حرصت الدراما والسينما المصرية عبر الفترات الزمنية المختلفة التأكيد على دور المرأة في المجتمع الصعيدي، و تعاظم دورها في إدارة العائلة و الحفاظ على العادات والتقاليد. المرأة الصعيدية، ملكوت آخر من النساء، انتقت من سمرة الجنوب، قوة وكيد على استحياء،
ومن النيل انتقت التضحية والعطاء، ومن الجبال جاءت قوة تحملها، وهذا ما تتبعته المندرة مسلسلات تجسدت فيها قوة المرأة الصعيدية رغم ثبوت مظاهر العنف ضدها، إلا أن مواصفاتها وأصالتها استحضرت لها احترامها وحرمتها، رغم جميع حماقات المجتمع.
إن المرأة الصعيدية مازالت محافظة على معظم تقاليديها وتراثها، ويتجلى ذلك في تفاصيل صغيرة، فهي تستخدم في مطبخها أشياء كان يستخدمها الفراعنة، مثل “الزنادة” الفرعونية وهي أداة خشبية تستخدم لتنعيم ثمار البامية من أجل إعداد طبق “الويكة” الصعيدي، وتخبز العيش الشمسي الذى يخُبز منذ قرون،
و يرمز للأله آمون الفرعوني، كما تستخدم الطب الشعبي القديم، حيث تمتلك خبرة في استخدام النباتات والأعشاب للتداوي، بجانب طقوسها الخاصة في الزواج والميلاد والموت، فهي محافظة على الهوية والتراث،
وكذلك اعتقادها في عالم السحر، حيث روت لي العديد من النساء قصصا عن عالم السحر والأعمال السفلية، ونظرة المجتمع للمصابين باضطرابات عقلية وتعامله مع الحسد والأشباح، وكل ذلك يحدث بجانب استخدمها أيضا للتكنولوجيا.
عطر في القاصرات
هي المرأة التي نبعت قوتها من كأس ظلمها، حينما زُوجت قاصرة من رجل يكبرها بعمر بأضعاف عن عمرها، ويتركها أرملة في سن بداية الزواج مع طفلة. ويُحَرم عليها الزواج من بعد زوجها, وفقًا لعادات الصعيد الصارمة، فتبقى بجوار أخيها صاحب النفوذ والسلطة،
وتكون هي المحرك الأساسي في كل ما يخص شئون مملكته الداخلية، والعنصر الأهم داخل المنزل، ناهيك عن دورها في إدارة الشؤون الخارجية، والتي نادرًا ما يعتقد أن المرأة الصعيدية لها بها ذراع، كما أنها كانت هي التي تنتقي له زوجاته القاصرات، وتكون عليهم بمثابة سيدة الدار، وكثيرًا ما كانت تحدد مسار علاقته بأبنائه الرجال.
فاطمة في الزوجة الثانية
طالما ازدوجت صفتان أساسيتان في مواصفات المرأة الصعيدية في الدراما المصرية، ألا وهما قلة الحيلة، والحكمة والكيد العظيم، كما تجسدت شخصية فاطمة في العمل الفني الزوجة الثانية، سواء إن كان فيلمًا أو مسلسلًا، ففي بداية الأمر كانت فاطمة تمثل الفتاة الصعيدية، الطيبة،
التي لا تفترض سوء النية، كما بدا فيها حب التضحية، فهي صفة متأصلة في المرأة المصرية بوجه عام، مما يجعلها دائمًا قليلة الحيلة، إلا أنها بعد أن وقعت فريسة حسن نيتها، استخدمت حكمتها المدفونة داخل فطرتها، لتفرض سيطرتها برقة، على كل ما يجري حولها، كما هي تريد.
الحاجة ونيسة
يعد الضوء الشارد أبرز المسلسلات التي وقرت المرأة الصعيدية، وأكسبتها حرمتها واحترامها معًا، من خلال شخصية الحاجة ونيسة، والدة “رفيع بيه” بطل المسلسل، التي تفرض سيطرتها على أولادها، بالشدة تارة، وبالعاطفة تارة أخرى،
ولا يمكنهم اتخاذ أي قرار دون أن يكون قد نال من راحة ضميرها، وفطنتها، وعلى الصعيد الآخر، يبدو القرار في نهاية الأمر نابع من ابنها الأكبر، حرصًا منها على هيئته العامة.
