إن الأهمية التي تفرضها التحولات الاجتماعية والاقتصادية، تجعل البناء التحتي للدولة في أمسّ الحاجة لوجود مجتمع مدني قوي يملك فاعلية أدائية، تمكنه من ممارسة شتى الأدوار التنموية، وهو ما يفرض تحديًا من نوع خاص على تلك المنظمات،
وأيضًا يفرض على الدولة توجهًا خاصًّا في التعامل معها؛ فلا بد أن تستوعب تلك المنظمات أهمية تطوير أدائها، وهو أمر لن يحدث إلا بإعادة هيكلة برامجها، وتطوير نظمها الإدارية، مع تضمينها ممارسات ديمقراطية حقيقية أولها تداول الأدوار والمناصب، مع تطوير آليات التدريب،
والبحث عن مصادر غير تقليدية للتمويل، وكذلك ضرورة إعادة النظر في جدوى العمل التطوعي، وقدرته على استدعاء أفراد مؤهلين بشكل حقيقي،
قادرين على العمل تحت ضغط المتغيرات الاجتماعية. وعلى الدولة أن تدرك أهمية الدور الذي يمكن لتلك المنظمات أن تلعبه، وهو دور لم يعد من قبيل الرفاهية، أو تجميل الشكل العام لها، بل هو دور شديد الحيوية،
يمكنه من خلال اعتماد برامج تنموية حقيقية تكريس ثقافة التعاونيات في المناطق المهمشة والفقيرة، مع تقديم الدعم التعليمي والمهني، والمساهمة في إدارة التنوع الثقافي على المحاور كافة، والإفادة منه.
تتميز البنى الاجتماعية في مصر بتنوعها الشديد، من حيث تعدد الثقافات، وتباين الأولويات، على الرغم مما تبديه تلك البنى، من استقرار وثبات، من حيث المدخلات والمخرجات، لكونها كتلة لها تركيبة ديموغرافية تبدو شبه ثابتة، وتوزيع جغرافي يتميز من حيث الحركة بالبطء الشديد، فمنذ تهجير مدن القناة الثلاث (بورسعيد-الإسماعيلية-السويس)
عقب حرب يونيو 1967م، لم تعرف مصر هذا النوع من النزوح الجماعي الحاد، حتى معدلات الهجرة من الريف إلى المدن أصبحت أكثر ثباتًا عقب انحسار موجاتها الأولى.
لكن الدارس يلمح داخل هذه الكتلة الصلبة شكلًا، حالة من حالات السيولة والتنوع تفصح عنها الإشكاليات المركبة التي تعانيها الشرائح الدنيا، التي أصبحت أكثر وضوحًا في ظل تردى الأوضاع الاقتصادية، عقب عاصفة يناير، ليسود نمط جديد من النشاط الاقتصادي اصطلح على تسميته باقتصاد الظل،
وهو نمط يختص بالأنشطة الهامشية البعيدة من رقابة الدولة، حيث هيمن بشكل كبير مع انتشار الباعة الجائلين وظهور المركبات الصغيرة غير المرخص لها بالعمل (التوك توك)، وباتت تلك الأنشطة شديدة الذيوع والانتشار، رغم كل ما يكتنفها من مخاطرة، وعدم شرعيتها القانونية، وبالتالي تعرض كثيرين للمساءلة دون وعي أو تقدير للعواقب وأصبحوا أكثر حاجة لا للدعم القانوني فحسب، إنما لإيجاد بدائل يتعيشون منها.
