوجية النص وفلسفته، فينطلقان من المفهوم الموضوعي للكاتب، وكيف كانت خطته في صنع العمل كي تأتي الرسالة بمضامينها المطلوبة.
في هذه الرواية، لمن يقرأها، سيجد أنَّ أول الرسائل الاتصالية هي الاقتباسات قبل عناوين الفصول بقصدية غائية، تسعى تكرارها على ما يبدو الكاتبة كل مرة هنا وفي روايتها الأولى، لتوضيح أنَّ هناك اشارة يجب الالتفات اليها كتمهيد قبل الدخول للمتن السردي اللاحق في الفصل الآتي بعد قليل، وهكذا.
ثمَّ يأتي الصراع مع الذات بعد أن يكبر "الوليد" ويتعرض لمجموعة من الصدمات تسلب بها حريته وأشياء ثمينة من وجوده كإنسان استعارت الكاتبة منها مفاهيم كثيرة تناولها علم النفس والعلاجات النفسية، ليس كحالة منفردة حسب، بل هي نفي قسري روحي ووجداني تتزعزع به الحياة لتحول الإنسان الى غير انسان، والبيئة الى غير بيئة، وتنفّس الهواء الطلق لا يكاد يحصل عليه من يتجرع تلك الويلات. أضحت أفعاله وسلوكياته ذاكرة حيّة متّصلة عشوائيًا بماضيه، ويمكنه أن يتعامل معها ويجسّدها بسهولة مطلقة بشكل فوضويّ وصحيح، وذاكرة أخرى ميّتة تمامًا.
الــــ (نوستالجيا) جاءت كبؤرة وارتكاز مهم في هذه الرواية؛ حنين "الوليد" لأشياء قديمة، طفولية كأحلام اليقظة تأتيه تارة في نومه، وأخرى هواجس نفسية جعلت من طبيبه المعالج الدكتور عبدي عاملاً مسانداً حتى: " أضحت أفعاله وسلوكياته ذاكرة حيّة متّصلة عشوائيًا بماضيه ويمكنه أن يتعامل معها ويجسّدها بسهولة مطلقة بشكل فوضويّ وصحيح، وذاكرة أخرى ميّتة تمامًا" كما وصفتها حفيظ مستعينة بالقاموس النفسي لمثل هكذا حالة. لم يرَ "الوليد" أباه ولم يعرفه؛ لكنه عرفه على حقيقته معتذراً منه في رؤيا وصفها صديقه الاعرج في ذلك الدهليز المظلم بأنها ربما صادقة!
حاولت حفيظ كثيراً في روايتها هذه صنع حبكة حوارية تتضمن استمرارية الابتكار اللغوي الانساني المتجدد الذي سيؤدي حتماً الى توسعة نقل الالفاظ والمعاني في جو عام تتضمنه الرسالة الاتصالية في التواصل البشري الفني الابداعي، واكتشاف امكانية سهلة في تناقل التراث الانساني، أو إيصال الصوت بعيداً بكل يسر وسلام لاسيما ونحن نعيش في زمن يحاول فيه الجميع الوصول لكل شيء من حيث يدري أو لا يدري، وطرحه عبر رؤيته الشخصية، من خلال انبعاث فكري يتضمن انتاج فلسفته الحياتية، ومدى تصورات يراها معقولة ومقبولة، لكن قد يراها غيره عكس ذلك، من هنا يتولّد الابداع التجديدي، لاسيما هناك من سيأتي بعده ويضيف عليه، سواء كان ناقداً، أو منتجاً لعمل آخر؛ يضيف به الى المشوار الإنساني العام بعضاً جديداً.
نجد أيضاً في هذه الرواية بؤرة مهمة تتعلق بالذاكرة والزمان والمكان اللذين أولتهما الكاتبة اهتماماً خاصاً بين ثنايا السياسة والاجتماع، والفقر والحاجة، بين الألم والمرض والموت، وعموم دوران ماهية الحدث الآني. ذاكرة "الوليد" المفقودة، بطل الرواية وصانع الأحداث، أحتلت حيزاً كبيراً ومهماً، وعلاقته بالطبيب تتحول من شكل لآخر، لكن الصراع يبقى في كل مرة متميزاً بطابع له حيثيات خاصة يسير معها "الوليد" كمن يسوقه القدر لمجهول لا يعرف أين ينتهي به.
نهجت الكاتبة كصانعة للإبداع منهج الالتفات الى كل ما يجري حولها بمحاولة التجرد بعيداً عن كل انتماء غير انتمائها الحقيقي لمذهب الثقافة وروح الانسانية بوعي تام شعوري محسوس حاولت به تتشكل العلاقات المعرفية والدلالات العقلية الناصعة كإضاءة صريحة وليست مضمرة في صنع الحدث وتراكيب قصيرة الحوار، متغيرة مع كل فصل يبدو منها ما بُذل من جهد يستحق التأمل لما جاءنا كقراء من أسلوبية اختصّت بها فاطمة حفيظ، الاستاذة الجامعية، المتمرسة على التحاور مع طلبتها بطرح الأفكار بعيداً عن التلقين العشوائي، وهنا تجدر الإشارة كتوصية للنقاد التجديديين بضرورة معرفة خلفية النَّاص الثقافية والمعرفية كي لا يسهب الناقد بمدح من لا يستحق، أو يظلم صاحب الإبداع الحقيقي؛ بمعنى أدق، لابد للمنهج النقدي الموضوعي من الحضور الدائم كرسالة ناصعة، كي نرتقي نحن النقاد بالمبدعين. وننتشل من يصل الى الغرق بعيداً عن التشكيك والقفز فوق النص وصاحبه، ونعطيه الاوكسجين النقي بدلاً عن خنقه لأنه ظهر تواً كإسم للعلن، لم يُعرف من قبل، هنا تكون وظيفة الناقد أبوية روحية صادقة اذا ارتقى بمن يحتاج المساعدة، أفضل مما تكون وظيفته كسياف ينتظر أخذ الروح بضربة واحدة.
مع تلاحق سرعة الاحداث، وتفاوتات تنوعاتها يومياً، يبقى السؤال المهم والمحير والخطير:
هل هناك امكانية لها القدرة بعزل الانسان عن الزّمن والمكان والأحداث، وهو وسطها يتجوّل؟
هذا ما تجيب عنه رواية "نسوة رومل".
*كاتب الدراسة
اعلامي وناقد عراقي
0 comments:
إرسال تعليق