وأنا في سن مبكرة .. كنت أراها.. إنها في السبعين من عمرها أو يزيد ..
سوداء اللون .. ولأادري أهو لونها الطبيعي أم أنها خواتيم الأعمال .. تملك بيديها
طرحة سوداء .. تحركها ذات اليمين وذات اليسار .. إنها لاتمل ولا تكل ولا يصيبها
نصب .. وإن ظلت علي حالتها لساعات طوال.
وعندما
كبر سني واشتد عودي .. عرفت إنها الندابة .. فقد كنت أراها عند كل بلوي أو مصيبة
.. وهي تجاهر بحنجرتها القوية التي لا تتناسب البتة مع جسدها النحيل.. وكان لها
بطانة من النسوة كن يرددن وراءها .. كل ما يدعوا إلي الحزن والألم والتذكير بمناقب
ومآثر الماضي الأليم .. وفي آخر الليلة كانت تتقاضي قروشاً زهيدة نظير ما قدمت
يداها وان شئت قل حنجرتها .
هذه العادة الممقوتة ظلت لسنوات طوال ثم اندثرت
وتلاشت .. إلا أنها طلت برأسها مرة أخري ولا أدري لماذا في شهر يونيو وفقط .. صحيح
أن الندابات كن نساءً وكنا نعدهم علي أصابع اليد الواحدة .. إلا أن الندابين في
زماننا أصبحن رجالاً أو أشباه الرجال .. تجدهم يتصايحون ويتقاتلون ويتباكون
ويولولون علي ما أصابنا في يونيو سنة 1967.
لقد
أطلقوا العنان لأنفسهم وهم المهزومون نفسياً وتمادوا في غيهم . منهم من أسند
الهزيمة لشعبنا الصابر والمقاوم وقد طالبوا بجلدة في ميدان عام . وآخرون قالوا وهم
الكذبة إن عبد الناصر يجب أن يحاكم حياً أو ميتاً . فريق ثالث أطلق العنان لأسنانه
لينهش في لحوم البشر كالكلاب المسعورة .. النكرات من تناولوا يونيو بمآسيه وآلامه
تقمصوا دور الرهبان والحكماء والوعاظ وتناسوا أن المحن هي الأرض الخصبة لولادة
المنح واستنهاض الهمم .. وأن ما اصابنا لم يكن ليخطئنا ..
قالوا وتباكوا إن الزعيم عبد الناصر كان
سبباً في كل الويلات والمصائب التي حلت بالبشرية قبل مولده وفي حياته وبعد مماته…
وبالمرة حثي يرث الله الأرض ومن عليها .. وهو وحده في رأيهم من منح الأمريكان
والصهاينة صكاً باغتصاب العراق وفلسطين ومزارع شبعا في جنوب لبنان … وهو من سلم
رقابنا وإرادتنا دون ثمن لكل المتربصين بنا .. وتوسانمي هو صانعها.. ولم لا يكون
متواطئاً عندما جاء إعصار جونو ..
لست
بطبيعة الحال في مقام الزود عن عبد الناصر الزعيم والقائد وحامي حمي الضعفاء
والمقهورين .. وكيف لي أن أزود عن رجل بحجم قامته وتاريخه .. فقد سقطت كل تقولاتهم
وتخرصاتهم ووأدت عند ولادتها .. سقطت إرهاصاتهم عندما رفض الفقراء والمساكين
الاستسلام والانزواء والتقوقع .. وكانت مبايعتهم له رمزاً وقدوة .. لقد كان بحق
أخاً للكبير وأباً للصغير .. اختاروه بالمخالفة لكل أبجديات الاختيار .. وان علموا
أن الطريق وعر وملئ بالمطبات وأن الملأ يأتمرون به وبهم من كل جانب ليقتلوهم ؟؟؟
هؤلاء جميعاً من أزروا عبد الناصر في حياته
وبعد مماته ومازالوا قابضين علي الجمر استشعروا حجم العزة التي أرساها زعيمهم ..
وأن أصابهم القرح تلو القرح .. وما بين يونيو ويوليو .. نري عجباً .. ففي الوقت
الذي تبارت فيه كل وسائل الإعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة لتنال من مسيرتنا جميعاً
وتاريخنا بإيجابياته وسلبياته نجدهم في يوليو وقد أصابهم الخرص فهم أشبه بطلاب
مدارس البكم والصم .. وفي يوليو كانت العزة .. وكانت الانطلاقة نحو المستقبل فقد
تملكنا بحق الكرامة بكل ما تعنيه الكلمة من مفردات ومعان .. يومها وفقط كان العدو يحسب
لنا ألف حساب ..
وكفي عبد الناصر ورفاقه القضاء علي الإقطاع
وفلوله .. فقد أعيدت للفلاح كرامته المهدرة وأدميته التي خلقه الله عليها … لقد
كان بحق مغلوباً علي أمره رازحاً تحت نار الذل والقهر .. قالها عبد الناصر .. ارفع
رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستعباد والقهر وكان ابناً نجيباً للثأر والمناضل أحمد
عرابي .. في عهده وزعت الأرض علي الفلاحين .. فهم ملاكها الاصليون وهم أولي بها ..
وهي ميراثهم فقد أحيوها .. ومن أحيا ارضاً ميتة فهي له .. ومن قاع الريف ونجوعه
انطلقت الثورة الخضراء .. يومها كنا نتباهي بما نزرع ونحصد وننتج.. أما اليوم وعلي
أيديهم فقد أصبحنا بلا فخر في ذيل القافلة الإنسانية …
كنا زراعاً وصناعا … من خلال أسطورة القطاع
العام الذي ظل حتى رحيل الزعيم الملاذ والملجأ والحصن المنيع أمام مؤامرات كانت
تحاك لنا جميعاً .. من الخارج ومن الداخل … فقد تلاقت مصالح الأعداء الذين أرادوا
القضاء علي الثورة ونتائجها إلا أن إرادة الله كانت أقوي .. والحق أحق أن يتبع
….جاء عبد الناصر وصحبه الكرام فأعادوا للعمال حقوقهم المسلوبة والمنهوبة .. فقد
حددت ساعات العمل ومنح الأجراء أجرا يضمن لهم حياة كريمة هي أبعد ما تكون عن الذل
والمسكنة وكانت ثمرة الثورة التي نصرت الفلاح الذي كان يكافح ليلاً ونهاراً في الوسايا
والإقطاعيات بقروش زهيدة لاتسمن ولا تغني من جوع .. وكفي.
*كاتب المقال
كاتب وباحث مصرى
0 comments:
إرسال تعليق