يمثل الطلاق أحد القضايا التي فرضت نفسها على الباحثين في العلوم الإنسانية التي يتطلب تحليلها بشكل منهجي وعلمي فالطلاق مشكلة يترتب عليها مشكلات اجتماعية ونفسية أكثر تعقيداً، وتختلف حدتها بدرجة المعاناة منها وباختلاف المستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسرة كما تختلف الآثار والمعاناة باختلاف أعضاء الأسرة الزوج، الزوجة أو الأطفال (الأبناء).
الزواج عاملاً بنائياً من حيث حفظ النوع وشبكة العلاقات الاجتماعية وزيادة التماسك الاجتماعي فهو الأساس في تكوين البنية الأولى في المجتمع والصلبة في المجتمع من حيث التكوينات الأسرية والطلاق يعمل على تفكيك الأسرة وانحلال العلاقات الاجتماعية مما يضعف أداء الأسر ويهدد الحفاظ على نظامها والذي ينعكس بشكل مباشر على المجتمع وترابطه.
يعتبر الطلاق أحد مهددات الأمن الاجتماعي للأسرة وانعكاساته الأمنية على المجتمع لكونها ذات علاقة بمؤسسات المجتمع المختلفة. التداعيات السلبية لتلك الظاهرة لما يؤدي للتفكك الأسري والانحرافات الإجرامية والأخلاقية.
أن معدل الطلاق بمصر البالغ 2.1 حالة لكل ألف من السكان هو من المعدلات العادية بين دول العالم، حيث جاءت الدول الأعلى في معدلات الطلاق كالآتي: دولة غوام بمعدل طلاق 4.2 لكل ألف، تليها بيلاروسيا بمعدل 3.4، تليها دولة لاتفيا بمعدل 3.1 تليها دولة كازاخستان ودولة ليتوانيا بمعدل 3 تليها دولة كوبا بمعدل 2.9 تليها دولة جورجيا بمعدل 2.7 تليها دول الدنمارك وسان مارينو وكوستاريكا بمعدل 2.6.
لا شك أن أسباب الطلاق متعددة، وقد يكون السبب من الزوج أو الزوجة، أو منهما، ومن هذه الأسباب، سوء العشرة، بأن يعامل أحد الزوجين الآخر معاملة مسيئة، سواء إساءة لفظية أو فعلية، أو بإهمال وعدم مراعاة الآخر، والاستمرار في هذا النوع من المعاملة، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان الصبر، واللجوء للطلاق، والعلاج في إصلاح النفس وتقويم السلوك، وتصحيح معاملة كل من الزوجين للآخر.
الفتور العاطفي وفقدان المشاعر بين الزوجين، سبب آخر من أسباب الطلاق، وهذا الفتور، يسميه البعض بالطلاق العاطفي، حيث يرتبط الزوجان ارتباطاً لا روح فيه، ما قد يؤدي مع الأيام إلى طلاق حقيقي، ولعلاج هذا الأمر، لا بد من تكريس مبدأ الرحمة والمودة والعطف بين الزوجين، وضخ المشاعر الفياضة في الحياة الأسرية، قال الله تعالى: {وجعل بينكم مودة ورحمة}.
من أسباب الطلاق كذلك، تغليب أحد الزوجين مصلحته الفردية، وعدم التشاور والتعاون وتقدير مصلحة الطرف الآخر، فتسود في الأسرة روح الفردية، والتصرفات الأحادية، ويسعى كل من الزوجين ليتحكم في الأسرة دون الآخر، ويفرض آراءه، ويتعصب لها، ويرفض الرأي الآخر، عناداً وانتصاراً لنفسه، والله تعالى قال: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}، ومتى بُنيت الحياة الزوجية على اتباع أحسن الآراء، سواء كانت صادرة من الزوج أو الزوجة، كانت الأقرب إلى السعادة والاستقرار.
الغضب وسرعة الانفعال كذلك، من أعظم أسباب هدم الحياة الزوجية، لأنه يسد باب الحوار والتفاهم بين الزوجين، ويستولد ردود أفعال سلبية من الطرف الآخر، وقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وخاصة إذا أدمن أحد الزوجين على الغضب، وأصبح جزءاً من طبيعته في التعامل مع المواقف اليومية. ولذلك، جاءت الأوامر الشرعية في التحذير من الغضب، وبيان عواقبه، والحث على التخلص منه، ومتى وجد أحد الزوجين نفسه مبتلى بهذا الداء، فعليه أن يعالج نفسه فوراً، ويمرن نفسه على الصبر والتحمل والهدوء وطول البال، وذلك يأتي بالدربة والتمرن، حتى يصبح عادة وسجية.
ومن أسباب الطلاق أيضاً، إفشاء المشكلات الزوجية وعدم احتوائها، وإدخال أطراف خارجية فيها، فالتدخل الخارجي غير الحكيم في المشكلات الزوجية، قد يزيدها ولا يحلها، سواء من قبل أسرة الزوج أو الزوجة أو الأقارب أو الأصدقاء.
