انتظروا مقالته
الطويلة ؛ الجموع كانت تئن ، و النفوس مصدومة، و الأموات متناثرون ، و الأحياء
أصابهم الجوع ، و منهم من أصابه الجنون
حاول أن يكتب فأحس
بالجمود و الوقت يمضي و أمسك قلمه ليسيل ما في قلبه على الورق
ابتعد عن تزويق
الأحداث و كتب : لم يكن في المكان أحد ، و غابوا جميعا و هبطت مكانهم جثث في كل
مكان و غابوا جميعا كأنهم وهم
فراسلته الصحيفة و
قالت : كيف ننشر هذه الكلمات على أنها مقال ؟ فقال : الكاتب هو إنسان ،و لن يستطيع
في هذه اللحظة الحرجة أن يكون كاتبا ، و سوف يتمادى في حقيقته كإنسان
صدرت الصحيفة في
موعدها و كان عموده ابيض كأنه الفراغ
و كتبوا تحته جملة
: لم يصل المقال من مصدره
قرأها فارتاح قليلا
، و لكنَّه قال : لم يصل المقال و لم تظهر أمام العالم جثثهم راحلون راحلون ، كلهم
راحلون ميتون
راسلته الصحيفة :
ننتظر منك مقالا فلا تعتذر
قال : كيف أُخرج من
أعماق الردم مقالاً ؟ كيف أغيب عن بكاء الأبناء و حرقة الآباء و الأمهات ؟ ما أراه
هو جوع و تشريد و سحق شامل للبشر و كل الساكتين ظالمون
قالت الصحيفة : و
لكن هناك مقالات ترفع راية التفاؤل فقال الكاتب : كلها مقالات كاذبة ؛ غزة مدينة
تحترق وحدها ، و الوقود الذي يؤجج النار هو السكوت المدهش ، و الخنجر المسموم الذي
يذبح المدينة و أهلها هو إقناع البشر أن هذه المجازر هي انتصار ، فلا تخدعوا
أنفسكم و لا تكذبوا الكذبة و تصدقوها ، إنَّ الصحيفة التي تنشر المقالات السعيدة
هي العائق الحقيقي أمام حقن دماء الضعفاء
تغاضت الصحيفة عن
الاتهامات و كأنها موافقة عليها
و قالت : إذا لم
ترسل مقالاتك ستكون مفصولا ، قال : لا بأس
فإن غزة تموت أنها تتعرض لأقسى إبادة بشرية و الكون صامت و الصحف صامته
و أخرج الكاتب
الكاميرا و صوَّر الجثث التي لا تجد من يدفنها ، و الجثث التي لا تجد من يستخرجها
من تحت الأنقاض ، و صوَّر رؤوساً مقطوعة متناثرة لرجال و نساء و أطفال ، و صوَّر
كذلك المجاعات و الخيام و المساعدات التي يمنع الأعداء وصولها ؛ و إذا وصلت تعرَّض
لها الجشعون ،
و صوَّر صوراً
كثيرة عن الدمار و الموت الكثيف ، ثم وجَّه كاميرته نحو الأفق ، و صَّور القذائف
التي تنهال دون رحمة و لا هيبة لأحد ، ثم جعل كاميرته تدور في المكان بحثاً عن
الإرهابيين الذين يطاردهم الأعداء ؛ فلم يجد إلا الأطفال و النساء و الشيوخ ؛
مقتولين أو أحياء جوعى و معذبين و مصدومين
و قال الكاتب
للصحيفة : هذا هو المقال و لا مقال أصدق منه
0 comments:
إرسال تعليق