كان لي الشرف في تقديم العديد من الكتب، لأدباء أجلاء، أثمرت أقلامهم وكتاباتهم القديرة عن كتاباتٍ أدبيةٍ مرموقة، تضاف للمجرة الأدبية العربية الأصيلة الناصعة، لتزخر بها مكتبة المثقف العربي، ومؤخرًا كان لي شرف تقديم ديوان " الفارسُ المفتون" للشاعر المصري المتألق يوسف الحملة، علمًا أنّ هذا الديوان، يعدّ تحفةً من التحف الأدبية العديدة، التي أثرى بها الشاعر يوسف الحملة المكتبة العربية.
نصُّ المقدمة:بقلم/ د.أحلام الحسن
باحثة عروضية وشاعرة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، والحمد للّه اللطيف العليم عدد ماخلق وذرأ وبرأ، والصّلاة والسّلام على خاتم الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ وعلى آله وصحبه المتقين.
أولًا أشكر الأستاذ الشاعر يوسف الحملة على ثقته الطيبة بقلمي المتواضع، لتقديم هذا الديوان المتميز بالعديد من القصائد الجميلة، والتي أبدع فيها كثيرا، وعزف عليها أجمل معزوفاته الشعرية فوق شواطئ البحور الخليلية؛ ورسم أجمل لوحاته الأدبية الراقية، بريشة شاعرٍ متمكّنٍ من أدواته الشعرية، ومن مفرداته.
وبعد الإطلاع على هذا السفر الأدبي الرائع، والذي وقفت كثيرًا على مفرداته العذبة، وتركتُ مؤلفاتي التي كنت أعكف على اتمامها جانبًا، ريثما أتمّ مراجعة هذا الديوان الرائع، حتى وصلت نتائج مطالعتي له لمحتوى دفّتيه، ولي في تقديمه هذه الدراسة:
في تحفته والماء مشتعلٌ:
لفت نظري أولًا عنوان القصيدة والماء مشتعل، فاشتعال الماء لا يأتي إلاّ من حريقٍ يتحدّى الماء في قدرته التخليقية في اطفاء الحريق، وهنا أبرز الشاعر قدرته في إثراء الدلالة، وفي إشباع الصورة التي تعكس محتويات القصيدة، والتي تثير في المتلقّي الرغبة في التعرف على المزيد من الخفايا حول هذا العنوان.
أنا لا أصدّقُ أنّ حُبّي هاهنا
أنا لا أصدّقُ لوعتي وعناقي
الصيفُ يشتي والشّتاءُ مُصيّفٌ
والماء مشتعلٌ وجمرك ساقي
صبّي عليّ الماء قولي ضحكةً
أمحو بها هذا الذهول الباقي
وهنا تبدأ بوتقات القصيدة بالتفتح، وبالبروز والإيضاح عما خلف هذا الإشتعال، ونرى المفردات المتضادة المعاني، الصيف يشتي!! والشتاءُ مصيّفٌ، والماء مشتعلٌ وجمركِ ساقي،
نجد هنا أسلوبًا بديعيًا من المقابلة الثنائية المتضادة استخدمه الشاعر لإضفاء الجمالية البديعية في النّص.
ومن أبيات هذا الديوان العاطفية التي تشدّ القارئ نحو استكمال القراءة قوله في قصيدة للحبّ دين:
هل تسأليني أنا والنّارُ مُحترقه
من سحرك الحارق المكنون بالحدقه
فالسحرُ مفترسٌ بين الجفون وكم
أصابني فرأيتُ الحبَّ قد سرقه
أصبو إلى ليلةٍ أمحو بها وجعي
فمن على صبغتي جازت لهُ الصدقه
نلاحظ استخدام الشاعر لإسلوب الجونجورية بزخرفة النّصّ بالمفردات المثيرة؛ والتي جاءت لدى الشاعر بصورةٍ عفوية ٍوانطباعية نبعت من عاطفة الشاعر، فالسحر مفترسٌ! حيث صوّر نفسه بالفريسة وذاك السحر بين عيني حبيبته المفترس الملتهم له دون رحمة، وهذا نوعٌ من الإستعارات المثيرة، والجميلة يُعدّ استخدامها لصالح الشاعر.
أصبو إلى ليلةٍ أمحو بها وجعي:
وهي حتما ليست كباقي الليالي حيث أكدّ الشاعر على أنّ هذه الليلة تمحو الأوجاع، وشطر البيت له من الوضوح مايعرفه المتلقّي، إلاّ أنّ الشاعر يتراجع حياءً بعد أن كشفه هذا الشعور الخفي، مستخدمًا أسلوب التورية " بقوله:
فمن على صبغتي جازت لهُ الصدقة:
وهنا قمّة الإبداع في استخدام أسلوب التورية، وإجازة الصدقة هنا من جماليات التورية حتما يعرفها المتلقّي، وضمن حدودٍ مشروعةٍ لم يبالغ الشاعر في مشرعيتها خارج إطار المشروعية.
