في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الماء هو الحياة حقا
فعلى مدى قرون، اشتهرت المنطقة بابتكاراتها في الحفاظ على كل قطرة مياه وضمان وصولها للناس، وخير شاهد على ذلك النواعير المائية (السواقي) في حماة بسوريا، وسدود الري في اليمن منذ فجر التاريخ، والنوافير وآبار المياه في المناطق الحضرية في فاس ومراكش بالمغرب التي تعود إلى العصور الوسطى. وهذه الإنجازات مثلت أعاجيب تقنية متقدمة بمقاييس عصرها.
والآن، تغير المشهد كثيراً عما كان من قبل. فالمنطقة تواجه أزمة مائية تزحف ببطء، حيث يواجه بعض السكان بالفعل مخاطر حادة، فقد سجلت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أدنى متوسط سنوي لتوافر المياه للفرد في العالم بنحو 480 متراً مكعباً في عام 2023، أي أقل من 10% من المتوسط العالمي، وأقل من التعريف الدولي لشح المياه. ومع تزايد شح مياه الأنهار والبحيرات، يسرف المزارعون وغيرهم في استخدام المياه الجوفية على نحو غير مستدام، مما يسرع من وتيرة الأزمة. ويعيش نحو ربع سكان المنطقة الآن في مناطق تعاني من إجهاد مرتفع أو شديد على المياه الجوفية.
وسيتفاقم شح المياه في السنوات القادمة، إذ يتزايد الطلب عليها بسبب النمو السكاني والاقتصادي وزيادة التوسع الحضري، فضلا عن آثار تغير المناخ، الذي يؤثر بصورة خاصة على الموارد المائية، بما في ذلك من خلال التبخر والطلب على التبريد.
لكن ما يدعو إلى التفاؤل أن بلدانا كثيرة في المنطقة تمضي قُدماً بالفعل نحو الحفاظ على هذا المورد الأغلى على الإطلاق، وبدأت بلدان أخرى تحذو حذوها. وهناك الآن فرص وفيرة ستمهد الطريق لمستقبل يزيد فيه الأمن المائي للمنطقة بأسرها. وتمثل الأساليب الناجحة التي تنتهجها بعض البلدان معلماً واضحاً وجلياً لطريق المضي قدماً.
أولا، ينبغي العودة إلى تاريخ المنطقة وجذورها بوصفها رائدة في المجال التقني والاستثمار في الابتكار. كما ينبغي للمنطقة أن تتبنى التقنيات الرقمية الجديدة التي تساعد على تحسين إدارة المياه، وربط المواطنين بخدمات المياه المحسنة، وتسريع وتيرة النمو الاقتصادي. وعلى جانب العرض، تبرز تحلية المياه وإعادة استخدام مياه الصرف المعالجة بوصفها أساليب رئيسية لتعزيز إمدادات المياه، فأكثر من 53% من قدرات تحلية المياه العالمية من نصيب المنطقة. وعلى الرغم من أن تكلفة هذه التقنيات انخفضت انخفاضاً كبيراً بفضل الابتكارات، سيتطلب الأمر المزيد من الابتكار لضمان ألا تؤدي التكلفة المرتفعة نسبياً للمياه المحلاة إلى إثقال كاهل البلدان الفقيرة والأشد فقراً. وبالتوازي مع ذلك، من الضروري أن تعمل المنطقة على تحسين كفاءة استخدام المياه والحد من الفاقد على نحو كبير.
ويتعين على المنطقة إيلاء أولوية عاجلة للممارسات الذكية والمراعية للمناخ في إدارة المياه. ويشمل ذلك تعزيز القدرة على جمع بيانات مناخية وهيدرولوجية دقيقة، وهو ما يسمح للأنظمة بالتكيف مع التغيرات في أنماط هطول الأمطار وزيادة تواتر موجات الجفاف والفيضانات. ويمكن أن تساعد هذه المعلومات في إثراء عملية اتخاذ القرار بشأن كيفية تخصيص الموارد المائية والاستعداد لحالات الطوارئ، بما في ذلك موجات الجفاف والفيضانات.
ويمكن للبلدان أيضا توجيه السياسة المائية لتعزيز القطاعات التي تخلق فرص العمل. ويشمل ذلك الزراعة الذكية المراعية للمناخ التي تتسم بكفاءة استخدام المياه لأغراض التصدير، والأساليب المتطورة التي تراعي محور العلاقة بين الطاقة والمياه، مثل محطات الطاقة الكهرومائية ذات التخزين المزود بالمضخات، واستخدام مصادر الطاقة المتجددة لتقديم خدمات المياه. ومن شأن إيلاء الأولوية لهذه القطاعات أن يساعد في تسريع وتيرة التغيير الإيجابي في إدارة المياه مع توفير فرص العمل التي تشتد الحاجة إليها، فضلاً عن بناء المهارات المطلوبة.
وبالنسبة للعديد من البلدان، سيتطلب هذا التحول النوعي إصلاحات واسعة النطاق على مستوى قطاع المياه، فالكثير من مرافق البنية التحتية في المنطقة متهالك، ناهيك عن المؤسسات التي تدعمها. وتشهد بعض شبكات توزيع المياه في بلدان المنطقة نسبة فاقد وخسائر تصل إلى 50%، مما يجعل الحد من هذه النسبة على رأس أولويات هذه البلدان. كما أن تعريفة المياه بالمنطقة من أدنى تعريفات خدمات المياه على مستوى العالم، ونسبة ما ينفق على دعم المياه من إجمالي الناتج المحلي هي الأعلى بواقع 2%. وبناءً عليه، سيتعين على البلدان التحول إلى تسعير أكثر استدامة يحول دون الهدر مع حماية الفقراء والمحتاجين والأولى بالرعاية. وفي الوقت نفسه، ستكون هناك حاجة إلى الحوافز والابتكار لزيادة مشاركة القطاع الخاص في تجديد وإعادة إنشاء مرافق البنية التحتية، بما في ذلك من خلال تقديم الضمانات اللازمة.
وفي نهاية المطاف، يمكن أن يؤدي تعزيز أواصر التعاون بشأن الموارد المائية عبر الحدود إلى منافع هائلة للمنطقة، فأكثر من 60% من الموارد المائية في المنطقة يتم تقاسمها بين بلدين أو أكثر، مما يتيح فرصة كبيرة للتعاون وإقامة الشراكات بهدف تحسين إدارة هذه الموارد الحيوية. ويمثل النقاش وتبادل المعارف خطوة أولى جيدة في هذا الصدد، وللمنطقة تاريخ ثري في ذلك.
ولهذا السبب نشعر بالارتياح لرؤية البلدان تجتمع معاً هذا الأسبوع في أول منتدى إقليمي للمياه في الكويت سيشارك في تنظيمه الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والبنك الدولي. ويتيح هذا المنتدى فرصة متميزة للتصدي للتحديات الكبيرة التي تواجه قطاع المياه في المنطقة، بما في ذلك من خلال التمويل الإنمائي والإستراتيجي، وإقامة الشراكات بين القطاعين العام والخاص. كما يعكس المنتدى تعميق الشراكة الإستراتيجية على مستوى المؤسسات المعنية في المنطقة، مع الإقرار بضرورة التعاون وتضافر الجهود للتصدي لهذا التحدي. أما تحقيق الأثر المطلوب على نطاق واسع فيتطلب حشد جهود وهمم أصحاب المصلحة والأطراف المعنية وكل ذي شأن.
وسيوظف الصندوق العربي خبراته العملية العميقة التي تمتد لأكثر من نصف قرن، وقدرته المالية لمعالجة مشكلة شح المياه في المنطقة، وقد قدم أكثر من 8.1 مليارات دولار لتمويل 149 مشروعا ذا صلة بالمياه، وعادت هذه المشاريع بالنفع على ملايين الأشخاص، وساعدت البلدان العربية على تطوير أكثر من 3800 كيلومتر من شبكات تصريف المياه المستعملة التي تعالج 6 ملايين متر مكعب من مياه الصرف يومياً، وهو أمر بالغ الأهمية لتعزيز الأمن الغذائي وحماية الناس والبيئة من الأمراض.
ويلتزم البنك الدولي التزاماً قوياً بمساعدة بلدان المنطقة على وضع الأساس لمستقبل أكثر قدرة على التكيف مع أوضاع المياه. ففي المغرب، ساعد مشروع لإمدادات المياه في المناطق الريفية يدعمه البنك الدولي على ربط أكثر من 1.1 مليون شخص بشبكة مياه صالحة للشرب. وفي مصر، أدى وجود أسلوب مبتكر لخدمات الصرف الصحي في المناطق الريفية إلى ضمان تعزيز قدرة آلاف الأسر على أن يكون لها صوت مسموع في تخطيط المشروعات وتنفيذها. وفي الأردن، تساعد الجهود المبذولة على مستوى القطاع بأكمله في الحد من خسائر وفاقد المياه على نحو منهجي، وتوفير كميات كافية منها للسكان في واحدة من أكثر البلدان معاناة من الإجهاد المائي في العالم.
ونحن على قناعة تامة بأن هذه الجهود ستؤتي ثمارها، وعلى قناعة أيضاً أنه من خلال التعاون وتضافر الجهود، سيكون بمقدورنا أن نضمن الحفاظ على المياه وترشيد استخدامها من أجل تحقيق الازدهار والتنمية المستدامة للأجيال القادمة - في منطقةٍ كل قطرة مياه فيها لها أهميتها.
المصدر: نشرة البنك الدولى
0 comments:
إرسال تعليق