في سكون الليل وهدوئه تصفو الروح، وترق المشاعر وهذه اللذة لا يشعر بها إلا من جربها؛ ففي هذا الوقت من الليل يكون الهواء أكثر نقاءً، والجو أكثر صفاءً، والنسيم العليل يملأ الدنيا بتعبيره، والسكون والهدوء يغمر الكون؛ فتشعر كأنك في عالم آخر، غير عالمنا الذي نعيش فيه، وكأن الدنيا كلها تستعد وتتزين
الروح هي ما هو غيبي وغير مرئي وغير ملموس. شيء ما يجعلك تتآلف مع إنسان. تحبه. تعشقه. تشتاق إليه ويعذبك هذا الاشتياق. إنه انجذاب هائل لا تقوى أن تنفك منه، بل لا تريد أن تنفك منه لأن يملؤك بالفرحة والنشوة واللذة.
ولذة الروح هي خبرة ذاتية جداً. خبرة سماوية. خبرة يعجز الإنسان عن وصفها ولكنه يدركها بروحه . وحتى روحه لا تستطيع أن تصفها وأن تحددها. بل هي داخل أعماقه. كل كيانه. أصل وجوده. محور حياته.
الحب ماء الحياه، بل هو سر الحياه , الحب لذة الروح , بل هو روح الوجود , و بالحب تصفو الحياه , و تشفق النفس , و يرقص القلب , و بالحب تغفر الزلات , و تقال العثرات , و تشهر الحسنات , و لولا الحب ما التف الغصن على الغصن , و ما عطف الضبي على الضبيه , وما بكي الغمام علي الأرض , و بالحب يمتلئ القلب و تصفو النفس , و بالحب تتناثر الأحقاد و يستقر الفؤاد , و لولا الحب ما زينت النجوم السماء ولا احتمل الناس البقاء
أنت تحب إنساناً آخر بروحك لأسباب ما لا تعرفها، أي بدون أسباب .. شيء ما كالقوى المغناطيسية .. فتصبح أسيراً وتسير طائعاً ومتقبلاً وراضياً.
وهناك أنواع من الحب تلعب فيه الروح الدور الأساسي، بل الدور الأول ، بل ربما الدور الأوحد ، وتحقق لك التواصل مع محبوبك ، وهو حب الله ، وحب الوطن ، وحب الأم والأب ، وحب الابن والابنة ، وفي النهاية حب امرأة ما لرجل ما ، وحب رجل ما لامرأة ما .. أو حين يتحاب رجل وامرأة .
إنه حب يشكل صميم وجودك إذ يلغَي وجودك أو ينتهي بدونه .. أي أن هذا الحب سابق علي وجودك .. أي هو الأصل، ثم خلقت أنت لتجد أنك تحب خالقك ، وإذا لم تحبه فأنت غير جدير بأن توجد ولا معنى لوجودك وأنت غير فاهم وغير مدرك لأساس وجودك ..
وخلقت لتجد نفسك .. تحب وطنك فإذا بك لديك الاستعداد لأن تموت من أجله .. إن الوطن معنى كلى متكامل فيه شيء من معنى الأمومة والأبوة ، بالإضافة إلي التاريخ والثقافة والكينونة والامتداد والحرية والكرامة .
ومن لا يحب وطنه فهو كالريشة في الفضاء تدفع بها الرياح بلا هدف .. عدم حب الوطن هو خيانة للذات .. هو إنكار لإنسانية الإنسان.
وخلق الإنسان ليحب أمه وأباه .. إنه أيضاً حب الوجود ، وحب أني موجود ، وحب أني منسوب إلي خلية بعينها ، وحب الأصل والمنبع والزهر بالركيزة والسند ومتعة العطاء غير المشروط والجلوس علي عرش الفؤاد والترحيب المطلق .. أحب أمي وأبي أي أحب أنا ..
أحب وجودي .. أحب الحياة .. ومن لا يحب أمه وأباه فهو كالهشيم الذي تذروه الرياح ، أو التراب الذي تبعثره نفخة هواء .. بل هو لا شيء .. امتداد للاشيء الناشئ عن عدم حب الله وعدم حب الوطن .. فيأتي التتابع كالآتي : من لا يحب نفسه لا يحب الله لا يحب وطنه ، ولا يحب أمه وأباه .
وتتواصل حلقات الحب الروحي لتصل إلي حب الابن والابنة .. وهذا هو قمة الشعور بالأنا .. هذا هو ابني أنا .. وهذه هي ابنتي أنا .. هذه هي خليتي التي جاءت من جسدي وتخلق منها هذا الابن وهذه الابنة .. أنا الأصل .. أنا المنبع .. أنا التراث .. أنا التاريخ ..
