استعرض معكم في هذه الحلقة مشهدا آخر مُوثقا ومُعاصرا ومشاركا للأحداث نقلته لكم ( بتصرُف) من كتاب ( عبد الناصر وثورة ليبيا ) لفتحي الديب وهو مهندس حركات التحرر العربية والافريقية التي يقودها عبد الناصر واحد اهم مؤسسي جهاز المخابرات العامة المصرية ومن أهم معاوني الرئيس عبد الناصر وكان يطلق عليه رجل عبد الناصر الغامض وقد استقال الرجل من منصبه عقب وفاة عبد الناصر وتوفي الي رحمت الله في عام 2003 .
ونعود الي مشهد التهور والحماسة المفرطة وكان بطله العقيد معمر القذافي في حضرة عبد الناصر وعدد أخر من الزعماء العرب . فعلي الأرض الليبية وفي 21 يونيوعام 1970 كان الاحتفال بجلاء القوات الامريكية بحضور عبد الناصر والرئيس السوري نور الدين الأتاسي والعراقي احمد حسن البكر واللبناني شارل الحلو والسوداني جعفر نميري والملك حسين ملك الاردن وممثل دولة الجزائر وياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ..
بعد كلمة القذافي التي بثتها اذاعة صوت العرب وانتهاء الاحتفالات اجتمع قادة دول المواجهة مع اسرائيل في صباح اليوم التالي للتشاور والرأي حول وضع خطة حربية موحدة لقدرات الجيوش العربية للتصدي للعدوان الاسرائيلي وازالة اثار نكسة 67 واخذ كل زعيم يبدي رأيه في الجلسة وفجأة امتعض القذافي من موقف الملك حسين وهب واقفا خارجا على الأعراف ومهددا الزعماء العرب موجها كلامه للملك حسين بانه سيفضح مواقفهم وتقاعسهم لشعوبهم وعبر الاعلام اذا ماخرجوا من الاجتماع دون توصية موحدة فبُهت جمال عبد الناصر من ردة فعل القذافي وهنا يقول فتحي الديب:
(( فوجئت بالرئيس جمال عبد الناصر وقد شحب لونه ثم ضرب بيده على الطاولة مطالبًا العقيد بالكف عن تطاوله واحترام الرؤساء المجتمعين، موضحًا أنه ليس من حقه أن يوجه أى إهانة إلى الملك حسين أوغيره، وعليه أن يلتزم حدوده، وأنه ليس من حقه تهديد أحد، وأن قدرته محدودة فى شخصه، وإن جاز لأحد أن يتوجه إلى الشعب العربى من موقف القدرة فإنه على استعداد لأن يتوجه للشعب الليبى ليجبر العقيد معمر على الالتزام بآداب الضيافة واحترام ضيوفه))
وقام عبد الناصر مغادرا الاجتماع غاضبا ومتجها الي قصر الضيافة صحبة فتحي الديب الذي طلب منه ناصر إعطاء التعليمات لتكون الطائرة المصرية الخاصة جاهزة ليسافر فورا إلى القاهرة الا محاولات الديب نجحت في تهدئة عبد الناصر مبررا ذلك إلى نقص الخبرة والحماس وافتقار اللباقة والقدرة وما هو معروف عن القذافي من الاندفاع اللا واعى .. ثم خرج الديب واتجه إلى مبنى مجلس الثورة ليجد القذافي ورفاقه فى موقف لا يحسدون عليه من الكآبة والاضطراب النفسى والوجوم إحساسًا بالخطأ الكبير الذى ارتكبوه فى حق الرئيس كما أخبروه بمجرد رؤيتهم له..
ويضيف الديب في كتابه : «أخطرتهم باعتزام الرئيس السفر فورًا إلى القاهرة، فوقع ذلك الخبر على رؤوسهم كالصاعقة والتفوا حولى مطالبين باستعدادهم لعمل أى شىء مهما كان لإرضاء الرئيس وعدوله عن قراره بالسفر.. أكد لهم الديب أن الحل الوحيد أمامهم هو مصاحبتهم جميعًا للقاء الرئيس وبالفعل كان هذا ماحدث واعتذر القذافي اعتذار الإبن لأبيه لعبد الناصر الذي احتضنه واحتضن الجميع وبقي عبد الناصر لليوم التالي في طرابلس لمتابعة جلسات دول المواجهة وقد اقتتح القذافي الجلسة باعتذاره لللوفود عما حدث منه بالأمس ...
ونخلص من هذا الي جنون القذافي بمشروع الوحدة والقومية العربية وحبه للزعامة الذي تبلور بعد رحيل عبد الناصر عربيا وافريقيا فاتخذ لنفسه لقب ملك ملوك افريقيا بعدما فشلت محاولاته مع العرب التي استهلها باعلان ميثاق طرابلس عام 1971 لتأسيس الجهموريات العربية المتحدة (مصر- ليبيا - سوريا) فاصطدم مع السادات بزوال المشروع الناصري فعاد واتجه غربا نحو تونس ووقع مع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة اتفاق جربه عام 1974 لتكوين الجمهورية العربية الاسلامية يكون فيها بورقيبة رئيسا والقذافي نائبا له لكنه ايضا فشل فاتجه الي سوريا عام 1980لاقامة وحدة اندماجية بين البلدين وفشل المشروع ايضا ثم عاد واتجه الي المغرب العربي وعقد اتفاقية مع المغرب في أغسطس 1984 تحت مسمى الاتحاد العربي الإفريقي ثم قام بتأسيس اتحاد المغرب العربي بين دوله الخمس( ليبيا - تونس - الجزائر - المغرب - موريتانيا) سنة 1989وفشل ايضا ولم يؤتي ثماره المنتظرة ..
علي أننا في النهاية لا يجب ان نفرط في اتهامنا للقذافي لمجرد ايمانه المطلق بمشروع الوحدة العربية وبحبه للزعامة دون ان نذكر كلمة حق لهذه الشخصية الفريدة التي نادرا ماتتكرر في عالمنا العربي فقد كان يحمل هدفا نبيلا يعد حلما للشعوب العربية عمل على تحقيقه وانفق المليارات من اجله ليصنع جسم عربي قوي قادر على مواجهة التحديات التي تعانيها المنطقة، لكنها محاولات انتهت جميعها بالفشل بسبب خصومها الكثيرين بالإضافة إلى أن هناك قصورا من مهندسيها في التطبيق وهو ما جعل العقيد القذافي في منتصف مسيرته السياسية يتجه نحو إفريقيا التي بدورها كانت أفضل حالا من الوضعية العربية.بعد زوال مشروع القومية والوحدة العربية ..واخيرا ربما كانت في رأي المتواضع أحد أبرز عيوب القذافي هي خطاباته الموجهة صراحة بلا مجاملة .. وبلا أقنعة .. كان يتجه نحو الهدف مباشرة ..
رحل ناصر ورحل صدام ورحل القذافي عن عالمنا وبقوا في ذاكرة الجلادين من كتاب التاريخ لكنهم حفروا اسماءهم في قلوب الشعوب العربية وهذا أسمي وأخلد لهم من كتب التاريخ الأصفر والمأسوف عليها... والي لقاء اخر وحلقة اخري من ذاكرة الشعوب ..خالص تحياتي المؤرخ والشاعر \ طارق فريد ..
المصادر والمراجع:عبد الناصر وثورة ليبيا . فتحي الديب .مركز الحضارة العربية للإعلام وللنشر طبعة 1998..
0 comments:
إرسال تعليق