• اخر الاخبار

    الثلاثاء، 7 مارس 2023

    تجليات الإيقاع الوجداني بين التأمل والحكمة ..قراءة نقدية في ديوان: "أزمنة بلهاء" للشاعر حسن مأمون بقلم الناقد المصرى / سيد فاروق

     


     


    توطئة:

    ****

    يُعد الإيقاع الوجداني أحد المؤثرات الهامة على الحالة الشاعرية والتي تتفاوت حسب الملكة الإبداعية من شاعر لآخر في رسم الصورة الشعرية حسبما تسنح له قريحته وتفاعله مع الأجواء الخارجية للنص من أحداث ومواقف وقضايا قومية فينعكس كل هذا على الخطاب الشعري وصفًا ورصدًا ومعالجة، فالشاعر لا بدَّ أنْ ينهل من المجتمع ويصيغه بمعجمه الخاص، ليصبَّ في المجمع مرة أخرى.

    وللصورة الشِّعرية قيمتها العالية ومكانتها الفاعلة؛ لأن الشَّاعر ينتجها من العمق اللاشعوري – أحيانا -  ويصعد بها إلى منطقة الشُّعور، ويدبجها عبر مدارج أفكاره، ثم يرسلها عبر فضاء الإبداع الفني إلى مدىً أوسع بعد أن يكون قد حمَّلها بالطاقتين (الشُّعورية والشِّعرية)، وهو واعٍ إلى حقيقة أنَّها قد استمدت حيويتها، وصفاتها التعبيرية من قلب المجتمع الإنساني، ومدرك تمام الإدراك أنَّ إمكاناته الفنية على الإنتاج الإبداعي هي التي رجَّحت قدرته - دون سواه - على إضفاء اللمسة الشِّعرية على المفردات المتداولة، مما منحها بعدًا فنيًّا ودلاليًّا غير الذي تعارف عليه الآخرون، وهو بذلك يعيد صياغة المصاغ بمهارة أكبر، وبشكل مغاير لينتج قيمة مغايرة تشع منها حياة جديدة تنبض بالمتعة والإثارة،  فتستجيب المشاعر المقابلة للشُّعور المنتج لها، وهو ما يستثير الحواس فتنطلق ردود أفعالها.

    وتأسيساً على أهمية المنطقة المنتجة، وتجليات التأثير النَّاجم عن فاعلية المُنتج تصبحُ "الصورة الشعرية كيانًا فنيًّا نابضًا بالحياة الإنسانية" (1)، مما يجعلنا نتيقن أنَّ الصورة كما هي قريبة من المخيلة هي قريبة –أيضًا– من العقل، فالصورة الفنيَّة لا تُقحم في الإبداع من باب تحسين الشكل وطلائه ليظهر مُبْهِـجًا، وأكثر أناقة؛ إنَّما لتدعيم المضمون وجعله أكثر تفاعلًا مع الذات المتلقية كما كان مع الذات المرسلة، وبهذا تؤدي الصورة مهمتها في إثراء الجنس الأدبي من خلال التوحد اللازم بين الشُّكل والمضمون، كما تكمن أهمية الصُّورة في كونها تمثل إيحاءً بما لم يقله الشاعر، ورمزًا لما يجب قوله، وفتحًا لمعالم فنِّية تستدرج المتلقي إلى رحاب النَّص.

    وتمنح الصورة الشَّاعر الآلية اللازمة الفاعلة لاختراق شعور المتلقي، والتَّغلغل في أفكاره، وذلك بما تضفي على النَّص الشعري من جمالية الأثر التي تنمو على ضفافها محركات التَّخييل، والتي تعمل بطاقة الواقع، فهي -بالتَّالي- تفرض على المتلقي الوقوف أمامها للبحث في دلالاتها بغية الوصول إلى حقيقتها، واكتشاف آليات انزياحها عن المألوف، ودخولها خانة المُؤوَّل من المعنى.

    وانطلاقًا من الشعور الوجداني والصورة الشاعرية نبدأ القراءة النقدية في ديوان "أزمنة بلهاء" للشاعر حسن مأمون والتي ستكون من خلال العناصر التالية:

    - قراءة في المواقع الاستراتيجية

    - قراءة في العنونة

    - الإهداء

    - الهمس الشعري والهدوء المؤثر

    - تجليات الوجد

    - أثر النزعة الدينية على المتلقي

    - الصورة الشعرية من التأمل إلى الحكمة

    قراءة في المواقع الاستراتيجية

    *******************

    ونعني بالمواقع الاستراتيجية على خارطة النص الإبداعي كل ما يحيط بالنص من الخارج (2)، أو ما يعرف بالعتبات النصية حيث أنَّ لمحيط النص الخارجي أهمية كبرى في فهم المتن، وتفسيره، وتأويله من جميع زواياه، والإحاطة به إحاطة شاملة، وذلك بالإلمام بجميع تفصيلاته البنيوية المجاورة من الداخل والخارج، وكل موقع يمثل التعبير عن موقف ما، ويقوم بدور أساسي في ولوج القارئ إلى عالم المتن وتوغله التدريجي فيه، لأنها تحدد ملامح هوية النص، وتضيء إشارات دلالية أولية، تجعل القارئ يستبق معرفة النص الغائب من خلال المعطيات الأولية التي ينثرها الكاتب على خارطة النص كمواقع استراتيجية لها أهميتها الكبرى، وفي مداخله الافتتاحية.

    اننا نميل دائما إلى إطلاق مصطلح المواقع الاستراتيجية على العتبات النصية(3)، التي هي مجموع اللواحق أو المكملات المتممة لنسيج النص الدال ذلك لأنها خطاب قائم بذاته له ضوابط وقوانينه (4)، والتي تقضي بالقارئ إلى القراءة الحتمية للنص وهي حتمية ناتجة عن فضول أو افتتان أو ولوع أو عن حب الاطلاع والمعرفة أو هي محاولة لإشباع الذات.

    كما يطلق على المواقع الاستراتيجية النص المصاحب أو النص الموازي المجاور للنص الأصلي(5)، والذي يعني مجموع النصوص التي تحيط بمتن الكاتب من جميع جوانبه: حواش وهوامش وعناوين رئيسية وأخرى فرعية وفهارس ومقدمات وخاتمة وغيرها من بينات النشر الأخرى التي تشكل في الوقت ذاته نطاقًا دلاليًّا معرفيًّا لا يقل أهمية عن المتن الذي يحيط به.

    وقد احتفى الشاعر حسن مأمون ببعض المواقع الاستراتيجية في ديوانه "أزمنة بلهاء" احتفاءً خاصًا فأعطى أهمية كبيرة لاختيار العنوان وصياغة الإهداء وتصميم الأيقونات البصرية على الغلاف الأمامي والخلفي والتي سنتناول بعضًا منها بشيء من التفصيل.

    كما أنَّنا نؤكد دائمًا على أنَّ المواقع الاستراتيجية ليست دستورًا عامًا في التناول النقدي فلا تأخذ منفردة بعيدًا عن النص، ولا يتم تناولها على أنها نظرية قائمة بذاتها، وإنما هي من مكملات النص حيث ترتبط به بعلاقة ارتباطية معنوية تكاملية تسهم في تفسير وإضاءة والكشف عن مخبوءات النص الأصلي.  

    قراءة في العنونة

    ************

    اهتمت الأدبيات النقدية حديثًا اهتمامًا بالغًا بالمواقع الاستراتيجية وخاصة العنونة، وترجع أهمية العنوان بوصفه المدخل التمهيدي أو الموقع الأولي التي يجري التفاوض عليها لكشف ما توارى من النص الذي يتقدمه ذلك العنوان(6).

