• اخر الاخبار

    السبت، 1 فبراير 2020

    صخب في مقبرة !!! ..قصة للأديب العراقى الكبير :عيسى عبد الملك


    صخب في مقبرة !!!  ..قصة للأديب العراقى الكبير :عيسى عبد الملك


     كان منفعلا جداً. راح يوبخني بقسوة . قذف بوجهي سيلاً من النعوت منها العقوق : لم تقض عني الدين ، لم تتواصل مع من احب. لم تبن قبري الذي هدمته مرارا صواريخ الامريكان وصراعات الأحزاب، لم تذكرني بوجبة طعام ليال الجمع ولم تزرني في الاعياد ،يا عاق، قال والدي ثم خرج. ليلتها لم أنم ، ولأنه العيد ،قررت ان ازور قبره الذي بنيته ثلاث مرات .هذه المرة ، وجدت صعوبة في الوصول اليه فرحت ادوس على القبور المتداخلة المنهار بعضها . بعد أكثر من ساعة ، لمحت قبره مخنوقا بين زحمة قبور. جثم  فوقه قفص حديدي لقبر شهيد لا ادري في أية حرب قضى ،الثانية ، الثالثة أو ربما الرابعة ،اذ لم تكن هناك شاهدة  في فوضى تداخل القبور. في البدء لم اعرفه. دلتني عليه شاهدة القبر الكبيرة التي اعتنيت بها كثيرا كي افاخر الآخرين.  حين مات أبي، كانت القبور متباعدة بينها فسح لجلوس الزائرين  وكان الدفان يستقبل الجنازة  بالحضن فرحا يهرول خلفها . لم يكن يملك سيارة حديثة ولا فلاّ ولا سكرتيرا ولا مكتباُ انيقا، كانت الزيارة تشبه السفرة المدرسية .نحمل للقبر الشموع والبخور وقناني الماء نرشه على القبور، نحمل طعامنا وننفق بسخاء على  الذين يطوفون بين القبور يدعون انهم كل يوم يقرأون القرآن عند قبر المرحوم .ادعاء تكذبه قناني البيرة الفارغة بين القبور، ثم جاءت  سلسلة الحروب  تلتهم الاحياء كالوباء، زلازل متتالية مدمرة أتت على مباهج الحياة لأسباب لم يقتنع بها احد سوى من أشعلها . ولأني متعب من وعثاء السفر ،تمددت فوق ركام  ثلاث قبور لجيران قبر ابي  التصقت به . جعلت من شاهدة قبر وسادة و غفوت. لم ادر ان المقبرة قد  اقفرت  بعد أن أفرغ زائروها  ما في العيون من دموع . القبر في المقبرة القديمة التي صارت شبه مهجورة  بعد ان استحدثت أكثر من مقبرة وتكاثرت القبور كالفطر حتى راحت تهدد بابتلاع المدينة .
    فجأة انفجرت ضجة وعلا صراخ وصخب غاضب : لسنا نفايات ، لقد هشم الأحياء أضلاعنا وبعثرت عظامنا كأننا لم نكن ذات يوم بشرا  في وطن صار الآن خرابة . للقبور حرمة، قبور العراقيين وحدها مهانة . إننا نرفض الاذلال وانتهاك حرمتنا .قال خطيب رفعه الاموات على الاكتاف .
    ــ نعم ،لم تعد القبور مكان راحة ايها الأخوة. طوابير الجنائز بلا انقطاع ليل نهار. عويل وصراخ على مدار الساعة.!
    ـــ وأصوات المعاول لا تهدأ . القبور في تكاثر وبقعة الأرض محدودة صار الواحد لا يعرف عظامه من عظام جاره .قال صوت غاضب ثخين لرجل كان يقف خلفي .
    ــ بلاد موبوءة  بلعنة النفط والحروب. فوضى  القبور، جشع حفاروها واهمال الحكومة، ليختاروا بقعة أخرى لهذه الملايين أو يبنوا قبورا باتجاه السماء، أمر لا يطاق لنتحرك يا رفاق ، أثبتوا وجودكم !!.
     كان الخطيب والدي .يا للعنة حتى الكفن لم يغير طبعه! كان يسبّ النظام  مقلدا الشاعر الاسباني لوركا ساعة اعدامه .ذاك الذي هتف بوجه الجنود قبل أن تخمد انفاسه رصاصات بنادقهم الرشاشة .
    انغمار والدي في السياسة، لم يكن مستغربا في العراق لكن المستغرب، وقوفه خطيبا يحرض الأموات على الثورة ! . كنت ادرك انني في حلم واني في مقبرة اقابل ابي الميت منذ عقود . أثار خطابه حماس الاموات .لاحظت أنه قد ادرك حضوري لكنه في فورة غضبه لم يرحب بي بل امسك بيدي بقوة حتى كدت اصرخ .
     ـــ بينكم الآن واحد منهم ، منغصي حياة الموتى وزارعي الحزن في بيوت الأحياء ، قال موجها كلامه للحشود الغاضبة حوله من الموتى. أطبقت الجموع الغاضبة عليّ.
    يسقط مشوهو زينة الحياة  ولنعش نحن بأمان. هتف بعضهم ، وطالب بعضهم بسحلي . تعالت الهتافات والضجيج والصخب .
    ــ هدوءً ، ليس قبل ان نسمع منه، قال الخطيب .
    لنسمع ، نسمع.
    فسح لي المجال وراح الموتى ينتظرون دفاعي .أسقط في يدي ورحت
    استعرض وضعنا الكئيب . بحزن ختمت كلامي قائلا : لسنا أسعد حالا منكم .واقعنا مرير !
    ـــ غيروه ، صرخ أحدهم بوجهي ،كان يساريا متطرفا ربما .
    ـــ كي تغير عليك ان تملك ارادة التغيير وهم بلا ارادة .شعب بلا ارادة ، قذيفة  بلا صاعق .
     قال شيخ وقور ربما كان عسكريا .
    لقد  دجنتهم  الانظمة كما يدجن حيوان مفترس .قال ثالث.
    رفع والدي يده فسكت الجميع ..التفت اليّ وقال بحزم ، وضّح لهم .
    في حضرة الأموات اكتشفت انك لا تستطيع ان تكذب .
    ــ لأننا مبعثرون بلا ارادة وقياد ة وبوصلة ، تعصف بنا فتن واحقاد كانت مطمورة قرونا.  ننتظر حلاّ من الخارج أو معجزة .قلت.
     شق الجموع رجل رصين. نظر الجميع باحترام اليه .
    ــ ما رأيكم نقود نحن  التغيير فالقوم قد روضوا  !!!.
    نعم  نعم  ..علا الهتاف وراحت أصابع التهديد تشير بغضب الي  !!!
    استيقظت على اهتزاز الارض وتساقط أحجار وصوت انهيار بعض القبور القديمة نهضت مرعوبا. هل انتفض الموتى حقاً؟
      ركضت نحو بوابة المقبرة مرعوبا.
    ــ.من جديد فجر الاشرار سيارة ملغومة قرب مدرسة أطفال،  قال شرطي مرور كان يركض مذهولا  يحمل طفلا مخضباً بالدماء بلا أطراف   !!!.

    • تعليقات الموقع
    • تعليقات الفيس بوك

    0 comments:

    إرسال تعليق

    Item Reviewed: صخب في مقبرة !!! ..قصة للأديب العراقى الكبير :عيسى عبد الملك Rating: 5 Reviewed By: موقع الزمان المصرى
    Scroll to Top