يبدو أن الإدارة الأمريكية جادةٌ هذه المرة في الإعلان الرسمي عن بنود صفقة القرن، وستكشف للجميع عن بنودها فعلياً في الساعات القليلة القادمةِ، رغم أن الوعود السابقة التي قطعها الرئيس ترامب شخصياً ومساعدوه على مدى ثلاثة سنوات، وأخل فيها بوعوده ولم يلتزم بمواقيته، واكتفى بالتسريبات غير الرسمية العامة المتقطعة، لا تجعلنا نصدق كلامه ونثق بتصريحاته، فقد اعتاد على التقلب والانقلاب، واستعذب الصدمات والمفاجئات، وراقت له السياسة وإدارة العالم عبر شبكة "تويتر"، التي ينشر عليها تعليقاته وقراراته، ويكشف فيها عن سياساته وتوجهاته، بما فيها إقالة كبار مساعديه، وإهانة خصومه ومنافسيه، وتحقير المرأة ومنتقديه، وكيل الاتهامات لحلفائه ومؤيديه.
إلا أن الأمر يختلف هذه المرة عن سابقاتها، فالظروف الصعبة التي يواجهها، والتحديات الداخلية التي يتعرض لها، والفوضى والصخب التي أثارتها جلسات الاستماع النيابية حول الاتهامات الموجهة إليه، فضلاً عن أزمة الاستعصاء السياسي التي يشهدها الكيان الصهيوني، والطريق المسدود الذي يسير فيه والذي سيصطدم حتماً بجدرانه المصمتة في انتخاباته الثالثة، فضلاً عن الحالة المشابهة التي يعيشها نتنياهو، المهدد بالمحاكمة والسجن، والخائف من الإقصاء والطرد، والفزع من اللعن والجلد، تجعل من إعلان الإدارة الأمريكية عن صفقة القرن قبيل الانتخابات الإسرائيلية الثالثة، أمراً جاداً وخطيراً، وإيذاناً رسمياً بالانتقال من مرحلة الإشاعة إلى الحقيقة، ومن التنظير إلى الممارسة، ومن التهديد إلى الفعل.
وعليه فقد بات الفلسطينيون اليوم، وهم أم الولد، في مواجهةٍ حقيقيةٍ مع ترهات هذا الرجل المأفون وإدارته العنصرية، وإجراءاته العملية المجنونة، فالأمر بات جللاً والتهديد أصبح عصفاً والجعجعة صارت طحناً، ولم يعد هنالك مكانٌ للتروي والانتظار، والترقب وفحص النوايا واختبار السياسات، فالقادم جدُ خطير والآتي أصعب من كل تقديرٍ، لكن لا ينبغي علينا أن نخاف من مواجهته أو التصدي له، إذ ليس عندنا ما نخشاه أو نخاف منه، فأرضنا محتلة، وحقوقنا مسلوبة، وديارنا مسكونة، ومقدساتنا مدنسة، والعدو منذ ما يربو على الخمسين عاماً يعيث في أرضنا فساداً وتخريباً، ينهب ويسرق، ويغتصب ويصادر، ويطرد ويقتل، ويهدم ويدمر، ويحاول شطب الهوية وتغيير الشخصية، ظاناً أنه يستطيع استيلاب الفلسطينيين حقوقهم في المستقبل ووجودهم الآتي في أرضهم التي كانت وستبقى لهم.
نحن نعيش الاحتلال البغيض نفسه الذي ساندته قديماً ولا زالت قوى الشر وأيدته دول الباطل، واليوم تؤازره أمريكا وتقف إلى جانبه بكل قوتها، بل إنها تمده إلى جانب السلاح والعتاد بالأفكار الشيطانية والمخططات العدوانية، لكننا على مدى سنوات الاحتلال كلها صمدنا وثبتنا، وناضلنا وقاومنا، وقاتلنا وتحدينا، وما هُنَّا ولا استسلمنا، ولا ضعفنا ولا يأسنا، ولا فرطنا ولا تنازلنا، ولا زلنا على مواقفنا الثابتة التي منعت العدو وأجبرته على التراجع عن كثيرٍ من خططه ومشاريعه، ودفعته إلى تأخيرها أو شطبها، لعلمه أن هذا الشعب صعبٌ عنيدٌ، وقويٌ شديدٌ، يمر بمراحل ضعفٍ وهِنَةٍ، لكنه لا يسلم تسليم الذليل، ولا يرفع راية الهزيمة والخضوع.
