هل تكون نهاية حرب أوكرانيا فى نهايات الصيف أو مع بواكير الخريف المقبل ؟ ، لا أحد يعرف الجواب بدقة ، لكن "الذى بدأ الحرب بوسعه أن ينهيها" ، كما قال الرئيس الأوكرانى "فولوديمير زيلينسكى" ، وهو يقصد طبعا الرئيس الروسى "فلاديمير بوتين"، الذى لا ينطق بحرف عن نواياه مستمسكا بأهدافه الكلية ، وإن لفت الأنظار كلام "أنطونيو جوتيريش" الأمين العام للأمم المتحدة فى موسكو ، وقد التقى وزير الخارجية الروسى "سيرجى لافروف" ثم "بوتين" شخصيا ، وتمنى إعلان وقف إطلاق النار " فى أقرب الآجال" بمنطوق كلماته ، وكان "جوتيريش" ذاهبا إلى موسكو فى مهمة سلام عاجل ، واستبق لقائه مع "بوتين" بزيارة الرئيس التركى "إردوغان" ، والأخير هو الوسيط الأنشط حتى اليوم بين روسيا وأوكرانيا ، ودونما مقدرة بادية على فتح مسار لمفاوضات توقف الحرب فورا .
وقد دخلت الحرب شهرها الثالث ، وبصورة أكثر
ضراوة ، واتخذت طابعا عالميا متزايدا ، ليس فقط بسلاسل العقوبات القاسية ، التى
فرضت غربيا على روسيا ، وناهزت نحو السبع آلاف عقوبة سياسية واقتصادية ومالية ،
يضاف إليها هذا التدفق غير المسبوق عالميا للسلاح إلى أوكرانيا ، وبهدف "إضعاف
روسيا" كما قال "لويد أوستن" وزير الدفاع الأمريكى فى زيارته
الأخيرة إلى "كييف" ، فأمريكا فيما يبدو مصممة على القتال حتى نهاية آخر
أوكرانى ، وعلى إطالة أمد الحرب ، ربما لعشر سنوات مقبلة كما قال مرة "زيلينسكى"
تابع واشنطن ، ومصانع السلاح الأمريكية تعمل على مدار الساعة ، وتجمع عشرات
المليارات من الدولارات ، وتحشد من خلفها ما يزيد على أربعين دولة فى حلف الأطلنطى
وجواره ، وتذهب بالسلاح المتطور من كافة الأنواع إلى ميدان الحرب ضد روسيا ، وعلى
أمل ردع "بوتين" ، وربما تفتيت روسيا نفسها ، وتوجيه الضربات لمقاطعات
روسية على حدود أوكرانيا ، وإشعال ثورة فى موسكو تخلع "بوتين" ، وعلى
نحو شجع مسئولا أوكرانيا بعد زيارة وزيرى الدفاع والخارجية الأمريكيين إلى "زيلينسكى"
، ودفعه لإعلان مفاده ، أن فرص أوكرانيا فى البقاء أعلى من فرص استمرار بوتين فى
السلطة .