وأحد جوانب هذا الحب هو الملاصقة والمتابعة والتتابع والمسئولية؛ فالأبناء يعيشون في حضن الآباء والأمهات .. كالزهور التي تعيش جذورها في حضن الأرض .. ويمتص الابن والابنة رحيق الحياة من الأم والأب كما تفعل الزهور وهي تعيش علي باطن الأرض .. إنها ملاصقة ومتابعة .. وأروع ما في الأمر ملاحظة تتابع النمو والمرور بالمراحل المختلفة إلي حد النضوج .. إنها رحلة طويلة وشاقة وسارة وممتعة للغاية لأولي الألباب ..
ولذا يولد الأبناء ويولد معهم في نفس اللحظة حب آبائهم لهم .. حب يقر في القلوب .. ولا يمكن للآباء ألا يحبوا الأبناء إلا إذا كانوا منزوعي القلوب .
فهناك بشر قلوبهم منزوعة من صدورهم ولا يوجد مكانها إلا عضلة صماء تضخ الدماء في الشرايين ، أي وظيفة ميكانيكية بحتة ، ومن لا يحب ابنه أو ابنته فهو لا يحب نفسه !
ثم نأتي لأحد أشكال الحب الروحي الأخرى وهو الحب الذي يقع بين الرجل والمرأة .. سر الوجود وأصل الحياة ومبعث الخليفة ..
لولاه لما اقترب رجل وامرأة أو امرأة ورجل إلا كما تقترب الحيوانات من بعضها ، هو الذي سما بالإنسان وارتفع به وأعلي من شأنه ، وجعله يستقبل الجمال ويهتز للفن ، ويعمل الفكر ..
إذا اقترب رجل وامرأة تحت مظلة الحب وبفعل نشاط الروح فقد ارتفعا عن الأرض محلقين أنساً وغراماً، وفناً وجمالاً، وهذا فعل إلهي، وسر رباني ، وتوليفة من صنع الخالق لتحقيق التآلف بين روحين لرجل وامرأة ..
فيقرران أن يكونا معاً . وهو رجل محظوظ وهي امرأة محظوظة، أن أتاح الله لهما اللقاء ثم أتاح التعارف ثم أتاح التآلف الروحي، فتعانقا التصاقا روحياً وكأن كل واحد منهما وجد ضالته والتقى بما ضاع منه فاكتمل وهدأ وهنأ .. إنه حظ سعيد ..
ولا يمكن لامرأة أن تأنف الرجال إلا إذا كان بها علة .. ولا يمكن لرجل أن يزهد النساء إلا إذا كان به علة .. وهي علة العلل ..
إنها العلة التي تُبقي الإنسان وحيداً معزولاً محروماً ، وتفقده دوره في اكتمال المعنى وإثراء الحياة .. فالميل فطرى وطبيعي ويبدأ بالروح ثم النفس .
النفس تستجيب بعد الروح .. وهو بعد إنساني هام .. النفس هي وجدان وفكر وإدراك وسلوك .. النفس هي النشاط الذي يربط الإنسان بالواقع فيجعله يستقبل فيدرك فينفعل فيفكر فيسلك .. وهذا هو العقل .. العقل الذي يعطي للإنسان كينونته الأرضية ..
العقل هو الذي يجعله يسير في مناكب الأرض ليعمل ويأكل ويتفاعل مع الناس .. العقل هو نشاط مُخي .. المخ يحتوى علي المراكز العقلية .. فهذا مركز للتفكير وآخر للإدراك وثالث للوجدان ورابع للسلوك .. وكلها تندرج تحت ما يسمي بالنفس ..فالنفس البشرية هي هذه النشاطات العقلية الأربعة .. وهي متمركزة في المخ .. أي تنبعث من المخ ..
والمايسترو لكل هذا النشاط هو الروح .. المسيطر الأعلى .. المتحكم الإحساسي .. الروح هي التي تعطي السمة البشرية لكل هذه النشاطات .. الروح هي التي تقول إن هنا إنساناً ..
ولذلك فالنشاط العقلي عند الإنسان يختلف عن النشاط العقلي عند الحيوان .. النشاط العقلي عن الحيوان غريزي بحت .. مادي مطلق ، إدراك حسي محض .. ولذا فالحيوان لا يرتبط عن طريق الحب ولكنه يرتبط عن طريق شرطيات مادية كالطعام والجنس ..أي إرضاء الحاجة ..