    وقد أصبح العنوان بمثابة البوابة الأولى التي تضيء لنا الطريق في سبيل الدخول إلى عالم النص والتعرف على زواياه الغامضة، فهو مفتاح تقني يُجَس به نبض النص وتجاعيده، وترسباته، وتضاريسه التركيبية على كافة المستويات(7).

    وإذا يمارس العنوان فعله السابق في إضاءة النص والكشف عن روحه كمخل أولي ومفتاحًا ناجحًا في فهم مبدئي للنصوص التي يتبوأ عليها، فهو من جانب آخر يمارس فعل الإغواء والتعيين والوصف(😎.

    ويرى جون كوهين أنَّ: العنوان من مظاهر الإسناد والوصل والربط المنطقي، بينه وبين المتن على أنَّ الخطاب النصي يشكل أجزاء العنوان الذي هو بمثابة فكرة عامة أو محورية أو بمثابة نص كلي (9).

    ونظرًا لأهمية العنوان في النصوص الأدبية ودلالاته ومقاصده فقد جعله (لوي هوك) "مجموعة العلامات اللسانية من كلمات وجمل وحتى نصوص قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه، وتشير لمحتواه الكلي، وتجذب جمهوره المستهدف"(10).

    إن الشاعر حسن مأمون أطلق عنوانًا صارخًا لديوانه "أزمنة بلهاء" فجعل الزمن بطلا مجسدًا وهو ما يدور عليه الحوار، وقد جسد مأمون الأزمة فجعلها كالبشر المتسمين بالضعف العقلي، والغفلة، حيث جاء معنى أبله / بلهاء في المعاجم العربية على أنه ضعف العقل فذكر التوحيدي:  رَجُلٌ أَبْلَهُ: مَنْ كَانَ بِعَقْلِهِ ضَعْفٌ، أَحْمَقُ رَجُلٌ أَبْلَهُ لاَ يَعْرِفُ مَا يُخْرِجُ مِنْ أُمِّ دِمَاغِهِ وشبابٌ أبْلَهُ: غافلٌ منعَّم(11).

    وهو ما يؤكد أن الزمان والمكان ابتعدا عن شكلهما الجامد المقنن، وعرف الحوار تلازمًا مع الزمن، بل في بعض الأحيان تصنع القصيدة المعاصرة من الزمكان بطلًا فاعلًا يتفاعل مع الحدث والشخصيات(12)، وهو ما فعله مأمون في صياغة خطاب العنوان لأزمة بلهاء.

    على أنَّ ابتعاد الزمان والمكان عن شكلهما المعهود المقنن، يُعد تقنية حديثة للقصيدة المعاصرة إذ لم يصبح "الحاضر استكمالًا لماضٍ رتيب في خط تعاقبي يرافق التواترات والتسبيب السردي، كما أنَّ المستقبل لا يحمل بذرة البشارة أو الوفاق حصرًا" (13).

    أي أنَّ الشاعر حسن مأمون نجح في استخدم آليات حديثة حين وصف الزمكان بهذه الفلسفة الفريدة "أزمنة بلهاء" فصنع تطورًا ملحوظًا للوظائف والإحداثيات الزمكانية، واستخدم هذه الإحداثيات بتواترها (14)، لخدمة السياق الدرامي لخطاب العنوان في أنساق درامية تجسد حالة الوجد للذات الشاعرة في مشاهد مختلفة تتفاعل مع الفلسفة الواقعية تتتابع وتتداخل في نسق شاعري يخدم معمارية البنية الفنية في هذا المحور الذي يجعل من الأزمنة أشخاص بلهاء ضعاف العقل متغافلين.

    فيما نرى أن عنوان "أزمنة بلهاء" اختزل أربع وظائف بهذه الجملة المجازية التي صاغها الشاعر حسن مأمون، وهم الوظائف (الإيحائية / الوصفية / الإغرائية / الدلالية الضمنية المصاحبة) ومن خلال هذه الوظائف تتجلى أهمية العنوان فيما يثيره من تساؤلات عن المتلقي والتي لا يجد لها إجابة إلا مع نهاية العمل فما هي تلك الأزمنة التي ذكرها الشاعر؟!!، ولما وصفها الشاعر بالبلاهة؟!! وهل يحمل العنوان إيحاءات أخرى والأزمنة ما هي إلا رمزًا لتلك الإيحاءات؟!! كل هذه التساؤلات تجعل المتلقي في دائرتي الإغواء والإغراء القصدي، فهو -العنوان- بكل المقاييس يفتح شهية القارئ للقراءة أكثر من خلال تراكم عمليات الاستفهام في ذهنه والتي بالطبع سببها الأول هو العنوان، فيضطر القارئ إلى دخول عالم النص بحثًا عن إجابات لتلك التساؤلات بغية إسقاطها على خطاب العنوان وما رام إليه من مقاصد.

    إن عنوان " أزمنة بلهاء" يكتسب أهمية خالصة فهو لافتة توضح الكثير من مطالب الشاعر ومقاصده وما يرمي إليه من مضامين لم يفصح عنها واختار التحليق بها في أفق الخيال تشويقًا للقارئ فكان العنوان بمثابة رأس النص وهو يمثل الوجه من الرأس وفي الوجه أهم الملامح ولذلك فإنَّ البحث في العنوان هو البحث في صميم النص، فهو موقعًا استراتيجيًّا مهمًا لما يرتبط به مع النص ارتباطًا عضويًّا.

    الإهداء

    ****

    يُعد الإهداء بوابة ولوج نصية لا تخلو من قصديّة، حيث "تحمل داخلها إشارة ذات دلالة توضيحية"(15)، وهي عتبة ضاربة بجذور في أعماق التاريخ، يرجعها جينت إلى زمن الإمبراطورية الرومانية القديمة، وأهم ما "يفرق بين الإهداءات القديمة عما نعرفه الآن، هو أن الإهداءات في السابق كانت تتموضع في النص ذاته أو بدقة أكبر في ديباجة النص / الكتاب، أمَّا الآن فهي تسجل حضورها الرسمي والشكلي في النص المحيط (المناص عامة)"(16)، وهو يشكل مُوجَّهًا رئيسيًّا للنص الأدبي، يُعَبِر فيها الكاتب عما بداخله إزاء المقربين إليه سواء كانوا بشرًا، أم غير بشر وإزاء النص نفسه إذ تظهر أهمية النص من عدمه فيمن يهدى إليه، وهو واحد من هذه العناصر التي تشير إلى مرور رسالة قصيرة مقصودة من الكاتب الى الآخرين بصورة عامة، وإلى المهدى اليهم بصورة خاصة (17).

    يشكل الإهداء موقعًا استراتيجيًّا مهمًا على خارطة النص حيث يخطط لفعل القراءة والوصول إلى مواطن الانفعال في النص، فالإهداء مدخل أولي لكل قراءة(18)، لما له من وظيفة تأليفية تعمل على توظيف جانب من منطق الكتابة؛

    والإهداء موقعًا مهمًا له خصوصيته التي تحدد دائرة علاقات الكاتب، كما أنَّه برتوكولًا أدبيًّا متعارفًا عليه فإن لم يكن واجبًا فهو مستحبًا يوضح العلاقة بين المُهدي، والمهدى إليه، ومدى الارتباط الحميمي بينهما، كما يوضح سيمات نفسية وشخصية وروحية عند المُهدي تساعد القارئ في استنباط ما يحمل الكاتب من أفكار وقيم ومعتقدات تسهم في إضاءات تجربته الإبداعية.