والمعنى ببساطة ، أنه لا قيمة كبيرة فى المدى
المنظور لمفاوضات تجرى بين موسكو وكييف ، فليس لدى الطرف الأوكرانى تفويض ولا
مقدرة على اتخاذ قرار ، وليس بوسع "زيلينسكى" ، سوى أن يتلقى إشادات
غربية ببسالة المقاومة الأوكرانية ، وسوى دفع ما تبقى من دماء القوات الأوكرانية ،
وعلى مذبح حرب ، لن تنتهى سوى بدمار أوكرانيا التى نعرفها ، وإحلال "عدة دول
أوكرانية" بدلا عنها ، كما قال سكرتير مجلس الأمن القومى الروسى ، وهو يصف
آثار الدعم الغربى الكثيف بالسلاح على مصير الحرب الأوكرانية ، فالذى يراقب ما
يفعله الروس يوميا على مسارح القتال ، يلحظ توزعا فى الجهد الرئيسى على جبهتين ،
وتركيز القصف الروسى بالصواريخ والطائرات على عشرات الأهداف يوميا ، ما بين مطارات
ومحطات طاقة وسكك حديدية وقواعد لتخزين السلاح الأمريكى والغربى عموما ، وعلى الجبهة
الأخرى ، زحف برى هادئ متباطئ ، تسارعت وتيرته فى الأيام الأخيرة ، ولا تخفى
أهدافه المعلنة فى انتزاع منطقة "الدونباس" بكاملها ، مع التقدم إلى "خاركيف"
ثانى أكبر مدن أوكرانيا ، التى استولى الجيش الروسى على نحو نصف المناطق التابعة
لها ، وعلى بلدات كثيرة تابعة لمقاطعتى "زابوريجيا" و"ميكولاييف"
، وبهدف إقامة طوق قاتل ، يحاصر القوات الأوكرانية المتبقية بجمهوريتى الدونباس "لوجانسك
ودونيتسك" ، وقد تفلتت خمسة وسبعون بالمئة من أراضيها من بين أيدى القوات
الأوكرانية حتى الآن ، ولم تتبق من مدن كبيرة فيها سوى "كراماتورسك" بيد
الأوكران ، بعد أن أعلن الروس انتصارهم فى
"ماريوبول" ، وتركوا جيبا غامضا فى مصنع "آزوف ستال" البعيد
عن ميناء "ماريوبول" بمسافة عشرة كيلومترات ، وفرضوا عليه حصارا "لا
يفلت ذبابة" ، كما أمر الرئيس الروسى وزير دفاعه فى لقاء مذاع على الهواء ،
وبما أثار تساؤلات عن الهدف بالضبط من الحصار لا المبادرة بالاقتحام ، فالرئيس
الروسى وأركانه يعرفون أكثر من غيرهم ، أن مصنع "آزوف ستال" الضخم وقصته
، تنطوى على مفارقة تاريخية ، فقد حول الروس ـ فى الزمن السوفيتى ـ المصنع إلى
قلعة محصنة حتى ضد القصف النووى ، وكان المصنع الذى أقيم ابتداء عام 1933 ، قد
تعرض لتدمير شامل فى الغزو النازى للاتحاد السوفيتى ، وحين أعيد بناء المصنع عام 1947
، فإن الروس أقاموا تحته أنفاقا بعمق عشرات الأمتار وبامتداد لعشرات الكيلومترات ،
وبدا أن الروس يدركون ما يفعلون فى معركة "ماريوبول"الطويلة الدامية ،
فقد دفعوا المقاتلين الأوكران مع أسرهم ومستشاريهم الأمريكيين والبريطانيين إلى
أنفاق الموت ، وتركوا الأمر معلقا ، ربما انتظارا لاقتناص "الصيد الثمين"
على قيد الحياة ، وأفسحوا لهم ممرات عبور آمن لمرات ، ودونما استجابة تذكر من
المفاوضين الأوكرانيين ، الذين لم يتلقوا أوامر سماح سريعة من الآباء الأمريكيين
والبريطانيين ، ربما خشية من انكشاف وانفضاح "خبيئة" آزوف ستال ، وهو ما
يفسر توقف مفاوضات الطرفين الروسى والأوكرانى ، وإن استمر تبادل أحاديث عبر تقنية
الفيديو ، تعرف موسكو حدودها الميدانية فى تبادل الأسرى ونحوه ، وتنتقل بهدوء إلى
استكمال عملية "خض ورج أوكرانيا" ، فهى لا تريد احتلال أوكرانيا بكاملها
، بل تغيير أوكرانيا سياسيا وجغرافيا ، ليس فقط بالاستيلاء على كامل الشرق
الأوكرانى ، وعلى ما يزيد على مئة ألف كيلومتر مربع حتى اليوم ، تكون المنطقة