وهي حاجات مادية .. أما الحب فهو أعلى لذة معنوية .. أسمى شعور إنساني .. أبهى صورة جمالية للإنسان .. والحب هو الفيض الإلهي .. المنحة الربانية .. النعمة الكبرى .. النور السماوي .. إنه التفضيل الحقيقي للبشر عن سائر المخلوقات .
وبالرغم من أن الإنسان كائن أرضي فإنه يحلق بروحه .. وارتباطاته البشرية تبدأ من عند الروح .. فيحدث إما تآلف أو تنافر .. ومن تألفه تقترب منه ومن تتنافر معه تبتعد عنه .. ومن ألفته تحبه .. وإذا كان من أحببته من جنس مختلف فإن وجدانك يتحرك نحوه .. إنه الهوى .. الميل .. الانجذاب .. وعقلك كذلك ينبهر به .. فإذا مال وجدانك وانبهر عقلك فقد سيطر هذا الإنسان عليك وامتلك كيانك فلا تستطيع أن تبعد عنه فتقرر بملء إرادتك أن تبقى معه ..
ووجودك بالقرب منه يمنحك السعادة والشعور بالأمن إنه الأمن والأمان .. إنها الطمأنينة النفسية .. وتلك أكبر مصادر اللذة والسرور ومبعث النشوة ..ولذا يصبح الزواج هدفاً للمحبين والعشاق ..
وتحت إلحاح الضغط الروحي والنفسي تتحرك الغريزة .. وهي ذلك الميل الجسدي للجنس الآخر تحت مظلة الحب .. الحب هو السابق عند الإنسان وليس الجنس ! ..
ولذا فالجنس تحت مظلة الحب له مذاق خاص إذ يتحقق فيه أقصى درجات الالتصاق والاقتراب .. هكذا يصبح معناه .. وسيلة لإشباع الروح وإرضاء النفس وليس الجسد .. الروح تشبع أكثر من الجسد حين يكون هناك جنس .. والوجدان يطرب للجنس أكثر من الجسد .. وهذا نوع مختلف من الجنس .. نوع ليس بيولوجياً بحتاً ..
ليس احتكاكاً واستثارة للأعصاب الحسية! .. الجنس المادي أو الميكانيكي هو حركة آلية تؤدي إلي ارتعاشات أي تحقق لذة الجسد فحسب أما الجنس في إطار الحب فإنه يحقق نوعاً إخر من اللذة .. لذة فوقية .. لذة غير محسوسة علي المستوى المادي .. لذة بعيدة عن الأعضاء الجنسية ..
لذة لا يعرفها إلا من أدركها وعاشها .. إنها لذة الروح ولذة القلب ولذة العقل .. وهي لذة لها معنى أو لها مدلول؛ وهو أن حبيبك بين يديك وفي أقرب موقع منك وأنكما معاً تؤديان فعلاً ما يحقق لكما لذة في كل الاتجاهات .
وهذا النوع من الحب أي حب الرجل والمرأة هو حلقة من ضمن حلقات دائرة التواصل الإنساني؛ تبدأ بالحب الإلهي وتكتمل بأشكال الحب الأخرى التي تشكل المعنى الحقيقي للإنسان وارتباطاته الأزلية والحيوية ، وهي حب الوطن وحب الوالدين وحب الأبناء وحب امرأة ورجل.
إنها منظومة التوازن والاكتمال. وبذلك ينعم الإنسان بالصحة .. أي يكون سعيداً ومطمئناً .. أي يكون راضياً هانئاً.
والمحروم من الحب تعيس شقي .. قاساً غليظ .. لا يأمنه أحد وهو محروم من الأمان .. معزول منبوذ وهو عاجز أن يُقرب أحداً منه أو يحتفظ بأحد .. قد يجمع مالاً كثيراً .. قد يتبوأ أعلي المراكز .. قد ينهل من البحر الملذات الحسية .. ولكنه محروم جائع عطشان قلق .. لا يحب أحد وهو يعترف تماماً أن أحداً لا يحبه .. وتلك أقصي درجات الشقاء النفسي
إن المقارنة بين لذة حاضرة مؤقتة يتبعها زهد وإعراض ولذات خالدة باقية مستمرة إلى لا نهاية مع تصور الألم الذي ينجم عن العقاب الذي يستحقه المخالف لمخالفته-والتي سنرى أنها قبيحة تستحق العقاب- يجعل المرء أقدر على اتخاذ قرار واضح بالإقلاع عن السلوكيات التي نهي عنها، والإقبال على ما يصلح به نفسه ليكون أليق بلقاء الله متى حان وقته.
0 comments:
إرسال تعليق