وخاصة إذا كان هذا التدخل تدخلاً منحازاً لأحد الطرفين على حساب الآخر، دون تحري العدل والإنصاف، ودون نية صادقة لإيجاد الحلول وترسيخ الأرضية المشتركة لاحتواء الخلاف، فيزيد هذا التدخل، المشكلة تعقيداً، ويكون لها كالوقود للنار، بخلاف التدخل الحكيم العاقل، الذي يوسع أرضية التفاهم، ويسعى لتقريب وجهات النظر،
وإيجاد الحلول المناسبة للمشكلة، قال الله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما}. المشكلات المادية هي إحدى أسباب الطلاق في المجتمعات، ولا شك أن العنصر المادي جزء أساسي في الحياة الزوجية، وهو يقتضي التعامل السديد في هذا الجانب، ومراعاة الموازنة بين الدخل والإنفاق والادخار، لإدارة رشيدة للإنفاق الأسري، وعدم الإفراط في الكماليات، لأن الإنفاق دون تنظيم ولا تخطيط، له تبعات كبيرة.
كما نشير في هذا الجانب إلى أهمية التكيف مع الظروف المعيشية، وخاصة في أوقات الضيق والشدة، فقد تعصف بالأسرة بعض الأحيان، عواصف مادية لظرف من الظروف، فلا بد أن يكون لدى الأسرة فقه إدارة هذه الأزمات، وتقدير كل من الزوجين لظروف الآخر، لتستطيع سفينة الأسرة تجاوز العاصفة بأمان، كما يأتي هنا، تربية الأبناء على الإنفاق الرشيد، وترسيخ مبدأ القناعة، ليكونوا عوناً لوالديهم في استكمال مسيرتهم، وليكونوا كذلك في مستقبلهم.
ضعف الوازع الديني كذلك، سبب خطير لهدم الأسرة، وهنا، تأتي مراقبة الله تعالى، وصيانة النفس من الوقوع في المتعة المحرمة، ومجاهدة النفس والهوى، والعلاج السريع، إذا وقع شيء من ذلك، والتوبة العاجلة، وضبط ردود الفعل، إذا تم اكتشاف شيء من ذلك من قبل أحد الزوجين، والبحث عن أسباب الخلل لعلاجها.
فالأسر نظام اجتماعي يؤثر في النظم الاجتماعية ويتأثر بها. فهي الوسط الذي اتفق المجتمع على تحقيق غرائز الإنسان ودوافعه الطبيعية والاجتماعية من خلاله كالزواج والإنجاب وممارسة العواطف الإنسانية كالأبوة والأخوة والعلاقات الاجتماعية المشروعة، إلا أن زيادة معدل البطالة وكثرة الأعباء الملقاة على عاتق أفراد الأسرة جعل من حلول تفريغ الطاقة الجنسية من خلال العلاقات المتزايدة خارج الزواج والتي ساعدت في انتشارها مواقع التواصل الاجتماعي وهروباً من تحمل المسئولية.
وتعويضاً عن انشغال المرأة والرجل للوفاء بمتطلبات الحياة، كل ما سبق ساعد في زياد نسبة الطلاق في المجتمع وما استتبعه من جرائم متعددة وكانت من أسبابها انعدام مشاعر الألفة والمودة، ونتيجة الخواء العاطفي. وأفادت دراسات بحثية متعددة وأيدتها وسائل الإعلام عن انتشار المواقع الإباحية وسهولة إقامة العلاقات الغير شرعية وغياب دور الدين وكان لهذا الأمر دور في عدم استقرار الأسرة. كما ظهر ما يعرف بالطلاق المعلق أو الصامت وهو أن تعيش المرأة مع زوجها تحت سقف واحد دون أن يكون هناك علاقة ودية أو جنسية، استكمالاً للمظاهر الاجتماعية التي تسمى الأوضاع الاجتماعية التي يشكلونها في المجتمع، وكانت من أسباب الطلاق في الدراسات الحديثة عدم الانسجام الروحي والنفسي بين الزوجين سواء الاختلاف بين الرغبات والميول وعدم الاعتناء برغبات الطرف الآخر.
فقد تكون هناك مشكلة في العلاقة الزوجية، ولا شك أن هذا الباب من أخطر الأبواب، لأنه قد يُحدث شرخاً لا يمكن علاجه، ومن أسباب الانزلاق في المتعة المحرمة، ضعف الإحساس بالمسؤولية، وتغليب هوى النفس والمتع الفردية على مصالح الأسرة والواجبات الزوجية.
ومما يحد من مشكلة الطلاق، نشر الوعي المجتمعي بعواقب الطلاق وأضراره، وما ينتج عنه من تشتيت للأسرة، وانعكاسات سلبية على الأبناء، فقد كشفت دراسة خاصة بصندوق الزواج، ما يصيب الأبناء جراء الطلاق من الحزن والعزلة والعدوانية، وتدني المستوى الدراسي، واضطرابات النوم والاكتئاب، وهنا، يأتي دور المثقفين والمصلحين الأسريين والإعلاميين، بالتركيز على هذه القضايا، ونشر الوعي، لتعزيز الاستقرار الأسري في المجتمع.