    أما الإهداء في ديوان "أزمنة بلهاء" فكان من نوع خاص جدًا حيث صاغه الشاعر ليبين للقارئ مدى الارتباط الروحي بينه وبين والده رحمه الله فقال: "إلى أبى.. عاصمة التسامح، ودولة الرقي، الذي علمني، كيف أكون شاعرًا قبل أن يكتبني الشعر"

    جاء الإهداء عند مأمون من جنس الإهداء الخاص جدًّا يحمل معنًّا ساميًّا لروح الأب الذي فارق الحياة، لكن روحه لا تزال تخفق في قلب الشاعر بما أورثه من علم وحب للأدب والشعر، وبما زرع فيه من تسامحٍ ورقي وهذا النوع من الإهداءات يحمل شحنات عاطفية مؤثرة في وجدان المتلقي، إنَّ من أدبيات الإهداء الواجبة أنك إذا أهديت شخصًا هدية، يصبح على هذا الشخص "المهدى إليه" حق العناية والاهتمام بالهَدية، ولكن كيف يبحث هذا الإهداء عن الرعاية والعناية ممن هم وافوا المنية وفارقتنا أجسادهم؛ وصعدوا إلى الرفيق الأعلى.

    إذن هذه الأنواع من الإهداءات لا تبحث عن سلوك تفاعلي للمُهدى إليهم، إنَّما هي في الأساس تبحث عن فعل تأثيري في القارئ نفسه، تجاه هذا الشعور الوجداني المتسم بالوفاء والولاء والود لروح الأب المُعَلم، والقدوة، والداعم، ونقطة التحول في حياة الشاعر.

    الهمس الشعري والهدوء المؤثر

    ************

    عُدَّت أصوات الوجد في الشعر العربي أحد أهم العوامل التأثيرية في المتلقي وقد اهتم الدكتور محمد مندور في منتصف القرن الماضي بما يعرف بالهمس الشعري أو الشعر المهموس وقد سمى مندور أيضًا الإيحاء أسلوب الهمس وهو أنك كمتلقي لا تشعر بثورة صاخبة متمردة عند قراءة القصيدة لا بنغمات خطابية مجلجلة بل تشعر بنغمات هامسة يسكبها الشاعر في أذن المتلقي ليعبر بها عن حالة من حالات حزنه، أو العاطفة الوجدانية، وقد ناضل مندور نضالًا حارًا في سبيل ما سماه عندئذ بالأدب المهموس، وكان يُفَضِله على الأدب الخطابي التقليدي مما أثر في لفت أنظار الشعراء إلي أسلوب الهمس الشعري آنذاك.

    وفي إطار الحديث عن الهمس الشعري يقول دكتور مندور: "الهمس في الشعر ليس معناه الضعف، فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحسّ صوته خارجًا من أعماق نفسه في نغمات حارة، ولكنّها غير الخطابة التي تغلب على شعرنا فتفسده، إذ تبعد به عن النفس، عن الصدق، عن الدنوّ من القلوب"(19).

    كما تحدث أيضًا عن هذا الهمس في أثناء تحليله لقصيدة (أخي) لميخائيل نعيمة، وقدّم لها بإيضاح عن المهموس، معتبرًا الشاعر نعيمة واخوانه بالمهجر شعراء اللغة العربية بحق، وان شعرهم هو الذي سيصيب الخلود، فيما ذكر أنَّ الدعوة إلى الشعر المهموس هي من بين العوامل التي ساعدت على ظهور حركة الشعر الحديث، ولقد قال بدر شاكر السياب أنَّه بدأ يفكّر في الشعر الحديث عندما قرأ الشاعر الانجليزي إليوت وعندما اطلع على دعوة مندور إلى الشعر المهموس، وعندما ظهرت حركة الشعر الحديث قال مندور: "إنَّ هذا هو الشعر المهموس الذي كنت أدعو اليه"(20).

    وفد دعا الدكتور كيلاني حسن سند إلى الأدب المهموس، اقتداءً بمندور حين أشار الى الأدب المهموس فقال: "ان الدكتور محمد مندور، هو أعظم ناقد عرفه النقد العربي المعاصر، وذلك لأنه يجمع ما بين القدرة العميقة على التذوّق، والاحساس بالألفاظ، والتركيبات اللغوية، والموسيقى" (21).

    أما الشاعر حسن مأمون فالمتتبع لتجربته الإبداعية يجد أن الهمس الشعري أسلوبًا مميزًا في قصائده ولا تكاد تخلو قصيدة من همس وجداني شفيف يستشعره كل من يقرأ له وها هو في قصيدة "لست شاعر" يحتفي بالهمس الشعري في أبهى صورة حيث يقول في نهايتها:

    ****

    يَا صَدِيقِي لَسْتُ شَاعِرْ

    أَرْتَجِي لِلنَّاسِ ظِلَّا

    أَوْ أَنَالُ الْمَجْدَ ذُلَّا

    أَوْ أُصَارِعْ فِي الدُّنَا

     حِقْدًا وَغِلَّا

    أَخْطِفُ النَّظْرَاتِ صَمْتًا

    مِنْ عُيُونِ الطَّيِّبِينْ

    .............

    يَا صَدِيقِي لَسْتُ شَاعِرْ

    ذَلَّهُ الْحَرْفُ الْمُرَاوِغْ

    شَاهِرًا زَيْفَ الْأَمَانِي

    يُعْلِنُ الْأَسْرَارَ جَهرَا

    أَوْ يَزُفُّ الْحُزْنَ بُشْرَى

    أَوْ يَعِيشُ الْعُمْرَ قَهْرَا

    يَنْتَمِي لِلرَّافِضِينْ

    .............

    يَا صَدِيقِي لَسْتُ شَاعِرْ

    يَذْرِفُ الْأَشْعَارَ دَمْعَا

    يَرْتَضِي لِلنَّاسِ قَمْعَا

    يَنْتَشِي لِلْمَدْحِ سَمْعَا

    يَزدَرِي فِي الدِّينِ شَرْعَا

    يَنْسَ دَوْمًا أَنَّهُ

    مَاءٌ وَطِينْ.

    *******

    الشاعر حسن مأمون ينفي عن نفسه صفات الشاعر المراوغ الذي يسرق الأحلام من عيون أصحابها فهو شاعر أمين كما أنه لا يتسول بشعره كما يفعل البعض، فهو شاعر عزيز النفس، وقد كان نفي كل صفة خبيثة، هي إثبات للصفة الحسنة في ذات الوقت فهو ينفي الزيف مقابل إثبات الصدق، وينفي الظلم مقابل العدل، والجفاء مقابل الألفة، فالقصيدة بأكملها نفى فيها الشاعر كل الصفات الغثة الممقوتة عن شاعريته في مقابل إثبات المحمود المستحسن منها، فهو أسمى من ذلك كله إلَّا أنَّ صرخة الشاعر كانت خارجة من عمق الشعور صرخة خافته مؤثرة يتحدث فيها الشعور الوجداني للشاعر بهمس يبثه من القلب ليصل إلى القلوب فهو الشاعر الإنسان الذي دومًا لا ينسى إنسانيته.