تظهر أهمية العمل المدني من خلال قدرة أصحابه على العمل تحت ضغط المتغيرات الاجتماعية، وبالتالي فإن خريطة هذا النوع من العمل لا تعرف الثبات، ولا يمكن بالتالي استنساخ حلول جاهزة، أو تعميم نموذج معد سلفًا لتقديم الحلول، من هنا تظل طبيعة المجتمع هي حجر الزاوية لتحديد الأولويات وبرامج العمل، وبالتالي فإن التحولات الحادة التي تشهدها المشكلات المزمنة، يمكن أن تمثل إرباكًا شديدًا على مستوى العمل المدني، وهو ما يتطلب فكرًا إبداعيًّا لتقديم حلول غير تقليدية على الدوام. وتظل الطائفية من أبرز المشكلات المزمنة، التي تطل برأسها بين الحين والآخر بحوادث مأساوية،
وتعد خاصة في صعيد مصر من أكثر المشكلات التي تهدد المجتمع، وتبعث على عزل أفراده بعضهم عن بعض، قبل أن تنفجر الصراعات الدامية بين الحين والآخر، مع ظهور معازل (جيتوهات) قبطية كونت لنفسها مجتمعًا بديلًا، واختارت العزلة الكاملة رغبة في التأمين والحفاظ على الهوية. لكن المتغير الجديد الذي صاحب مشكلة الطائفية، هو ظهور الصراعات البينية داخل الديانة الواحدة، وتعد حادثة مقتل الشيخ الشيعي «حسن شحاتة»
وأتباعه في قرية أبي مسلم، على يد أبناء القرية السنة، من أبرز تلك الحوادث المأساوية، أضف إلى ذلك المشاحنات الأرثوذكسية/ الإنجيلية المتصاعدة، وتهميش طوائف بعينها كالأدفنتست، كل هذا بات في حاجة إلى التحرر من النماذج التقليدية في مواجهة الطائفية، والاستبدال بها دراسات ميدانية وحملات توعية وورش عمل متواصلة، تعتمد منهجية جديدة لمواجهة ما طرأ على المفهوم من متغيرات.
كما أن انتشار ظواهر سلبية كالتحرش، والعنف ضد الأطفال، وإيذاء الحيوانات، وجرائم الشرف، يجعل قطاعات كبيرة في المجتمع أكثر احتياجًا للدعم النفسي، لحَفْزِهم على مواصلة الحياة. كل هذا جعل من تطوير آليات عمل منظمات المجتمع المدني ضرورة لا غنى عنها، في ظل هذا الاحتياج الحاد لها، وتصاعد الأزمات الاجتماعية.
إشكاليات العمل الاجتماعي
يفرض تعقد الأبنية الاجتماعية في مصر، وعدم وجود بيانات رسمية، وافتقاد الشفافية في توافر المعلومات صعوبات شديدة على العاملين في مجال المجتمع المدني، ويجعلهم في حالة من التحدي الدائم للبحث عن الحالات المستحقة للمساعدة، وفي ظل سيادة العرف على القانون يظل تقديم الخدمات في قطاع المرأة شديد الصعوبة، وبخاصة فيما يتعلق بقضايا شديدة الحساسية: كالختان وعنف الأزواج وزواج القاصرات، وهو ما يعني الحاجة إلى المزيد من الأفراد المؤهلين لسبر أغوار التراكيب الاجتماعية المتباينة، بشرائحها المختلفة، وهو ما يتطلب جهدًا وتدريبًا ودعمًا ماليًّا لمواجهة المتطلبات.
على الصعيد الداخلي، تكتنف بنية منظمات المجتمع المدني بعض عوامل الخلل التي تعوقها عن استكمال أهدافها، يمكن إجمالها فيما يلي:
تداخل المصالح الشخصية، وسيطرة الأنا وإبراز الذات، وافتقاد الجماعية، حيث يبقى الفرد لا الهدف هو المحرك الرئيسي للعمل، مع انعدام الديمقراطية في ظل عدم تبادل الأدوار وتداول المناصب، وهو ما يصيب عملها بالرتابة الشديدة، التي تتحول إلى جمود رخيم بعد وقت قصير.
تسلل ثقافة البيروقراطية إلى داخل الهياكل الإدارية لتلك المنظمات، مع تركيز سلطة اتخاذ القرار في أيدي أشخاص بعينهم، وهو الأمر الذي ينتج عنه المزيد من البطء والارتجالية، في ظل تعدد الإجراءات، وربما يكون ذلك راجعًا إلى افتقاد الخبرات في هذا المجال، وما تفرضه حالة التطوع من عدم احترافية.