أما قوله:
صبّي عليّ الماء قولي ضحكة:
شطرٌ تميّز بالرمزية الطفيفة، وبأسلوب الأليغوريا الوسطى allegorein ، وهو من المجازات التعبيرية الدقيقة، والتي يغرق بها الشاعر في خيال الحقيقة، وقد تكون لا حقيقة، إلاّ فعل الأمر صبّي والذي يشير للحقيقة المكشوفة، والتي تحتمل الوجهين للماء أقربها الوجه الأول الذي بالشطر الأول من البيت، ولا أدري هل لدى الشاعر صراحة الحرف ودقّته!
أم غلبته العاطفة فكتبَ القلم.
وللوطنية دورٌ في ديوان الفارس المفتون أبدع به الشاعر كقوله:
كفاكم من رجوعٍ للوراءِ
وذودوا عن بلادِ الأنبياءِ
أفيقوا من سباتٍ طال عمرًا
وعودوا للعلوم إلى الفضاء
في الحقيقة إنه ديوانٌ كلاسيكي من الدرجة الأولى، تميّز بتنوّع البحور المستخدمة في كتابته، وغلبت عليه القصائد العاطفية العذبة، ورغم ذلك لم يخلُ الديوان من القصائد الوطنية، والإجتماعية، ومن قصائد الحبّ الأسري.
الخلاصة:
لعبت المؤثرات الزمنية، والتقريرية الواقعية، دورًا كبيرًا في تدفّق الصور الخيالية المستوحاة من الحقيقة الحيّة لدى الشاعر، فانطلقت تلك القصائد انطلاقةً لا تغيب عن متذوّقي الشعر العربي الأصيل، وتمكنت من إيصاله للمتلقى بكلّ جدارة، وهنا يكمن سرّ الشاعر المرهف الحس والمتمكّن من إجادة ورسم حرفه في لوحةٍ أدبيةٍ جذابةٍ؛ فالمشاعر كلها تلوّنت كألوان الزهور كالأحمر المشتعل عاطفة، المتفجر على وجه الشاعر، أو كزرقة البحر ذات الأمواج المترادفة جاءت تلك القصائد كالشاطئ الهادئ على الرمال الناعمة، والذي لا يستبعد أن تشتد تيارات أمواجه فتتصاعد معلنةً ثورة الحبّ على ألم الفراق .
إنّ غلبة الوصف على هذه الوقفات الشعرية أدت إلى استشعار القارئ لشعور الشاعر، وعلى استرجاع ذكرياتٍ مشابهةٍ تعرّض لها المتلقّي.
كما تمتّعت قصائد هذا الديوان الرائع "ديوان الفارس المفتون " بالكثير من الصور البديعية مثل الإستعارات الشعرية، والبنيوية الجيدة، والإثراء الدلالي وبصور الأليغوريا التعريضية، حيث قامت على جدلية الكشف والحجب، وإن غلبت الحالة الأولى عليها، والتي أفصح بها الشاعر عن مقاصده في أغلبها، مستبعدًا أسلوب التورية في أكثرها ليفصح عن شخصيته بالفعل بأنه الفارس الحقيقي، وقد لعبت الأليغوريا الجزئية في بعض منافذ قصائد هذا الديوان، لتكشفَ
عن الحقيقة المرافقة لتلك الحال، وتصيغ بأبياتها بُعدًا زمنيًا يتحدّى التورية، ويتحدى الرمزيات، وتكشف عن أفكار الشاعر، وعن قدرته على التصويرات الحضورية المحسوسة،
من خلال تكثيف الفكرة للتغلغل في العمق الراكد وبعثرته بصورةٍ تصوّر امتداد الزمن وعمقه،
وإن داخلها بعض التّضداد الفكري في مقابلة الإتجاهات الشعرية بين الرمزية الطفيفة والأليغوريا التّعريضيّة، المتفتّقة والمتدفّقة بين الأحادية الضّمنية، وبين الوسطية، والتي تثير عند المتلقّى والمتذوّق للشّعر رغبة البحث عن بقية الدلالات الخفية الأخرى خلف السطور، ولعلّ الشاعر بتلقائيته وبموهبته الفذة صنع هذه السلسلة الأدبية الفائقة الجودة.
لقد ابتعد المؤلف في غالبية قصائد ديوانه " الفارسُ المفتون" عن مطاطية الرمز، و بهذا الإبتعاد لم يجعل في ذهن القارئ مكانًا لتفكيك النّص وتّأويله، والذي قد يصوّره المتلقّي خلاف تصوّر
الشاعر، فعنفوان النّص الأليغوري الوسط لم يعطِ مجالًا لاحتمالية التأويل والإجتهاد لدى القارئ
في أغلب قصائد الديوان، حيث جسّدت القصائدُ صورًا واقعيةً لم يغب عنها جمال الصور البلاغية.
كما لم تخلُ نصوصُ الشاعر من أسلوب الإلتفات في لغة الإخبار؛ ومن التّحوّل من لغة الإخبار إلى لغة المخاطبة.
تمنياتي للشاعر القدير بمزيدٍ من التألق الذي يواكب القافلة الأدبية العربية بكلّ جدارةٍ واحترافية.
0 comments:
إرسال تعليق