    إنَّ الطرف الأخر في معادلة الهمس الشعري يأتي على أربعة محاور هم الصدق / الألفة / التواضع / الإخلاص، فإذا اجتمعت في الشاعر هذه الصفات كانت نتيجة العملية الإبداعية شعرًا مهموسًا، هؤلاء هم دعائم وحدة الفن في عناصره الثلاثة "العبارة الفنية - قوة الإيحاء - الموقف الإنساني"، إنَّ كثيرًا ما نجد الشاعر حسن مأمون يتمحور حول الذات، وإنْ كان خطابه للأخر، إلَّا أنَّ سياق الحديث عن الذات وكأنه يخاطب نفسه ويحاسب ذاته فينأى بها عن الدونية، فيكون أقرب للألفة لدى الآخر، وكلَّما زادت الألفة والإخلاص في القصيدة علا فيها طنين الهمس الشعري، وأصوات الوجد، وهو ما قرره مندور أن معاناة الأدب العربي هو بعده عن الألفة، فهو قلَّما يهمس، وذلك لضعف الإخلاص فيه وغلبة الجهارة عليه سواء في الصياغة أو التفكير، لذا فإنَّ كثيرًا من الكتَّاب في حاجة إلى التواضع بل إلى السذاجة ليأتي أدبهم مهموسًا على نحو ما أتت معظم الآداب الخالدة. 

    إنك تستشعر أنَّ تجربة الشاعر حسن مأمون وجدانية ذاتية إنسانية إلى حد كبير وكأنها تلبي دعوة مندور للأدب المهموس الذي طالما أكد عليه وكانت دعوته هذه هي إحدى المرتكزات التي استند عليها في منهجه النقدي التأثري، ويؤكِّد على ذلك بقوله: "نحن بحاجة إلى أن نهمس، نحن في حاجة إلى التواضع الإنساني الأليف القريب إلى النفوس"(22)، نحن في حاجة دائمًا إلى أدب إنساني صادق مخلص، يؤثر في قلوبنا بصدى صوته الخافت الهامس المموسق على أوتار المشاعر، فلكم تاقت أنفسنا إليه.

    إنَّ ظاهرة الهمس في الشعر، تختلف كثيرًا عن الأساليب البيانية، كما أنَّ مصدر هذه الطاقة الموسيقية يستمد من انسجام الذات الشاعرة مع الطبيعة والكون من حوله، فإنها هي المصدر الذي صدرت عنه هذه الظاهرة وانسجمت على كافة طرق التعبير. لقد فعلت الطبيعة الكونية نوعًا من انسجام وجداني مع الشاعر حسن مأمون هذا الانسجام الذي يجعل ما تجود به قريحته يخرج في دفقات مهموسة يتسرب منها فن القول شعرًا موزونًا مموسقًا مؤثرًا بالتبعية في وجدان المتلقي.

    وفي تقديرنا إنَّ معيار جودة الشعر لا يخضع لرنة الإيقاع فيه سواء كانت هادئة؛ أو قوية، فالشعر لا يقاس بهذا المعيار، وإنَّما ينظر في مدى ارتقائه على أنَّه أسلوب بيان، وفن من فنون القول، تحكمه ضوابط فنية متعارف عليها كما هو أيضًا مجموعة خلجات تجول في نفس الشاعر، أما قوة اللهجة في الشعر فإنها مظهر الحالة العصبية التي كان عليها الشاعر عند بنائه أبيات الشعر، وليست هذه الحالة بجزء من الشعر لتكون جزءًا مما يقاس به مدى ارتقائه وطول بقائه، ويحكم له أو عليه.

    بيد أنَّنا نرى الهمس الشعري والإيقاع المموسق في قصيدة الشاعر حسن مأمون"لست شاعر" وبعض القصائد الأخرى تحمل جرسًا هادئ ونغمًا همسًا مؤثرًا، فلا يصطبغ شعره بهذا اللون الصاخب الناتج عن حالة عصبية، بل إن صوته الشعري هادئ رغم ثورته ونقده للواقع، تجد فيه السكينة والألفة والانسجام والهدوء لأنه وليد حالة روحية خاصة تأتلف الموضوع وتمتزج بالشعور ليزفر الوجد بأصداء ذات حمولات مُهمَّسة وجدانيًّا.

    أننا نؤمن أن الشاعر كلما عاش في وسط لا تُرْهَق فيه الأعصاب، كلَّما كان تصويره وتعبيره غير مرهقًا لأعصاب المتلقي، ولذا كان شعراء المهجر أقرب إلى الهمس الشعري لما يرون من مظاهر كونية وطبيعة تبعث على الهدوء والتأمل، ولذا لا يعتمد على التهويل بأبلغ المؤثرات، عند محاولة التأثير على من سواه، على عكس معظم شعراء الوطن العربي المحاطة بما يتعب الأعصاب ويبعد بها عن أن تنفعل إلا بمؤثرات قوية، فتأتي أشعارهم معتمدة في التأثير على ارتفاع الصوت فيها وإنْ كانت الآذان قد صمَّت.

    ولذا فإننا نرى أنَّ الشاعر حسن مأمون يقترب من شعراء المهجر في همسه الشعري، ويرجع هذا إلى أنَّه عاش سنينًا مغتربًا عن وطنه فاكتسب من صفاتهم فجاء صوته الشعري هادئً فكان الهمس الشعري عنده وليد طبيعة خاصة يصدح بطنين تأثيري منبعه نفس وروح الشاعر، ليؤثر بالتبعية في المتلقي بفعل الإيقاع الهادئ أو الهمس الشعري، بيد أننا نجزم أنَّ الهمس أو الجهر في الشعر أو في غير الشعر، لا يمكن اعتباره مظهرَ تطورٍ أو تأخر للجنس الأدبي المتسم به، لأنَّه لا يدل إلَّا على مقدار الطاقة التي بذلها صاحب الفن في سبيل التأثير في الآخرين.

    تجليات الوجد

    *******

    إن ما يؤخذ على شعر الوجدان دائمًا الانزواء والتقوقع، وهو ما جعل النقاد تهاجم أصحابه، ويَتهمونهم بالذاتية وحب النفس الفردية الانعزالية وأطلقوا عليهم أحيانًا دعاة الفن للفن، كوسيلة لتجريحهم واتهامهم بالهروب من الحياة العامة ومشكلاتها، ولكن ما القول إذا تجلى الوجد في التجربة الإبداعية وفي الوقت نفسه، لم تهمل القضايا القومية، ولم تتقاعس عن معالجة مشكلات المجتمع، وهو ما استهدفه الشاعر حسن مأمون في أغلب قصائده حيث وضع  القصيدة وطاقاتها الفنية في خدمة الحياة العامة والأحياء، والمجتمع، بل تعدت أحيانًا حدود القطر إلى الإقليم، لتشمل بعض القضايا القومية المعاصرة في محاولة للارتقاء بتلك الحياة وصولًا  إلى مستوى إنساني أفضل.