أفراح إبليس
بدت القوة والضعف في آن واحد في الشخصية التي جسدتها الفنانة عبلة كامل، زوجة بطل المسلسل، جمال سليمان، وقد وضحت قوتها مع أبنائها، وفي علاقتها الظاهرية مع زوجها، الذي حرص دائمًا على منحها احترامها ووضعها أمام الناس، إلا أن فيما بينهما، كانت دائمًا هي الأضعف، وتعرضت للعديد من مظاهر العنف، مثل الإهانات الكلامية، والضرب، والزواج من أخرى،
دون أن تتردد في تحمل كل أنواع القهر، من أجل حفظ ماء وجه عائلتها، وعدم استطاعتها لاتخاذ أي موقف لحفظ كرامتها، لعدم وجود أي مورد آخر للعيش لها، أو حتى مأوى، سوى بيت زوجها.
امرأة من الصعيد الجواني
جسدت دورها الفنانة معالي زايد ببراعة، بملامحها الصعيدية السمراء، وقوة شخصيتها التي فُرضت على ملامحها، ساعدتها على تمثيل المرأة الصعيدية، التي جاءت إلى الحضر، متمسكة بكل عادات وتقاليد الجنوب، أكثر من ذويها الذين
ما زالوا بالصعيد، ونبعت قوة شخصيتها من وجوب تأديتها دور الأم والأب في تربية بناتها، اللاتي كن في سن الشباب والمراهقة، فطغت عليها القسوة المغلفة بالحكمة والحنان، من آن لآخر لكونها أم، وتعبر ببناتها على كل المخاطر، إلي بر الأمان.
حق مشروع
تعود أيضًا الفنانة عبلة كامل، لتجسد دور الصعيدية المدللة، التي يمنحها زوجها رغم رقتها، قوة الشخصية، من فرط حبه له، كما يحافظ على غيرته الصعيدية عليها، وحرمتها، ومن ثم تتعرض للمزيد إلي القهر، حينما يقتل زوجها، ويتزوجها أخوه الذي أحبها أيضًا، وكان الأضعف أمامها، بالرغم من استخدامه لأساليب العنف كي يجعلها ترضخ لرغباته، ولكنها تتحمل القهر، وتصون السر حرصًا على حياة ابنها التي كانت عُرضة إلي الخطر، فنرى فيها الشخصية المضحية، التي تأبى أن تجاهر بتضحيتها، حتى لأقرب الناس إليها.
وردة ذئاب الجبل
جسدت الفنانة سماح أنور جانب جديد من المرأة الصعيدية، التي وقفت في حيرة بين عادتهم القبلية، وطموحها وحبها، ومثلت تمرد المرأة الصعيدية على التقاليد، ورغم قوة وجرأة الموقف، إلا أنه غُلف بالتردد والخوف، الذي زيل من قبل والدها، لتأييده لها على تلك الخطوة، التي كانت ستظلمها، إذا تزوجت من ابن عمها الذي كان أقل منها في المال والتعليم، وطريقة التفكير، ولكن خوفها من أخيها, الذي تمسك بالعادات القبلية لم ينتهي، وإذ بزوجها القاهري يساندها حتى تثبت على موقفها، فلم تكن تقوى وردة على التمرد على القبلية، سوى بدعم أبيها وزوجها.
الليل وآخره والوتد
كانت “أم رحيم” أي هدي سلطان، هي العمود الفقري الذي تلتف حوله عائلة رحيم المنشاوي على استحياء، فلولاها ما كان تجمع أبناؤها رغم كل مشكلاتهم، لكن مدى قوتها لم يطوق إلي لم شمل فعلي، كما استطاعت الفنانة نفسها، في “الوتد”, التي كانت عمودًا فقريًا فيه أكثر صلابة من السابق، فهي لم تسمح بأي انقسام في عائلتها، وجاهرت بقوتها أمام الجميع، في وجود وزجها وأبنائها الرجال، وكانت بمثابة وتد حقيقي لعائلة بدت مثالية.
صالحة شيخ العرب
كان زوجها “شيخ العرب همام” هو القائد الكبير، ولكن كان أمامها طفل صغير، حتى حينما قرر أن يتزوج غيرها كي ينجب، كان ذلك باختيارها، وما كان يفعل ذلك إلا بإذنها، كانت تستمد قوتها من حبه لها، ولكنها أيضًا كانت تتمتع بكيد وحكمة، ما استطاعت أن تستغل حبه إلا إذا كانت تملكهم، احترمت صالحة التزاماته الخارجية، ولم تبد أي تدخل فيها، فكانت فقط سيدة الدار، وزوجها في داخله، كما حملت بجانب الكيد والقلب الغيور، قلب أم رحيم حتى نحو شريكتها في زوجها الأصغر سنًا.