عدم وضوح الخطط، وعدم وجود دراسات استشرافية يمكنها أن تتنبأ بمستقبل برامج العمل، وبالتالي تصبح الأهداف شديدة المرحلية، والمنجزات مؤقتة غير قابلة للتطوير، حيث يتحكم العقل الجزئي في مسارات العمل، وهو ما يحول دون وجود قراءة كلية للمشهد الاجتماعي. يمثل العمل التطوعي أبرز المشكلات التي تواجه العمل المدني، ففي ظل ظرف اقتصادي شديد الصعوبة، بات العمل التطوعي مرتهنًا بالوضع الاقتصادي للمتطوع، وهو ما تسبب في ضعف الإقبال على المشاركة،
وبالتالي أدى إلى وجود نقص حاد في الكوادر المؤهلة، وأصبح الاعتماد على طلاب المدارس والجامعات هو الحل، لكنه يظل محصورًا في أشهُر العطلة الصيفية، كما أنه لا يلبي الحاجة إلى أفراد مؤهلين وقادرين على ممارسة العمل الأهلي.
الانحيازات الجندرية والفئوية تفقد العمل المدني موضوعيته، وتجعله أميل إلى ردات الفعل التلقائية والمؤقتة، وتجعله بلا منهجية حقيقية، حيث يبدو كمن يرى بعين واحدة.
ضعف الإدارة، وعدم وضوح الهيكل الإداري، وافتقاد الأهداف للرؤية، مع عشوائية برامج التدريب التي باتت أكثر اهتمامًا بالكم لا الكيف، والشكل لا المضمون.
وعلى الصعيد الخارجي، تقع منظمات المجتمع المدني تحت ضغط العديد من المشكلات لعل أبرزها ما يلي:
ضعف التمويل المالي، وقصور الميزانيات بشكل عام، كما أن الاعتماد على التبرعات يجعلها في كثير من الأحيان تحت ضغط المتبرع، وعرضة لتدخله في الإدارة وتوجيه برامج العمل، ومع غموض بعض جهات الدعم أصبحت تلك المنظمات أكثر عرضة للاستغلال في عمليات غسيل الأموال، وهو ما يجعلها أكثر عرضة للمساءلة القانونية.
عدم وضوح العلاقة مع الدولة، وما يفرضه ذلك من مزيد من التدخل من قبل الجهات الرقابية، التي قد تقوم بتجفيف منابع تمويل تلك المنظمات، أو تعويق عملها وعدم منحها التصاريح الخاصة، في ظل حالة من التوجس الدائم والريبة منها، إضافة إلى توغل البيروقراطية في الجهاز الحكومي، الذي يجعل عملية تكوين منظمة للعمل المدني أمرًا شديد الصعوبة.
قيام بعض جهات التمويل الخارجية بفرض أجندات بعينها، أو فرض رؤيتها الخاصة على برامج العمل، بشكل لا يتسق والكود الاجتماعي، أو أولويات احتياج الأفراد وأعرافهم الاجتماعية.
عدم توافر المعلومات، واعتبارها أسرارًا حربية تخص الدولة وحدها، وهو الأمر الذي يجعل الاشتباك مع الأزمات الاجتماعية شديد الصعوبة، ويكتنفه الغموض والالتباس.
هذا الإدراك من قبل الدولة يترتب عليه ضرورة تغيير سياستها تجاه تلك المنظمات، والسماح لها بالمزيد من العمل، بالطبع تحت رقابتها، ولكن باعتبارها شريكًا في التنمية، لا وكيلًا لجهات مشبوهة، وهو الأمر الذي
إن تحقق، فلسوف يساهم في إحداث تغيير اجتماعي يمكن أن نجني ثماره جميعًا في وقت ليس بالطويل، فمن غير المعقول أن تتعاظم الأهمية، وينحسر الدور عند هذا الحد.
**كاتب المقال
دكتور القانون العام
ونائب رئيس اتحاد الاكاديميين العرب
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
مستشار وعضو مجلس الإدارة بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا
مستشار الهيئة العليا للشؤون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية
مستشار تحكيم دولي محكم دولي معتمد خبير في جرائم امن المعلومات
نائب رئيس لجنة تقصي الحقائق بالمركز المصري الدولي لحقوق الانسان والتنمية
نائب رئيس لجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة سابقا
عضو استشاري بالمركز الأعلى للتدريب واعداد القادة
عضو منظمة التجارة الأوروبية
عضو لجنة مكافحة الفساد بالمجلس الأعلى لحقوق الانسان
محاضر دولي في حقوق الانسان
0 comments:
إرسال تعليق