    إن تجربة الشاعر حسن مأمون تجربة شعور إنساني وعاطفة تسمو بصاحبها حيث تسموا المشاعر تماهيًّا مع الوقائع الحية والأحداث المعاصرة في قصيدة "دموع عنترة" يقول الشاعر:

    *****

    عُيُونُ الْمَهَا قَدْ أَحَلَّتْ دَمِي

    فَكَيْفَ الْفِرَارْ؟

    إِذَا كَانَ صَدْرُكِ لِي مَوْطِنًا

    وَمَا أَخْطَأَتْنِي

    السِّهَامُ اللَّوَاتِي

    اسْتَقَرَّتْ بِقَلْبِي

    بلا مَعْذِرَةْ       

    فلا تستبيحي الهوى منكرة

    أَذَنْبِي بِأَنِّي أَذُوبُ اشْتِيَاقًا؟

    وَأَسْمُو بِعِشْقِيَ

    طُهْرًا وَنُبْلًا

    وَأَعْلَمُ قَلْبَكِ لَنْ يِغْفِرَهْ

    *****

    يتجلى مقام الوجد عن الشاعر حسن مأمون في حديث النفس بين الشعور الإنساني وبين مرايا الواقع ففي مستهل القصيدة يظن القارئ أنَّه أمام ثنائية عشق بين (أنا) الشاعر و(هي) الحبيبة التي لم يفصح عنها، فيما جاء تضمين قصة عنترة وعبلة وهي رمز من رموز قصص الحب العربية العريقة ليستحضر المتلقي في أفق التوقع هذه القصة ومثيلتها حين مطالعة عنوان القصيدة وأبياتها الافتتاحية ليتأهب نفسيًّا استعدادًا لقراءة مادة حكائية، سيماتها العزل، وقوامها العاطفة والمشاعر ويؤكد على ذلك ما يطالعه المتلقي من عيون جميلة كعيون المها وموطن الشاعر في صدر حبيبته وسهام استقرت في قلبه ثم اللوعة عند الشاعر والرجاء لمحبوبته من عدم استباحة الهوى والنكران فقد أصابه من الشوق والتوق ما جعله يسمو بعشقه نبلًا وطهرًا وعفة، ليقدمه لحبيبةٍ تقسو فلم تغفر له هذا العشق (الأفلاطوني) المثالي الذي نزف فيه الشاعر مشاعره ووجدانه ولم يعي قلبها حجم ما ألَمَ بالشاعر من وجد ثم تأخذ القصيدة منحىً أخر فيقول:

    *** 

    فُؤادِي غَرِيقٌ بِلَا مُنْقِذٍ

    نِدَائِي..

    صُرَاخِيَ مَنْ بَعْثَرَهْ؟!

    تَوَلَّى زَمَانُكَ يَا عَنْتَرَةْ؟

    فَمَا عُدْتَ ذَاكَ الحَبِيبَ إِلَى عَبْلَةٍ

    وَمَا عُدْتَ ذَاكَ الْهُمَامَ

    وَلَا الْقَسْوَرَةْ

    طَرِيقُكَ أَضْحَى كَسِيحًا

    خَيَالُكَ مَنْ فِي الْوَرَى كَدَّرَهْ؟!

    وَكُلُّ القَبَائِلِ صَارَتْ فُتُاتًا

    وَسَيْفُكَ.. سَيْفُكَ مَنْ كَسَّرَهْ؟

    لِمَنْ تَشْتَكِي الْخَيْلُ غَدْرَ الْعُمُومَةْ؟!

    نَشِيدُ الْبُطُولَةِ مَنْ زَوَّرَهْ؟!

    وَحَتَّى خِيَامُكَ صَارَتْ مَشَاعًا

    وَشَيْخُ الْقَبِيلَةِ مَا أَسْكَرَهْ؟

    ****

    ............

    وَمِثْلِي بَرِيقُ الْبُطُولَةِ

    لَنْ يُبْهِرَهْ

    عبيل

    تبدى بوار الوطن

    وَلَمْ أَدْرِ يَا عَبْلُ مَنْ بَوَّرَهْ؟

    ******

    لقد أدرك الشاعر حسن مأمون حقيقة مهمة وهي أن الشعر لابد أن يتماهى مع الواقع المعاصر فكما هو تقنيات فنية ولغوية ومجاز لابد أن يلامس ما نعيشه من أحداث، وقد ارتكز على قصة تراثية تستوطن الشعور عند المتلقي واتخذ من أبطالها ((عنترة بن شدَّاد - عبلة))  رموزًا يتكئ عليها ليمرر قضايا مجتمعية فاستقطب القارئ واستدرج ذائقته، فحسبما يري مأمون أنَّه ما عاد هناك مشاعر حقيقية فقد تولى زمان عنترة، ومن هنا أخذت القصيدة محورًا أخر في عرض مشهدي لواقع الحال كما يراه الشاعر فتكلم على لسان البطل وكأنه أتى به من الزمن البعيد ليرصد واقعنا الذي نحياه، فلم يعد هناك من يخلص في الحب، هذا على صعيد المشاعر، أما على الصعيد المجتمعي، فقد وهنت الأمَّة ولم تعد هناك فروسية وضعفت الهمة، وتشتت القبائل وتكسر السيف، وحتى نشيد البطولة زيِّف، والأوطان المنوه عنها "بالخيام" صارت مشاعًا مستباحًا وأولى الأمر منا غدو سكارى، إلى أن ظهر بوار الوطن عيانًا ثم ينهي القصيدة بأسلوب استفهام استنكاري حيث خرج الاستفهام عن معناه الحقيقي إلى معانٍ أخرى ومن هذه المعاني النفي والتعجب والتقرير والتعظيم والاستبطاء والاستنكار وغيرها(23).

    وخروج الاستفهام عن معناه في نهاية المقطع السابق يدل على معنى الإنكار؛ وهذا الإنكار في الاستفهام بشكلٍ عام، إمَّا يكون في الشرع وإما العقل وإما العرف (24)، وهو في الأبيات السابقة يدل على إنكار أمرٍ وقع في الحال والتوبيخ له وهو واقع البوار للوطن وما آل إليه الحال من فقرٍ وقحطٍ وضيق، وما كان هذا البوار إلا لِمَا أورده الشاعر في محاور القصيدة التي سبقت هذا الاستفهام الاستنكاري.

     إننا نؤمن دائمًا بأنَّ الأدب الجاد هو ذلك الأدب الهادف الذي يهتم بأمور الأمة الراصد للمجتمع وسلوكه، المشكلة، والعلاج، وحسبما نرى أنَّ النص عند مأمون هو نص شعري حقيقي، يمثل خلية حية تنبض بالحياة، والكثافة، والحساسية والشعور، والإيقاع، فإذا نظرنا إلى قصيدة "دموع عنترة" نراها قصيدة تجاوزية في الرؤية، عميقة المداليل، شديدة الكثافة، والعمق والإيحاء، وهذا النوع من النصوص المتميزة يجذب ذائقة القارئ وحساسيته الأدبية، ويحفزه للتحليل والاستنباط والتفعيل الإيحائي للرؤى الشعرية المجسدة، عله يستطيع فك خيوطها الخفية، ويستخلص مثيراتها الجمالية، وفي هذا الإطار يقول الناقد علي جعفر العلاق مؤكدًا دور الناقد في اكتشاف كنه النص، وتحفيز القراء لاستقطابه: "إن القارئ في تلقيه للنص الشعري، لا بد أن يولي اللغة عناية كبرى، فلغة الشعر عميقة التخفي، وشديدة الكثافة، إنَّها مفعمة بالانزياحات والمراوغة (25).