هدى سلطان
الواقع يحمل الكثير من القصص التي تصلح لأن تتحول إلى أعمال درامية، فشخصية "فاطمة تعلبة" الشهيرة بمسلسل الوتد هي مستوحاه من شخصية حقيقية وهي زوجة عم الكاتب الراحل خيري شلبي. و أبدعت الفنانة هدى سلطان في دور المرأة الصعيدية القوية في مسلسل "الوتد"،
حيث جسدت دور "فاطمة تعلبة"، وهي الأم التي تسيطر على كل قرارات العائلة حتى أنها تقوم باختيار زوجات أبنائها بدون أخذ رأيهم وتقوم بتزويجهم، وتتحكم في زوجات أبنائها وبالمنزل بكامله بمن فيه، وتجمع بين الحب والحنان والحكمة والقسوة.
وعادت هدى سلطان مرة أخرى لتقديم الأم الصعيدية في مسلسل " الليل وآخره" ، من شخصية الأم التي تحاول أن تجمع بين أبنائها بعد الخلافات التي كانت تفرق بينهم.
سميحة أيوب
جسدت سميحة أيوب في المسلسل الشهير "الضوء الشارد" شخصية "الحاجة ونيسة" في مسلسل "الضوء الشارد". استطاعت سميحة أيوب أن تؤكد على قوة المرأة الصعيدية من خلال دورها، فهي الأم يحترمها الجميع ولها كلمتها التي يسمعها الجميع.
معالي زايد
في مسلسل "امرأة من الصعيد الجواني" الذي قدم عام 2006، القى المسلسل الضوء على المرأة الصعيدية القوية والمؤثرة في عائلتها من خلال الدور الذي جسدته النجمة معالي زايد. قدمت معالي زايد من خلال دور "نوارة" صورة مغايره للمرأة الصعيدية التي تتخلى عن الكثير من الأفكار الخاطئة بالمجتمع.
وجسدت دور المرأة الصعيدية التي تعيش مع زوجها "فواز" و بناتها الأربعة ، و تسعى جاهدة ليكملوا تعليمهم ، و تقف أمام زوجها و أمام اهل البلد ، وتسافر إلى بيت خالتها في الإسكندرية و رغم المحاربات والظروف ستقف على قدميها من أجل بناتها.
عبلة كامل
حاول مجدي صابر في مسلسله الذي قدمه على مدار خمس أجزاء "سلسال الدم" توجيه رسالة بالابتعاد عن الثأر، من خلال تقديم البطلة ناصرة "عبلة كامل" التي تنتصر للقانون والعدالة، وكان يمكنها أن تلجأ للثأر ولكنها رفضت ذلك. كانت بطلة العمل عبلة كامل مثال إلى المرأة القوية فهي تقف في وجه الظلم الذي يقوم به العمدة هارون، وتحمي أبنائها وتحث بناتها على التعليم، فالمشاهد يجد نفسه أمام شخصية مختلفة لا تدعم العادات والتقاليد الخاطئة.
سهير المرشدي
جسدت الفنانة سهير المرشدي دور الأم الصعيدية القوية مرتين آخرهم كان في مسلسل طايع العام الماضي. وتجسد دور المرأة التي تصر على عادات والتقاليد وتجبر أبنائها على الأخذ بالثأر، لكنها تتراجع في نهاية الحلقات وتتخلى عن فكرة الثأر.
وقبلها جسدت دور الام الصعيدية في مسلسل "أريد رجلا،" والتي ترفض زواج ابنها "اياد نصار" من مذيعة راديو، وتتدخل في حياته بشكل كبير.
هند صبري
جسدت الفنانة هند صبري شخصية كريمة المرأة القوية العنيدة التي تقود جزيرة بأكملها في الجزء الثاني من فيلم الجزيرة، فهي "الكبيرة".
عادة ما تُصور المرأة الصعيدية بكونها أمراه ضعيفة، هشة، مقهورة، مغلوبة على أمرها، ولكن المتعمق قليلا يكتشف أنها قوية وذكية لكن بطريقتها الخاصة، في فضائها الخاص، هي رئيسة بيتها، يحتاجها الرجل في تدبير كل أموره، ولكنه قد يهينها في العلن، عالمها يحمل الكثير من التعقيد والغموض.
