لمن عظيم سرور الإنسان العربي أن يجد في مجتمعاتنا العربية أعلامًا وصلوا القمم وتسلقوا رآسيات الجبال كي ينشروا فوق رؤوسِنا غمائم العلم والأدب العربي العريق فتمطرنا تلك الغمائم غيثًا يسقي روابيا تعطشت لمناهله كي تروي المسافرين لجني ثمار العلم والأدب .. من بين هؤلاء العمالقة العباقرة في الوطن العربي وصاحب المؤلفات الأدبية المتعددة البروفيسور أ.د محمد تقي جون استاذ اللغة والأدب وموسيقى الشعر وعلم العروض بجامعة واسط من أرض العراق المجيد ..
الخليل بن أحمد الفراهيدي
بقلم / أ.د محمد تقي جون
على الرغم من ترفعه عن الدنيا والدنايا، وذكائه المشهود له، مارس الفراهدي فعلا سلطوياً على الشعر والشعراء:(أنا سكان السفينة والشعراء تبع لي)، وضمن هذا الفعل جاء تأليفه العروض. وإذا ثقف الجاحظ لفكرة أن الشعر من حظ العرب وحدهم دون الأمم: (وفضيلة الشعر مقصورةٌ على العرب) فقد حصر الفراهيدي أوزان الشعر بخمس دوائر تضم (البحور العربية) لأنه (لا يكون الشعر شعراً حتى يُحامَى فيه وزن من أوزانهم). وبهذا قطع الطريق على الابتكار في الأوزان الشعرية التي شهدت ثورة عارمة من شعراء عرب وعجم سعوا إلى التجديد في موسيقى الشعر العربي كالوليد بن يزيد وأبي العتاهية وأبي نواس وعبد الله بن منذر وابن السميدع ورزين العروضي، وذلك لإحساسهم بان الشعر يتناغم مع الحياة ويتحرك بطءاً وسرعة بموجبها. وقد ظن الخليل أن السماح بأوزان أخرى طمس وإلغاء للأوزان العربية أو ثورة سياسية عليها وعلى العرب. وفي الخليل وعروضه قال ابراهيم النظام: (توحَّدَ به العُجْبُ فأهلكَه، وصَوَّر له الاستبدادُ صوابَ رأيه فتعاطى ما لا يحسنُه، ورامَ ما لا يناله، وفتنَته دوائرُه التي لا يحتاج إليها غيره). واكد ابن فارس (أن العروض كان موجوداً وقل في أدي الناس فجدده الفراهيدي)، وهذا يصحح الرأي القائل بأن الخليل ابتكر العروض. وأوضح قدامة بن جعفر عدم ضرورة العروض لأن جميع الشعر الجيد المستشهد به إنما كان قبل وضع الكتب في العروض والقوافي. وقد وقف الخليل وسط سيل الأوزان المبتدعة وليس للعرب سوى (12) بحراً، فاقترح فكرة الدوائر، وهو بتطبيقه فكرة الدوائر أوهم أن كل وزن ممكن أن يستخرج من تقليبات البحور الجاهلية الأساسية، التي جعلها على رأس كل دائرة، هو في حيز الأوزان العربية وان لم تكتب عليه العرب، والذي لا تستوعبه الدوائر لن يكون عربياً، وسيكون الشعر المكتوب عليه محارباً. وانطلاقا من ذلك اشتق مصطلحات العروض كلها من الخيمة كالبيت والوتد والفاصلة والخبن والطي، ولم يشتقها من حياة الحضارة التي عاشها انتصارا للماضي العربي. وانسجاماً مع تقسيم السلف، ميز الخليل في عروضه بين وزن (القصيد) ووزن (الرجز) فهو حمار الشعراء لا يكتب عليه شعر محترم. اشتغل الخليل على قضيتين لتحقيق غايته (العروضية) الأولى: التقليبات (الدوائر)، والثانية: الزحافات والعلل. وقد ظهرت عنده في (التقليب العروضي) بحور لم يكتب عليها الجاهليون ولم تتقبلها سليقة المعاصرين، فزعم أن العرب أهملتها موحياً بمعرفتهم إياها، والحقيقة إن (المهمل) لم يكن اقتراحاً منه لبحور جديدة ولكنها من مضاعفات عملية التدوير، وإذا خرج بحر مستعمل سماه أو مستحدث مشهور تستطيع الدوائر بتقليباتها استيعابه ولو بحيلة كالجزء والعلل والزحافات