    وحسبما نرى أنَّ مأمون اختار لنصه "دموع عنترة" لغة وسطى عصرية ترتكز على الرمز والمجاز، فهي حين تجسد موضوعها، تمعن في الالتفاف حوله ومشاكسته و تلوين فجواته بالحيرة، أو الضوضاء، أو التردد، وربما الحرص على عدم التصريح، والميل دائما للتلميح ولا يتوقف القارئ عند هذا المستوى من لغة النص، بل يذهب إلى ما يجسد كتلته الماثلة أمامنا وما بها من تشكيل بصري مجسد فوق الورق، حوار النقاط، وعلامات الترقيم، وما فيها من التعجب والاستفهام، والفواصل، والوقفات،  بعثرة كلماته، تمزيق الروابط بين عناصر الجملة الواحدة، الحجوم، والامتداد، والفراغات، وكثافة الحرف، ثم يصبح على المتلقي أن يلتفت إلى موجهات القراءة، بداية من المفاتيح الأولى للنص، كالعنونة، والاستهلال والختام ومكانها، وما يتخللها من صور وتخطيطات، وإضافة إلى هذا كله، فإن النص عند مأمون لم يعد صورة لغوية لانفعال الروح فقط، بل هو، أيضًا تجسيدًا للحظة معرفية ورؤية، تنفتح على أجواء الحاضر وطلل الماضي في آنٍ معًا، وتضمهما سوية في نسيج حي مترابط لا انفصام فيه، ولهذا كله، فإنَّ تفاعل القارئ مع هذا النص الشعري، يتطلب إقامة أطول في مناخاته، واستغراقًا في تفاصيله وثناياه.

    على أنه في تقديرنا أنَّ هذه الإقامة المتريثة لمثل هذه النصوص الرمزية لأنَّها عميقة المضامين رغم سلاسة لغتها وانسيابها، وهي إقامة التعايش مع النص والحالة الشاعرية والروح التي صاغت ما يعبر عن رؤيتها للكون والمجتمع والأحداث، وهذا التعايش مع النص هو الذي يتيح للقارئ التقاط ما تسرب في جسد النص من التماعات أسطورية، واستلهامات دينية أو شعرية أو تراثية وما تمثله من صلة وطيدة بشجرة النصوص والرؤى الأخرى المسقطة على أرض الواقع والتي استخدمها الشاعر لدعم وتأصيل فكرته ورؤيته للأشياء، وما يرمي إليه من مضامين لم يصرح بها.

    أثر النزعة الدينية على شعور المتلقي

    ************************

    يتأسس مفهوم الخطاب النوعي على بعد التواصل، وكل الكتابات التي تناولت هذا المفهوم أو تلك التي ضمّنته في سياقاتها الفكرية التي عملت عليه بوصفه حالة تواصلية(26)، وهذا الحالة تجمع بين طرفين: المتكلم، وما يتجاوز المتكلم من فعل التلقي المفتوح على الزمن، فالخطاب بوسائله المختلفة اللغوية وغير اللغوية يرتبط حيويًا بأنا المتكلم، ومجموع المحددات الذاتية والسياقية التي تخضع لها هذه الأنا(27)، فالخطاب هو فعل التوظيف للغة، وأيضًا هو فعل مشاركة المعنى مع المتلقي؛ فيتجه المتكلم إلى اللغة ليتزوّد منها بالعناصر والضوابط التي تنتج النص اللغوي، ومن هنا تتجلى ذاتية المتكلم التي هي مرجع إنتاج الخطاب في تلك التشكيلات اللغوية التي أفرزها استخدامه للغة.

    أما المعنى فيتشكل من تلك الأفكار التي يريد المتكلم تقاسمها مع المخاطَب، ولأجلها كان تعامله مع اللغة موظَفًا ومستثمرًا نظامها، ونحن إذ نرصد تحولات هذه العلاقة بين المتكلم في اتجاه اللغة، وبين المخاطَب، لا نستطيع أن نبعد دور السياق الحاضن لعملية التواصل في مجملها؛ ذلك أنه -السياق- يمارس فعالية مهمة في ضبط وتوجيه كيفيات التواصل بما تحقق له من مواصفات تؤثر على المتكلم وعلى علاقته باللغة وإلى أي مدى يتحقق التلقي المثالي وفق موجبات هذا السياق(28).

    ولا يمكن تحقيق الرصد الكامل لمفهوم الخطاب دون استحضار المتلقي الذي يمثل عنصرًا حيويًا في منظومة التواصل، وفي قدرته على تحيين المعنى عبر التاريخ.

    يتجسد الأدب من خلال اللغة، فالطاقة الإبداعية لدى المبدع والتي نختزلها عادة في معنى الموهبة، أو الكفاءة الفطرية، تجد تكريسها وتتحين من خلال قراءتنا تلك التشكيلات اللغوية الأدبية التي يأتي عليها النص الأدبي في حالة جنس الخطاب الشعري، أو ربَّما تتجسد هذه الطاقة الإبداعية من خلال العمل على التقنيات البنائية التي تشكل الإبداع السردي، وهي تقنيات لا تنفك عن اللغة ونظامها.

    غير أن اللغة الإبداعية هي انحراف واعٍ ومقصود عن اللغة في بعدها الوظيفي (الاستعمالي) "ما يميز الأدب عن اللغة العملية هو خاصيته البنائية، وعامل الشكلانيون الشعر بوصفه الاستعمال الأدبي الجوهري للغة" (29).

    أما الخطاب الديني فيتصل المعنى فيه اتصالًا وثيقًا بمصادر الدين الذي يتحرك في إطاره هذا المعنى، حيث يتعلق بمقولات العقائد الدينية من جهة الممارسات والسلوكيات التي تدفع باتجاهها، وهو بعد سلوكي عملي يرتبط أساسًا بموجبات هذه العقائد، بوصفها تصورًا شموليًّا تتكامل فيه العقيدة بمحدداتها اليومية والحياتية للأفراد، على أنَّ كل هذه المفاهيم وغيرها تدور في إطار مساحة المعنى الديني، ذلك أنها تصدر عن مرجع له صفاته الجوهرية وملامحه التي يستقل بها، مما يرتب على ذلك خطابًا يتحرك في هذه الاتجاهات المختلفة للمعنى الديني.

    فيما تتجلى النزعة الدينية عن الشاعر حسن مأمون في أغلب قصائده حتى أصبحت سمة أساسية من سيمات أعماله الشعرية حتى الغزلية منها فيقول في قصيدة "ومضات الشوق":

    *****

    وَكَأَنِّي أَسْبَحُ

    فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ

    أَرْشُفُ..

    مِنْ شَفَتَيْكِ نَقَائي

    وَكَأَنِّي فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى

    ذا أَتَبَاهَى

    بِالنُّورِ السَّاكِنِ في عَيْنَيْكِ

    أُتَمِّمُ لِلصَّلَوَاتِ وُضُوئي

    وَكَأَنِّي طَوَّافٌ

    اغشى مَلْكُوتِ الْحَضْرَةِ

    أَبْحَثُ عَنْ أَشْلَائي

    وَكَأَنِّي

    مِنْ فَيْضِ الْعِزَّةِ

    أَسْمُو فَوْقَ سَمَائي

    وَكَأَنِّي مِنْ أَوْرَادِ الْخُلْوَةِ

    عَادَتْ رُوحُ الْحِكْمَةِ لي

    وصَفَائي

    ****

    يحلّق بنا مأمون في أفق المعنى الديني في قصيدته الغزلية لنسبح معه في أنهار الجنة ونعتلي الفردوس ونقيم الصلوات ونتصوَّف تطوافًا في ملكوت الحضرة ونتمتم أورادنا في الخلوات حتى نصل معه إلى مناص الحكمة وعندما يكون الخطاب علامات لغوية تُستَثمر بغرض التخاطب حول المعاني الدينية، فإن هذا الخطاب تم تشكليه وفق ضرورات إيصال المعنى والحقيقة الدينية دون أن يحفل كثيرًا بالتوقف عند ملامح هذا الخطاب التكوينية في بعدها الخاص الجمالي، بل إنَّ خطاب مأمون يراهن على مطلب إيصال المعنى والتحرك حوله، بمعنى أن الخطاب في بنيته سيحتفظ ببعد وظيفي بصورة عالية؛ ذلك أن الخطاب اللغوي في هذه الحالة سيتحول إلى واسطة يستثمرها المتحاورون في إطار الحرص على تزويد المتلقي بمقولات العقيدة الإسلامية في بعديها الإيماني أو السلوكي من صلوات وأذكار وتطوافٍ وإيمان بالجنة الذي هو إيمانًا ضمنيًّا بالآخرة والبعث والحساب.