الأغنى بالثروات والمعادن والموارد الزراعية والصناعية فى كل أوكرانيا ، بل قطع
تواصل ما يتبقى من أوكرانيا بالبحر الأسود وبحر آزوف ، وقد أدت عملية "ماريوبول"
هدفها ، بالاتصال المباشر مع شبه جزيرة القرم التى انتزعتها روسيا من سنوات ،
وبمحو اتصال أوكرانيا ببحر آزوف ، الذى صار بكامله بحيرة روسية ، مع تواتر القصف
الروسى على "خاركيف" ، التى تعدها موسكو مدينة روسية ، تماما كمدينة "أوديسا"
أكبر موانئ أوكرانيا على البحر الأسود ، وبدا حرص الجيش الروسى على ضمها ظاهرا ،
فى تسريب علنى عهد به على ما بدا إلى الجنرال "روستام مينيكاييف" نائب
قائد المنطقة العسكرية المركزية الروسية ، الذى أشار بوضوح لنية موسكو إكمال
الاستيلاء على الجنوب الأوكرانى إضافة للشرق ، وهو ما يعنى ضم "أوديسا" إلى
مصير "خيرسون" المستولى عليها روسيا مع بداية الحرب ، وفتح طريق اتصال
برى إلى إقليم "ترانسنيستريا" الروسى المنفصل فى دولة "مولدوفا"
المجاورة ، وفيه قوات روسية تحت اسم "حفظ السلام" ، ويسكنه أكثر من نصف
مليون روسى أى خمس سكان "مولدوفا" ، وهى دولة أعلنت حيادها منذ
استقلالها بعد انهيار الاتحاد السوفيتى ، وإن كانت أمريكا وحلف الأطلنطى يسعيان
إلى ضمها ، وبدعوى إنقاذها مما يسمونه "الإمبريالية الروسية" .
خرائط الحرب وميادينها المتسعة ، وصراع
الإرادات العنيف الدائر ، مع تعثر وغياب المفاوضات فعليا ، كل ذلك قد لا يقرب موعد
وقف إطلاق النار ، لا على نحو عاجل كما قالت تنبؤات أمريكية من قبل ، ورشحت يوم 9
مايو المقبل فى عيد النصر السوفيتى على النازية ، ولا على نحو يتأجل كثيرا لسنوات
، كما تطمح الدوائر الأمريكية والبريطانية ، التى أغراها انسحاب القوات الروسية من
حصار "كييف" مع نهاية شهر الحرب الأول ، وروجت لهزيمة روسيا الممكنة ،
ودفعت بكل ما يملك حلف الأطلنطى من سلاح إلى الميدان الأوكرانى ، وبهدف استنزاف
روسيا فى المستنقع الأوكرانى على الطريقة الأفغانية ، وربما مد أجل الحرب إلى عشر
سنوات ، وهو تقدير عادوا فتراجعوا عنه بوضوح ، وعلى لسان الديك المنفوش "بوريس
جونسون" رئيس الوزراء البريطانى ، الذى توقع خلال زيارته الأخيرة إلى الهند ،
أن تستمر حرب أوكرانيا إلى نهاية عام 2023 ، وبعد أن كان يعبر مع مخابراته
العسكرية عن الثقة المفتعلة فى هزيمة روسيا و"بوتين" ، عاد ليقول فى
المناسبة الهندية وبنص ألفاظه ، "أنه من المحزن أن احتمال انتصار بوتين فى
الحرب بات أمرا واقعا" ، ومن دون أن يقفز حتى الآن إلى استنتاج واقعى أكثر ،
قد ينبئ به خط سير الحوادث ، فالحملة الروسية تحتاج على ما يبدو إلى بضعة شهور
إضافية وليس سنوات ، وموعد نهاية صيف العام الجارى ، وربما بواكير الخريف ، أى على
منحنى شهور سبتمبر وأكتوبر إلى نوفمبر المقبل ، تبدو المواعيد الافتراضية الأكثر
احتمالا للتحقق ، فالروس أعلنوا أهدافهم من البداية ، وربما يختارون النهاية
الأفضل لموسكو بعد فرض أمر واقع وتثبيته ، وبالقرب من توقيت نشر صواريخ "سارمات"
الروسية النووية الفرط صوتية ، وبالتواقت مع هزيمة واردة جدا لحزب "جو بايدن"
فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس ، وهو ما يجعل الرئيس الأمريكى فى وضع "البطة
العرجاء" قبل عامين من نهاية فترته الأولى وربما الأخيرة ، وكأنها إشارة زوال
لزمن الهيمنة الأمريكية .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق