إن الدولة والحرية متنافران، ففي حين تقوم مؤسسات المجتمع المدني على التطوع والانضمام الحر غير الإلزامي، فإن الدولة تقوم على الإجبار والقمع واحتكار العنف. لكن يجب أيضا الأخذ في الاعتبار أن هناك مساحات تلاق واسعة بين الدولة والمجتمع المدني.
حيث انتقل الليبراليون من اعتبار المجتمع المدني ساحة توحّش تحتاج إلى سلطان الدولة، إلى اعتباره ساحة تحضر وتواصل بناء. وعند اليسار المعتدل فإن المجتمع المدني تحول من فضاء هيمنة البرجوازية إلى فضاء شبه محايد، ثم إلى ساحة للتواصل الإيجابي
بدأ العمل الأهلي في مصر مع مطلع القرن قبل الماضي ما يقرب من مائتين عام، وكانت أولى الجمعيات هي الجمعية اليونانية بالإسكندرية والتي تأسست عام 1821، منذ ذلك الوقت توالت منظمات العمل الأهلي وأقامت العديد من الأعمال الخيرية والتعليمية والدينية والفكرية. وقد مر العمل الأهلي والمدني بالعديد من المراحل قدم خلالها من الدعم بمختلف أشكاله سواء التعليمي أو القانوني أو الخدمي أو الخيري، وفي مجال إصلاح النظام السياسي والاقتصادي قدم العديد من الأعمال التي كانت جميعها للنهوض بمستوى الأفراد على اختلافهم.
وفي خضم كل ما قامت به المنظمات في الوقت الماضي وما تقوم به في الوقت الحالي من العمل جنبًا إلى جنب مع الحكومة والبرلمان لإيصال صوت المجتمع والأفراد بمختلف مصالحهم والعمل على النهوض بالحالة العامة سواء من الجانب الحقوقي او الاقتصادي أو التنموي.
ان المقصود من عملية (التمويل) هو إيجاد المال اللازم للإنفاق على جميع العمليات الإدارية، وعلى مختلف الأنشطة والبرامج التي تقوم بها المنظمة، ومن ثم يمكن وصف تمويل المنظمات غير الحكومية أنه "ذلك المال الذي تحصل عليه هذه المنظمات من مصادره الخاصة والعامة. طبقا للوائح والقوانين المنظمة ليكون موردا ثابتا ومستمرا للصرف منه على أجهزة المنظمة وعملياتها الإدارية وبرامجها وأنشطتها وتكوين أصولها الثابتة والمتداولة. "
تأتي أهمية التمويل من حيث أنه يتوقف عليه كل من حجم النشاط، ونوعه، ومستواه، وأثره على البيئة، والمساعدة على وضع السياسات العامة للمنظمة والحفاظ على ثباتها واستمراريتها، وزيادة الخدمات المقدمة، أو تطويرها وتحسين مستوى جودتها، أو زيادة عدد المستفيدين من خدماتها، وتقديم وسائل فعالة لتسويق رسالة المنظمة وأهدافها في مجال أوسع، وأخيرا تحقيق الاكتفاء الذاتي، والاستقلالية.
والحقيقة أن مفهوم (التمويل) لا يجب أن يقتصر على الدعم المالي فقط، لان الدعم المالي هو عنوان واحد من عشرات العناوين التي تدخل في مفهوم التمويل، وبصورة عامة، فان التمويل الذي يمكن أن تحصل عليه المنظمات غير الحكومية، قد يكون تمويلا غير مالي، وقد يكون تمويلا ماليا.
أولا- التمويل غير المالي: وهو نوع من التمويل يقدم للمنظمات، ولكنه لا يتضمن ولا يحتوي على دفع نقدي للمنظمة، مثل: التطوع بالوقت، المنح العينية، المشورة والنصيحة، التدريب والاستشارات، والتأييد والدفاع عن متبنيات المنظمة وغيرها. والحقيقة التي لا شك فيها أن كل تمويل غير مالي في النهاية لابد أن يكون له ترجمة مالية تعود على المنظمة، وإن كانت في صورة غير مباشرة، والتمويل غير المالي عادة ما يكون له قيمة معنوية تفوق في أحيان كثيرة قيمته المالية.
ثانيا- التمويل المالي: فهو نوع من التمويل يقدم للمنظمات، ويشتمل على دفع نقدي للمنظمة، وهو قد يكون تمويلا ذاتيا، وهو تمويل مرتبط بالمنظمة ذاتها، فلا يأتي من جهة خارجية أي كانت هذه الجهة، وإنما يأتي من خلال المنظمة، وبسبب تنفيذها لأنشطة وبرامج ومشروعات خاصة بها أو تقديمها لخدمات بمقابل مالي.
وقد يكون التمويل من خلال الأفراد، وهي التبرعات أو المنح النقدية التي تأتي من أفراد لهم علاقة بالمنظمة أو أعضاء فيها أو من مهتمين بما تقوم به من أنشطة ومشروعات، أو يكون من الدولة، وهو نوع من المنح تقدمه الهيئات الحكومية للمنظمات لتمويل أنشطة محددة، أو يكون من الهيئات الدولية، وهي المنح التي تقوم الهيئات الدولية بتقديمها للمنظمات لتمويل برامج ومشروعات محددة، وغالبا ما تكون هذه المنح على برامج ومشروعات تحددها الهيئات المانحة مباشرة أو لتمويل برامج ومشروعات تحددها المنظمة وتقتنع بها الجهة المانحة.
وفي الحالتين تكون هناك ضرورة أن تقدم المنظمة مقترحا لما ترغب في تنفيذه من برامج أو مشروعات وفقا لنظام محدد من قبل الجهة المانحة أو وفقا للأصول المتعارف عليها في هذا الصدد.
أو يكون التمويل المالي من المؤسسات والمنظمات الكبيرة، وهي منح تقدمها المؤسسات غير الحكومية والتي تعتبر وهي منظمات كبيرة الحجم ولها مصادر تمويل خاصة بها وتقوم هذه المؤسسات وفقا لأهدافها بتقديم هذه التمويلات للمنظمات غير الحكومية الأصغر حجما. أو يكون من منح الشركات، والمقصود هو ما تقدمه شركات القطاع الخاص من فرص تمويلية للمنظمات غير الحكومية لتنفيذ برامج ومشروعات تقع في دائرة الاهتمامات التنموية الخاصة بهذه الشركات وغالبا ما تصنف هذه التمويلات تحت مفهوم المسئولية الاجتماعية للشركات الخاصة.
حدد قانون المنظمات غير الحكومية موارد المنظمة غير الحكومية
وهنا نقول إنه مع أهمية وجود التمويل الحكومي، ومع أهمية التمويل الخارجي، ولكن على المنظمات غير الحكومية- اليوم- أن تراجع استراتيجياتها وتفكر بشكل جدي باستثمار المصادر البشرية والمالية والنقدية المتوفرة في البلد وهي كثيرة ومتنوعة، لان هذا النوع من مصادر التمويل هي مصادر استراتيجية لا تنضب أبدا بخلاف مصدر التمويل الحكومي، ومصدر التمويل الخارجي.
بناء عليه فان المنظمات غير الحكومية من أجل الحصول على التمويل اللازم لمشروعاتها فان عليها القيام بعدد من الإجراءات وهي:
- تعزيز مفهوم المشاركة المجتمعية كأسلوب لتنمية موارد المنظمة، أي مشاركة أفراد المجتمع بأفكارهم ومساهماتهم العينية والمالية لتحقق أفضل عائد للتنمية؛
- اعتماد التطوع كأسلوب لتنمية الموارد المنظمة، فهناك الكثير من الطاقات المعطلة يمكن استثمارها وجذبها إلى المنظمة؛
- اعتماد التمويل الذاتي كأحد استراتيجيات وهو المال الذي تحصل عليه المنظمة بجهود أعضائها وأجهزتها المختلفة والتبرعات والوصايا والهبات من الأشخاص الطبيعيين المنتمين للمنظمة، وإيرادات ورسوم الخدمات التي تقدمها المنظمة للجمهور، وإيرادات الأنشطة والمشروعات والبرامج، وهي مصادر هامة للمنظمة، وتفعيل إيرادات الأملاك والأصول الثابتة التي تمتلكها المنظمة؛
- اللجوء إلى الشراكة والتشبيك كأحد استراتيجيات التمويل المهمة: حيث نجد أن قدرة المنظمات المتشاركة مجتمعة ستكون أكثر تأثيرا في الجهات المانحة والممولة وأكثر اجتذابا لهذه الجهات والتي يعنينها في المقام الأول أن تتعامل مع كيانات قوية ولديها قدر عالي من الالتزام والمهنية في التعامل وفي التنفيذ من جهة، ومن جهة أخرى فان تكاتف المنظمات المتشاركة والمتشابكة يجعل قدرتها على الوصول للمجتمع وتعبئة موارده كبيرة ومؤثرة..
وفي كل الأحوال لا يجب أن تعتمد المنظمة على مموّل واحد. بل عليها أن تصل إلى مجموعة واسعة من مصادر التمويل، من بينها المؤسسات والشركات، والحكومات، والأفراد مضافا إلى تدعيم برامج التمويل الذاتي.
وأخيرا، علينا أن نتذكر دائمًا أن العديد من المنظمات تبدأ عملها من دون الحصول على منح رسمية أو مصادر تمويل طويلة الأمد. إنها تحصل على المتطوعين وعلى التبرعات الابتدائية، ثم تسعى للحصول على تمويل من مؤسسات ووكالات حكومية ومن عامة الناس بعد أن يصبح لديها نتائج لإظهار تأثير جهودها تحت بصر ورقابة الدولة .
**كاتب المقال
دكتور القانون العام
ونائب رئيس اتحاد الاكاديميين العرب
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
مستشار وعضو مجلس الإدارة بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا
مستشار الهيئة العليا للشؤون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية
مستشار تحكيم دولي محكم دولي معتمد خبير في جرائم امن المعلومات
نائب رئيس لجنة تقصي الحقائق بالمركز المصري الدولي لحقوق الانسان والتنمية
نائب رئيس لجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة سابقا
عضو استشاري بالمركز الأعلى للتدريب واعداد القادة
عضو منظمة التجارة الأوروبية
عضو لجنة مكافحة الفساد بالمجلس الأعلى لحقوق الانسان
محاضر دولي في حقوق الانسان
0 comments:
إرسال تعليق