    وفي تقديرنا أنَّه ووفق هذا التصور نميل إلى تثبيت صفة الموضوعية في الخطاب الديني الاعتيادي الذي يتعامل مع التلاقي العقلاني بين منتجيه في إطار الحوار حول المعنى، أو في إطار إعادة إنتاج هذا المعنى الديني عندما يستهدف الخطاب المتلقي بغرض إعلامه بمعنى من المعاني الدينية؛

    ونرى في نفس القصيدة قيمًّا أخرى تتجلى يقررها مأمون استكمالًا لما بدأ فيقول:

    ****

    وَكَأَنِّي أُعْطِرُ

    بِالنَّظَرَاتِ حَيَائي

    وَكَأَنِّي أَنْظُرُ

    مِنْ شُرُفَاتِ

    الْوَجْدِ عَلَيْكِ

    فَأَحْتَضِنُ الدُّنْيَا عِشْقًا

    أَدْعُو مِنْ أَعْمَاقِ الْقَلْبِ

    أُنَادِي.. يَا أللَّهْ

    أَتَمَنَّى أَنْ يَزْدَادَ عَطَائي

    وَكَأَنِّي..

    مِنْ وَمَضَاتِ الشَّوْقِ إِلَيْكِ

    .............

    فَأَرْجُو أَنْ لَوْ كُنْتُ سُلَيْمَانَ نَبِيًّا

    تَأْتِي فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ

    بِلْقَيْسٌ

    وَلِتَمْلَأَ كُلَّ مِسَاحَاتِ الذِّكْرَى

    فِي صَحْرَائي

    .............

    وغير أن مأمون هنا ينظر من شرفات الوجد على محبوبته ويحتضن الدنيا عشقًا غير كل سياقات التصوير الفني وجماليات المعنى العاطفي الوجداني يؤكد مأمون على معنى الإخلاص في الدعاء لله وحده "أَدْعُو مِنْ أَعْمَاقِ الْقَلْبِ .. أُنَادِي.. يَا أللَّهْ" وهذا الإخلاص لا يأتي إلا إذا كان الدعاء من أعماق القلب، والنداء والرجاء لله وحدة تأكيدًا على عقيدة التوحيد الخالص، ثم يضمن قصة النبي سليمان عليه السلام وبلقيس، وما فيها من عظات تتجلى فيها قدرة المولى عز وجل.

    إنَّ مأمون هنا أدرك كيف يمكن للمعنى الديني أنْ يستثمر ممكنات الخطاب الأدبي في إحداث تواصل فعّال مع المتلقي؟

    وهنا نكون بين مفترق الطرق لموضوعين أساسيين: الأول يتعلق بذلك الطرح النقدي الذي يُبعد الفن عمومًا والنص الأدبي من بين ذلك، عن تقديم أي وظيفة إلاّ الوفاء لمبدأ الجمالية وفنية التكوين، وهو طرح نقدي أنتجه ذلك الصراع بين اتجاهي التفكير الأدبي لمبدأ الأدب والفن للمجتمع، وبين مبدأ الفن للفن، ولا ريب أن لكل من هذين الاتجاهين مرجعيَّته التي يصدر عنها، ومطامحه التي يراهن عليها من خلال العملية الإبداعية.

    إن هذين الطرحين يعكسان تصورات تضادية تتطرف كثيرًا في الدفاع عن طرحها، وبنفس المستوى من التطرف الفكري تسعى وراء إبطال الطرح الآخر، والحقيقة أنَّ كلا الاتجاهين ظهرا ونشطا في إطار التفكير الوضعي، حتى بالنسبة لاتجاه الفن للفن؛ ذلك أن الجمالية التي يراهن عليها بوصفها أول وآخر ما يُسأل عنه الفن، هي جمالية في إطار وعي الذات بالمجتمع، ووعيها الحساس تجاه أدواتها الفنية، ناهيك عن اتجاه الفن الواقعي الذي يتحرك أساسًا في إطار تفكير مادي يضبط وعي الذات المبدعة في علاقتها بالمجتمع بمستوياته المختلفة، وما يجب على الإبداع فعله ليسجل حضوره في إطار تلك الجدلية المادية، التي تحركها أدوات موضوعية خارجية تتعلق بآليات إنتاج الوعي والسلطة، وضوابط العلاقة بين الأفراد بعضهم البعض، والأفراد والمؤسسات الاقتصادية،

    وفي تقديري إن الخلفية التي يتحرك من خلالها اتجاهان الأدب -الفن والأدب للمجتمع، والفن للفن- هي خلفية تضبطها محدّدات معينة تقوم إما على استحضار مكثف للذات المبدعة وهي تعيد إنتاج تجاربها العاطفية الوجدانية من خلال العمل على مبدأ الأدب الجميل العاكس لعواطف مبدعة، وهي عواطف تتفاعل دائمًا في الإطار الإنساني، أما الاتجاه الواقعي فهو يتوقف دائمًا على محددات الواقع وكيفيات الحرص على المساهمة فيه، ويدخل الخطاب الديني عند مأمون بنفس الدرجة في المساهمة في بناء الشخصية المجتمعية المتزنة سلوكيَّا لأنَّ استثمار الخطاب الديني داخل النص الأدبي يتصل فيه المعنى بمصادر الدين ويؤكد على قيمه السمحة وتعاليمه القويمة.

    الصورة الشعرية من التأمل إلى الحكمة

    ***********************

    إنَّ جمالية المعنى لا تأتي من شرفه وجلاله بل من خلال طريقة صياغته وتشكله، ونقطة الشروع في هذا الامر تبدأ من عملية اختيار الشاعر لمعجمه الشعري الذي يتماهى مع موضوع القصيدة، ومـن ثم اختيار السياق المناسب، وهنا تتضح قـدرة الشاعر في التعامل مع اللغة ونجاحه في تفجيـر طاقاتها الكامنـة، وصولًا إلى مستويات جمالية مثلى.

    كما إنَّ الصُّورة المؤثرة هي المنبثقة من رؤية الشَّاعر وشعوره الوجداني كما أيضًا تتكون الصورة الشعرية من ملكة الشاعر الإبداعية ومراوحته بين الصبغة والصنعة؛

    لأنَّ قوة الشعر تتجلى في الصور التي تملك من الإمكانات الفنية والقيم ما يمكنها من التَّعبير عن التجربة الشعورية ووصف دقائقها والإيحاء بظلالها (30)،

    ونقلا عن د. أحمد درويش في إطار الحديث عن الصورة الشعرية قول (بريتون): "الأداة الرئيسية لخلق عالم جديد نحلم به ونحله محل العالم القديم ليست شيئًا سوى ما يدعوه الشاعر بالصورة"(31)، وهذا الشيء يُولّـد من مظاهر حسِّية ، ولا حسِّية يصل الشاعر إليها من طريق التمازج بين الحواس واللاشعور، فتكون الغاية من الصورة " معرفة غير المعروف لا المزيد من معرفة المعروف"(32).