تعانى من التعنيف كغيرها من النساء، تُعاقب أحيانا بكونها المخطئ الوحيد في كل شيء، فهي المذنبة في حالة إنجاب البنات، وفى حالة مرض ابنها، وإذا مات زوجها، كما يُمارس عليها الحرمان من الميراث –
وذلك ما أكدته دراسة وزارة العدل، بأن 95% من النساء في الصعيد محرومات من الميراث- بجانب عزوفها عن ممارسة السياسية لارتفاع نسبة الأمية أو لرفض الرجل مشاركتها، هذه الحالة المعقدة من الصفات المميزة للمرأة الصعيدية، وكونها أكثر اتصالًا بالطبيعة وقواها الفيزيقية، فهي تعرف أحوال القمر بالعين،
وتعرف شهور السنة القبطية وكيف يؤثر على مزاجيتها، البعض يؤمن بالعفاريت والسحر، تعرف الكثير عن جسدها وخصوبته والحيل الشعبية القديمة، التي تجعل العاقر حاملا، منهن من تحلم باستكمال دراستها،
ومن تطمح في حياة مختلفة، ومنهن من يتزوج زوجها عليها وترضى، ومن تحل مشاكلها بالسحر والعفاريت، وغيرها من الحكايات هناك حراك بشكل كبير لتعليم النساء في الصعيد، وإكمال مرحلة ما بعد الدراسة الجامعية،
ومعظم الحالات التي قابلتها كن جامعيات، ولكن مازالت مثلا مسألة سفرها للخارج للتعليم غير واردة سوى بالزواج، ويكون سفرها للعمل معه أو استكمال التعليم، فاكتشاف العالم بالنسبة للمرأة عادة يكون من خلال الزواج، أو التعليم في القاهرة، حيث قابلت سيدات كبار في السن، كانوا قد سافروا للعمل بالخارج، وهم مقترنات.
المرأة الصعيدية هي سيدة دارها، مديرة بيتها وتتحكم في الموارد، فهي الرئيسة في ذلك الفضاء الخاص، بقدر ما يبدو تحركها في الفضاء العام محدودا ويتوقف على ما يقبله زوجها، لكنها تظل أمرأه مميزة، قوية، وذكية تعرف محيطها بشكل كبير، ومن خلال هذا الذكاء تستطيع تحقيق مكاسب كبيرة، وهي محل اعتماد رجلها بالكامل، فهو لا يستطيع إدارة عالمه من غيرها.
حكايات العفاريت والأشباح بالتأكيد، التي يتم التعامل معها على إنها جزء طبيعي في الحياة، وكذالك التراث الغنائي المرتبط بظواهر طبيعية مثل الغناء والتطبيل عند احتجاب القمر، بجانب أهازيج الأعراس، والحج، وتوديع الموتى، والتعديد عليهم، ولكن أيضا ينبغي القول أن هذا التراث في طريقه للاندثار.
لا تختلف ظروف المرأة في الصعيد، عن المرأة في القاهرة، أوفي الوجه البحري، فالجميع الأن يتعرض لنفس وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، ويشاهد المسلسلات الهندية والتركية، ويتأثر بطريقتهم في الملبس وغيرها، فداخل البيت الصعيدي الأنترنت ، ووسائل التواصل الاجتماعية،
لذا يمكن القول أن الفروق بين أنماط الحياة تتقلص، ولا يوجد مجتمع مغلق على نفسه تماما، ولكن أيضا يجب القول أنه حنى مع هذه التغيرات، يظل المحرك الأساسي للمرأة هو تربيتها وعادات أهلها، وعادات بيتها، وقريتها، وهى الأقوى تأثيرا من مواقع التواصل والمسلسلات الهندي والتركي، وما تتابعه، فالجوهر لم يمس.
لذا يظل أبرز ما تحتاجه المرأة في الصعيد هو التعليم، هي وأبنائها “ولاد وبنات”، لأنه فرصتها الوحيدة لتحسين وضعها في المعادلة الاقتصادية والاجتماعية، لتكون قادرة على العمل في وظيفة جيد لا يعتبرها الرجل مهينة له،
بجانب إن التعليم سيلعب دورا ضروريا في تغير أفكار الرجال فيما يتعلق بسوق العمل، وما يمكن قبوله أو رفضه، فما تعانيه محافظات الصعيد ومصر بصفة عامة، هو انخفاض جودة التعليم.
فصعيد مصر مجتمع مشحون بالمورثات، والمكونات الثقافية والدينية، بجانب التعقيدات الطبقية والقبلية، تحت قشرة رقيقة من التحضر والتمدين، يحتاج لعمل مستمر من الباحثين، لأن التراث يتآكل ويتقلص مع الوقت .
*كاتب المقال
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
0 comments:
إرسال تعليق