فلا تظنن أمريكا ومعها الكيان الصهيوني أنهما الأقويان، ولا يعتقدن الفاسدان الآبقان أنهما سينجحان فيما يخططان، وسيتمكنان في تنفيذ ما يعلنان، فهذه الأرض الفلسطينية أرضٌ عربيةُ الانتماء إسلامية الحضارة، لا يمكن شطب هويتها أو مسخ حضارتها، ولا تغيير شكلها وتزييف معالمها وتبديل شواهدها، ولعل الإمعان في العلو والمبالغة في الغلو، والتطاول على الحق والتصدي لمعايير العدل وقيم الكون، سيعجل في الانقلاب عليهم وإفشال خططهم، بل إن صفقتهم تنذر بسقوطهم وتعجل في نهايتهم.
لكن مواجهة صفقة القرن والتصدي لها، وإفشالها ومنع مفاعيلها، لا تسقطها هبةٌ عابرةٌ ولا غضبةٌ مؤقتةٌ، ولا تصريحاتٌ شعبيةٌ ورسميةٌ صاخبةٌ، ولا استنكاراتٌ عالية النبرة شديدة النقمة، تضعف تدريجياً وتنتهي بعد حينٍ، ولا يكون لها أثر ولا ينتج عنها أي فعلٍ، مما اعتاد عليها أعداؤنا ووطنوا أنفسهم عليها، واستعدوا لمواجهتها ببعض الخطط والاستعداد لتحمل النتائج والصبر على التداعيات، التي خبروها كثيراً وعلموا أنها تخبو بسرعةٍ، وتنتهي بعد قليلٍ وحدها يأساً وقنوطاً أو عجزاً واستسلاماً.
كما لا تسقط الصفقة اللعينة بمظاهراتٍ ومسيراتٍ، ومواجهاتٍ واشتباكاتٍ، يستشهد فيها شبانٌ فلسطينيون يافعون، غاضبون ثائرون، مندفعون صادقون، ومتحمسون غيورون، ويسقط فيها مقاومون ناقمون غاضبون، أقوياء جلدون، لكنهم يسيرون دون خطةٍ مدروسةٍ وغايةٍ معلومةٍ، وعلى غير هدى وبصيرةٍ، وبالقليل من السلاح والذخيرة، وبدون قيادةٍ وإدارةٍ، وفي غياب السند والظهير، فيضحون بأنفس ما يملكون في حياتهم، أرواحهم وحرياتهم، دون أن يرف لهم جفٌ خوفاً، أو ترتعد فرائصهم جبناً، بل يقدمون على التضحية إيماناً والتصدي وجوباً، يقيناً منهم أن الخطب يفرض عليهم التضحية ويستدعي منهم العطاء بسخاءٍ دون حسابٍ.
أمام هذه المحنة الجديدة والخطب الآتي، وفي ظل استعداد الشعب وجاهزيته، وقدرته وجديته، فإنه ينبغي على قوى الشعب الفلسطيني وفصائله، وسلطته ومقاومته، أن يدركوا أن التصدي لهذه المؤامرة يلزمه وحدةٌ وإرادةٌ، وتراصٌ واتفاقٌ، وعزمٌ وقوةٌ، وبرنامجٌ وخطةٌ، أولها التخلي عن أم الكبائر أوسلو، والكف عن معرة التنسيق الأمني، والانطلاق نحو وحدةٍ جامعةٍ وإرادةٍ موحدةٍ، واستعادة نهج المقاومة وخيار المواجهة، والعودة إلى زمن الثورة وأيام العاصفة، فهي وحدها التي تخيف العدو وتردعه، وتصفع ترامب وتحقره، وتلجمه وتخرسه، وتضع حداً لعنتريته وعنجهيته، وبغير ذلك ستمر المؤامرة، وسينجح نتنياهو في تحويل محنته إلى منحة وأزمته إلى فرصة، وسيصنع من مشاكله الشخصية نصراً لشعبه أبدياً، وعلواً لكيانه عصياً.
بيروت في 26/1/2020
0 comments:
إرسال تعليق