    وعلى هذا القياس يكون الممارس لخلق الصور أقدر على الذوبان فيها، ومن ثم يكون أكثر توفيقًا في نقل ما تولّد بداخله من إحساس للمتلقي، مما يعطي الشاعر الطاقة، ومن ثم القدرة على إذابتنا فيها بنفس درجته، وربَّما أكثر، وبالتالي يحقق غايته في خلق أثر جديد.

    أمَّا الحكمة فهي ناتج تأمل وتفكير فقد انطلق أرسطو من الآراء اليقينية حول الأشياء المجهولة والمدركة والمظاهر الموثوق بها من قبل عدد كبير من الناس واعتبرها حقائق تقودنا إلى إدراك الوقائع ومعرفة منزلتنا في الكون والتفلسف.

    لقد اعتبر الحياة الإنسانية تتضمن ضرورة الحاجة إلى البحث والتحرك ومطلب تحصيل كل المعرفة وممارسة التفلسف والنظر في الطبيعة والاعتبار من الظواهر الكونية وبلوغ الحكمة من خلال التفكر.

    وقد احتفى مأمون في ديوانه "أزمنة بلهاء" بالصورة الشعرية التي تحمل جماليات المعنى وتعمق التفكير والتأمل، ليصل من خلالهم إلى حكمة القول وفصل الخطاب، ففي قصيدة "أجنحة الوقت" يحلق بنا الشاعر في أفق الخيال الفسيح فيقول:

    ****

    فِي أَجْنِحَةِ الْأَزْمَانِ

    مُعَلَّقْ

    أَتَأَمَّلُ فِي مَلَكُوتِ الْكَوْنْ

    أَتَقَلَّبُ مِنْ حَالَاتِ الظَّنِّ

    إِلَى الظَّنْ

    أَتَسَلَّقُ كُلَّ عُصُورِ الْحِكْمَةْ

    أَتَوَزَّعُ قِطْعًا

    فَوْقَ جِبَالِ الصَّمْتْ

    أَتَمَسَّكُ بِالْأَمَلِ الْمَفْقُودْ

    فِي سِرِّ الْوَجْدِ الْأَعْظَمْ

    مِنْ أَوْرَادِ الْمَوْقِفِ أَسْمُو

    أَلْتَحِفُ صَفَاءَ النَّفْسْ

    أَتَخَلَّصُ مِنْ عَثَرَاتِ الْأَمْسْ

    أَوْ أَحْفَظُ طَاقَةَ نُورٍ

    تَحْتَضِنُ الْقَلْبَ

    سِنِينْ

    أَوْتَرْفَعُ نَحْوَ سَمَاءِ الْفَرْحِ يَدَيْهَا

    كَيْ تَمْنَحَنِي عُمْرًا

    فَوْقَ الْعُمْرْ

    تَبْقَى فَاصِلَةً بَيْنَ الْبَيْنْ

    يَا أَصْدَاءَ الدُّنْيَا

    انْفَضِّي مِنْ حَوْلِي

    يَا أَعْبَاءَ الْفَرْحِ

    انْفَلِتِي دَمْعًا

    مِنْ أَشْبَاهِ الرُّؤْيَا

    يَا أُنْشُودَ الْحُزْنِ

    الْكَامِنِ فِي أَعْمَاقِي

    كُونِي طُهْرِي وَزَكَاتِي

    كُونِي أجْنِحَةَ الْأَنْوَارِ بِذَاتِي

    كُونِي وَعْدًا رَبَّانِيًّا

    كَيْ يَمْنَحَنِي نَهْرَ الْحِكْمَةِ مُلْكًا

    ****

    إنَّ مأمون يسعى في هذا النص إلى بلوغ الحكمة من خلال التأملات الكونية والتفكير العقلاني الوجداني في آنٍ، فنراه معلق بأجنحة طائر الوقت يتأمل الملكوت يتقلب في ظنونه يتسلق عصور الحكمة يتمسك بآخر ضوء للأمل المفقود في ذاته ووجدانه ليصنع من الأوراد رقيًّا وسموًا روحانيًّا فيحلق في الأنوار ويتخلص من العثرات، كي يصنع من أنشودة الحزن طهرًا وزكاةً وأجنحة من الضوء، إنها انشودة الحزن التي يرجوها الشاعر أن تتحول وعدًا ربانيًّا كي يُمْنَح المُلك نهرًا من الحكمة.

    لقد أدرك مأمون أنَّ الإزجاء المباشر للفكرة يخل بالقيمة التأثيرية للحكمة أو الإرشاد أو النصيحة القيمية، وكلمَّا تقدم العقل البشري فهو يحتاج إلى وسائل اتصال عقلية وذهنية وأدبية أعلى مستوى، وأكثر ذكاءً وأعمق تفكيراً؛ فمستوى خطاب الطفل يختلف عن مستوى خطاب البالغ أو المثقف أو الشيخ الكبير، ولذا بدأ مأمون بالتفكير والتأمل ثم الإدهاش في صنع الصورة وتكثيف المعنى وإيجاز المواقف حتى يصل إلى أعلى قيمة تأثيرية للحكمة التي أراد بثها في هذا النص والتي أرست في نهاية النص فكرة اليقين في إرادة المولى عز وجل وأن أمر الله بين الكاف والنون حيث يقول مأمون في نهاية قصيدته "أجنحة الوقت":

    ****

    يَا أَوْرَادَ الْبَوْحِ

    السَّاكِتِ فِي جَنَبَاتِي

    كُونِي فِي أَرْوِقَةِ الرُّوحِ

    نُجُومًا..

    تَتَلَأْلَأُ فِي كَلِمَاتِ الْحُبِّ الصَّادِقِ

    فِي نَظَرَاتِ الْعِشْقِ الدَّافِقِ

    فِي أَسْرَارِ الكُنْ فَيَكُونْ.

    *****

    لقد أفاد مأمون من الأدب الصوفي بشكل عام في طريق الوصول إلى الكمة فاكتسب سعة الرؤية، وشمولية التناول الموضوعي لمشكلات الدين والمجتمع والأخلاق في صيغ طرح جديدة غير الوعظ المباشر أو الطرح الخطابي أو التأليف الديني، فالخطاب الشعري أوقع في النفس وأجلب للانتباه، وأكثر إقناعًا ولاسيما إذا اقترن النص بتمحور الراوي حول ذاته منعزلًا للتفكير والتأملات إنها العزلة المنفتحة على الكون والتي تمتد إحداثياتها الرأسية إلى التحليق في المظاهر الكونية كما تمتد أفقيًّا إلى عمق النفس البشرية تبحث عن حقيقة الذات فتجوب أزمان سالفة وتقطن أماكن بعيدة، تجعل إقبال المتلقي على مثل هذه النصوص كبيرًا، فكل قديم قيمي أثير على النفس وإنْ كان محور النص حول الذات لأنَّ الذات الشاعرة هنا تسمو بالروح بالأوراد والبوح هذه الأوراد داخل وجد الشاعر تتحول نجومًا متلألئة من الصدق في أسرار الإرادة الإلهية، إن الخطاب الشعري الذي نسجه مأمون بضوء الوجد وسمو الروح المتأملة في الكون هو خطاب جدير بأنْ يوقظ مشاعر يختزنها اللاوعي

     

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: تجليات الإيقاع الوجداني بين التأمل والحكمة ..قراءة نقدية في ديوان: "أزمنة بلهاء" للشاعر حسن مأمون بقلم الناقد المصرى / سيد فاروق Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top