" ولا تنسوا الفضل بينكم " أية كريمة في
سورة البقرة يخطئ أكثر الناس في فهم المقصود منها ، إذ يظن الكثيرون أن المقصود بها:
أي لا تنسوا الفضل الذي كان بينكم فيما مضى من الزمان، أو الخير والمعروف الذي فعله
الطرف الآخر لكم، وبما أن الآية جاءت في سياق ذكر آيات الطلاق والفراق بين الزوجين،
فيفهم الكثيرون من الآية النهي عن نسيان العشرة التي كانت من الزوجين، وهذا المعنى
غير صحيح وليس هو المقصود بالآية الكريمة، ولم يقل به أحد من المفسرين المعتبرين، إنما
المعنى الصحيح لها أن الله عز وجل ينهانا أن ننسى الفضل والمعروف والإحسان في تعاملنا
فيما بيننا، وهو عام لكل الناس وليس خاصاً فيما بين الزوجين فقط ، وقد قال الكثير من
المفسرين في تفسيرها: «ولا تغفلوا أيها الناس الأخذ بالفضل بعضكم على بعض فتتركوه».
وحتى تتضح الصورة أكثر للقارئ الكريم أقول: إننا
في تعاملنا مع الناس إما أن نتعامل بالعدل ونطالب بحقوقنا وافية ، وإما أن نتعامل بالرحمة
ونتجاوز عن حقنا أو بعض حقنا لمن نتعامل معه، وذلك من باب الرحمة أو العفو أو الإحسان،
فإذا طالب الشخص بحقه كاملاً بالطرق القانونية والمشروعة فإنه لا يلام على ذلك، لكن
بلا شك أن أفضل من المطالبة بالحق كاملاً أن نترك مساحةً للعفو والتجاوز والإحسان فيما
بيننا، وهذه الدرجة العالية من الفضيلة هي التي أوصانا الله عز وجل أن نتعامل بها بقوله
سبحانه «ولا تنسوا الفضل بينكم». وتأكيداً لهذا المعنى فقد قال الله سبحانه في الآية
التي قبل هذه الآية مباشرة ً (وأن تعفوا أقرب للتقوى)
" ولا
تنسوا الفضل بينكم ْ" قاعدة عامة في المعاملات الإنسانية، بحيث لا يتم قطع حبال
الوصال ولا حرق سفن العودة كما يحدث الآن بين أي طرفين كان بينهما علاقة ثم انقطعت
لسبب من الأسباب، فقد تكون شراكة وقد تكون زمالة وقد تكون صحبة بل قد يكون موقفا عابرا
ترك في النفوس أثرا، وخلال هذه العلاقات يكون من الطرفين فضلا وخيرا على الطرف الآخر،
فلا ينبغي عند انقطاع العلاقة أن ننسى هذا الفضل أو نجحده، فالإنسان كريم الخلق طيب
النفْس يعرف الفضل لأهله حتى لو افترق عنهم أو اختلف معهم .
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ، ومن
حياته وتصرفاته وأفعاله قدوة ، سواء مع أصحابه أو مع أناس كفروا به ولم يتبعوه -بل-
وحاربوه.
- أبو البختري ابن هشام
عندما أعلنت قريش مقاطعتها لبني هاشم، وفرضت الحصار
عليهم في شِعْب أبي طالب، وعلقت صحيفتها الظالمة، قام أبو البختري ابن هشام بدعوة بعض
أصحاب النخوة والشهامة في قريش لنقض هذه الصحيفة ووقف هذه المقاطعة، وبالفعل نجح في
تجميع عدد من الرجال على ذلك الأمر. فلما كان يوم بدر خرج أبو البختري في جيش المشركين،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل المعركة: "من لقي منكم أبا البختري
بن هشام فلا يقتله". قال ابن إسحاق في السيرة: "وإنما نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أَكَفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة
التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب." (انظر دلائل النبوة للبيهقي)
- المطعم بن عدي
بعدما رفض عامة أهل مكة دعوة الصادق الأمين لهم بالدخول
في الإسلام، خرج صلى الله عليه وسلم لدعوة أهل الطائف الذين آذوه وأغروا به صبيانهم
وسفهاءهم، حتى سال الدم الطاهر من جسده الشريف عليه الصلاة والسلام، ورجع رسول الله
إلى مكة ليجد أهلها متربصين به يمنعونه من دخولها، فأعلن المطعم بن عدي أن محمدا في
جواره (أي: في حمايته) ولبس هو وأولاده السلاح ووقفوا عند أركان الكعبة ليسمحوا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم بالطواف بالبيت دون أن يعترضه أحد ، فلما انتصر المسلمون في
بدر، وأسروا سبعين رجلا من قريش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كان
المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأسلمتهم إليه" ، وما ذلك إلا تذكيرا
عرفانا بفضل الرجل الذي مات كافرا، لكن كفره لم يكن مانعا من ذكره بالمعروف الذي أسداه
وإكرامه بما يستحق.
وبعد أن اتضح المعنى الصحيح لهذه الآية الكريمة،
نطرح كالعادة تساؤلاً عن مساحة التعامل بالفضل
والعفو والإحسان والتجاوز في ساحات المحاكم؟ وكم نسبة الذين يختارون الطريق الأقرب
للتقوى بين المتخاصمين أمام القضاء؟
كم تعج ساحات المحاكم بخصومات شديدة حادة، تصل لدرجة
العداوات بين أطرافها؟ .. رغم أن فيهم من كانوا أزواجاً أو شركاء أو ذوي قربى، فلم
يفكر طالب الحق منهم أن يتعامل بالفضل ويتجاوز عن بعض الحق، طمعاً فيما عند الله من
أجر ..
ولذا لاينبغي
عند انقطاع العلاقة أن ننسى هذا الفضل أو نجحده، فالإنسان كريم الخُلُق طيب النفْس
يعرف الفضل لأهله حتى لو افترق عنهم أو اختلف معهم.
0 comments:
إرسال تعليق