كما ننصح المقبلين على الزواج، بحسن اختيار الشريك، ثقافياً ومادياً واجتماعياً، وأن يعلموا أن الحياة الزوجية حقوق وواجبات، وأن يتحملوا مسؤوليتهم على أكمل وجه، ليبنوا حياة أسرية سعيدة.
توافق مع تطور المجتمعات تطور في نظم الزواج أفرزته التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومنها عوامل أثرت سلباً على البناء الأسري، وتكثر المشاكل التي تؤثر في المجتمع من حيث البناء والوظيفة ففي ظل التغيرات العالمية المتسارعة التي تتعرض لها المجتمعات الحديثة في شتى أنحاء العالم من ثورات تكنولوجية واتصال وتداخل ثقافات وخروج المرأة للعمل وتغير الدور الرئيسي للأسرة التقليدية واختلفت في بنائها وتركيبتها والأدوار الخاصة لكل فرد فيها مما أثر في نظرة المجتمع باختلاف معايير ونظم الزواج والطلاق وأخذت تلك العلاقة أشكالاً وفصولاً واسعة لتنظيم تلك العلاقة في كل تلك التغيرات خاصة أن تلك التغيرات والتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت لها أكبر الأثر في زيادة نسبة الطلاق بصورة مضطردة مع ذلك التغيير
إلا أن الوقت الذي تعاني فيه مصر من ويلات الأزمات الاقتصادية وتداعياتها على المجتمع لوحظ بالتوازي ارتفاع معدلات الطلاق وتفاقم الأزمات الاقتصادية بصورة واضحة إلى غير ذلك من تساؤلات عما إذا كانت هناك علاقة بين الطلاق والفقر في المجتمع المصري وتفشي البطالة وسوء الأوضاع المعيشية والغلاء بالإضافة لارتفاع سقف التوقعات لدي أفراد الأسرة والسعي نحو تحقيق مستوى معيشة أفضل
ومن ثم فإن الاصطدام بالواقع المرير وإدراكهم أنهم لن ينجحوا حتى في تحقيق أبسط حقوقهم الإنسانية وما يترتب عليه إحساسهم بعدم الرضا عن العلاقة الزوجية لسبب عدم قدرة الزوج عن تلبية الاحتياجات الأسرية وهي احتياجات البقاء من سكن وغذاء وشرب ولباس ودواء والكثير من الكماليات التي أصبحت من الضروريات. وكانت مشكلة الفقر وسوء الأوضاع المعيشية والشعور بالإحباط
من أهم الأسباب لتزايد ظاهرة الطلاق. فلقد وصل الأمر إلى اتجاه بعض المواطنين للتحايل على القانون لمواجهة الأحوال الاقتصادية حيث يطلق الرجل زوجته لكي تحصل على معاش والدها حيث أن المعاشات بوجه عام هي السمة الغالبة في حالات الطلاق الكثيرة بالقرى والمدن على حد سواء وبعد ذلك قام الأزهر بإصدار فتوى بتجريم الطلاق الصوري للحصول على المعاشات حيث اعتبره نوع من التحايل غير المشروع فاستحقاق المعاش مشروط بعدم الزوجية أما والزوجية قائمة فلا يجوز أخذ المعاش بالإضافة إلى عدم الحصول على الموارد المالية والمنافع الاجتماعية قبل الضمان الاجتماعي والمعاشات التقليدية للبعض دون الكل.
الأسرة هي الإطار الصحيح الذي يشعر فيه كل فرد من أفرادها بذاته وحبه للآخرين وحب الآخرين له، كما أن الأسرة تلعب دوراً بارزاً في نمو الذات وتحافظ على قوتها إذا توافر لها بناء محدد كما يتوافر للفرد من خلال الأسرة الشعور بالأمن والحب الذي يسمح لعاطفته بالنمو السليم بالإضافة إلى الحاجة إلى التقدير الاجتماعي الذي يستمتع به الفرد والذي له صله وثيقة بتأكيد الأمن النفسي لديه.
وحرمان الفرد من الاحتياجات النفسية السابقة يُشعره بالعزلة والاغتراب والنبذ واحتقار الذات والحقد على مجتمعه ويكون الفرد عرضة للانحراف أكثر من غيره وبهذا وبغيره كان توجه كافة التنظيمات التي تتعامل مع تلك الفئات التي تشملها ظاهرة الطلاق بكل الحسم
**كاتب المقال
دكتور القانون العام
ونائب رئيس اتحاد الاكاديميين العرب
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
مستشار وعضو مجلس الإدارة بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا
مستشار الهيئة العليا للشؤون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية
مستشار تحكيم دولي محكم دولي معتمد خبير في جرائم امن المعلومات
نائب رئيس لجنة تقصي الحقائق بالمركز المصري الدولي لحقوق الانسان والتنمية
نائب رئيس لجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة سابقا
عضو استشاري بالمركز الأعلى للتدريب واعداد القادة
عضو منظمة التجارة الأوروبية
عضو لجنة مكافحة الفساد بالمجلس الأعلى لحقوق الانسان
محاضر دولي في حقوق الانسان
0 comments:
إرسال تعليق