التي اخترعها، رده إلى الأوزان العربية ومنحه الشرعية فصار عربيا على الرغم من أن العرب لم تعرفه مطلقاً وهي التي تقع في الدائرة الرابعة والخامسة. وعملية التدوير هذه أسقطت عشرات الأوزان التي لا تتأتى من (التدوير) فنادى علم العروض بشطبها وإسقاط شرعيتها كما ألجأته خطته إلى وضع الكثير من الزحافات والعلل من (عندياته) حيث تتيح له الحذف الواجب للتفعيلة: الجزئي أو الكلي للوصول إلى البحر المقترح؛ فالمتدارك يأتي من قلب تفعيلات المتقارب (فعولن فعولن فعولن فعولن) مرتين فتصبح (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن) مرتين وهذه مرحلة أولى لان البحر بهذه التفعيلات لا يشبه المستعمل لدى الشعراء وهو أن تأتي التفعيلة (فعْلن) أو (فَعِلـُن)، أما مجيئه على تفعيلتي (فعْلن) أو (فَعِلـُن) وهو البحر المستعمل المشهور ففيه تنتحر كل قواعد الخليل العروضية وأدواته المقترحة؛ لان عليه أن يدخل على فاعلن مرة الخبن لتصبح (فَعِلُن)، ومرة القطع أو التشعيث لتصبح (فاعلْ = فعْلن)، وكيف ذلك والخبن زحاف غير ملزم بينما على الشاعر التزامه هنا؟ والتشعيث او القطع علة فكيف تدخل الحشو؟ وهذا الاضطراب وعجز الخليل عن تفسيره وراء الزعم بان الاخفش تدارك بهذا البحر على الخليل! وليس هذا بصحيح لان الخليل كتب ابياتاً تجريبية على تفعيلتي (فَعِلُن) و(فعْلن). ومقلوب بحر الكامل يكون (مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) لكل شطر والمفترض أنه (الوافر)، ولكن العرب استعملت في عروضه وضربه (فعولن) بدل (مفاعلتن) فألجأه هذا إلى إيجاد علة اسماها (القطف) جعلها ملزمة في الوافر تسقط السبب الخفيف برمته وتسكن متحرك السبب الثقيل الثاني فتنتقل (مفاعلتن) بهذه العلة المبتدعة إلى (فعولن) فيكون بحر الوافر. وللوصول إلى بحر المجتث اضطر لإسقاط تفعيلة كاملة فهو في الدائرة (مستفع لن فاعلاتن فاعلاتن) فأسقط فاعلاتن وجعل الحذف وجوباً. وفي المقتضب (مفعولات مستفعلن مستفعلن) لم يكفِ حذف التفعيلة الثالثة للوصول إلى البحر الحقيقي لأنه سيصبح (مفعولات مستفعلن) فالمستعمل هو الطي مع التفعيلتين فأفتى الخليل بان الطي ملزم في العروض والضرب. وهذا يوضح مقدار التكلف والتمحل والمط الذي بذله ليقرب تنظيره من الواقع الشعري. وجاءت تسمية البحور المستحدثة جزءاً من عملية مسخها إذ ردتها إلى البحور العربية؛ فالمضارع سمي مضارعاً لمضارعته، أي مشابهته، الخفيف أو الهزج، والمقتضب اقتضب، أي اقتطع، من السريع أو المنسرح. وقد قتل عروض الخليل شعرا كثيرا وخمل شعراء لم يمنحوا الشرعية؛ ذكروا أن الرشيد منع رثاء البرامكة بشعر، فرثتهم جارية بشعر وضعته على وزن خارج العروض فأمنت العقوبة. ولكن سد العروض لم يثبت أمام سيل الأوزان العرم مبينا خطأ صاحبه؛ فما زالت الأوزان تتزايد حتى ظهر الموشح الذي تربو أوزانه على الألف. أما الرجز فما عاد حمارا بليدا للشعراء بل تأكد مع الزمن انه حصان أصيل في القريض. وبناءً عليه، أدعو إلى تدريس العروض أساساً لأوزان الشعر العربي، وانفتاحاً على ما ابتكر ويبتكر من أوزان، وحافزا على الخلق في موسيقى الشعر.
(للتفصيل: ينظر كتابي: سلطة الشعر الجاهلي على الشعر العباسي/الفصل الرابع) وكتابي (أنا الشعر/ المورد الثالث).
0 comments:
إرسال تعليق