تصرخ
الروح في أعماق أنثى باحثةً عن مأوى تطمئن إليه في رحلةٍ شاقةٍ تُمسّد جدائل الليل
المظلم وتختبئ في مكانٍ بعيدٍ عن تلصص عيون القطط السوداء, وحوار باطني تجفُّ به
الحناجر وتلتهب له النيران فلا يطفأها إلا
صرخة أنثى بصوتٍ يكسر كل الأطر
والقوالب التي ما برحتها فترة
طويلة وسط قيم وأعراف وتقاليد هذا ما تُمثَّله البطلة ( بديعة ) الشخصية الرئيسة
في رواية " الرقص بلا رياح " للروائية
العراقية ولام العطار الصادرة من دار العرب / دمشق / سوريا و دار الصحيفة العربية/
بغداد / العراق لعام 2021 في طبعتها الأولى ..
اختارت
الكاتبة عنونة " الرقص بلا رياح " بحرفية وابداع فني وبأسلوب شعريّ
انزياحي من خلال رسم صورة شعريّة تُأثث للقارئ مساحة للتخيل والتأمل في المفردتين "
الرقص والرياح ) وتجعله ينقاد لا ارادياً
لمعرفة ما تريده الكاتبة .. العنونةُ
مفتاحٌ لاقتحام النص وبوابة رئيسة للولوج إلى المضمون والمتن .. العنونة هي الوهّج البصري الأول الّذي يستثير
مُخيلة القارئ ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل
والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل الرواية وما تتضمنه من دلالاتٍ ومعانٍ واستعارات و
انزياحات ..
توّج
غلاف الرواية بلوحةٍ تجريديةٍ لأنثى تحيطها الهواجس والمخاوف وسط عالم مليء
بالغموض وهي رمزية كرمزية العنونة
باعتبارها عنصراً سيميائياً يشير إلى الشخصية الرئيسية في الرواية ..
أما
الإهداء فإنه يشير إلى فترة زمنية تغيّب فيها الكثير من الرجال والنساء كبار وصغار
على يد الطاغية وأزلامه ومنهم الشهيد الذي ذكرته الكاتبة ( عبد الرضا العطار ) ..
بدأت
الرواية بضمير المتكلم واعتراف من الشخصية البطلة عما يجول في أعماق نفسها وكشف
المستور بخطاب غير مباشر ينم عن تصارع وتأزم نفسي واجتماعي يخالج نفسها اللوامة
والرافضة والمتمردة على القبح والرذيلة عالم أسسته بنفسها وتقوقعت بداخله وكأنها حبيسة تلك التقاليد والأعراف ولا تريد الخروج منها..
الحوار
تعتبر الشخصية ( بديعة ) المُحرّك الأساسي
والفعلي لسير الأحداث باعتبارها عنصراً فنياً يقود دفة السرد والارتباط والانتقال
من شخصية إلى أخرى من خلال حوارات
متبادلة وتدور حولها كل الأحداث ويسهم
الحوار في إبطاء حركة سير السرد حيث أن تتابع الاحداث بسرعة يُسبب للمتلقي ضجر وملل وقد يكون بين شخصين أو
أكثر وتتمثل أهميته في نقل الحدث والمواقف والربط المتقن بين فقرة وأخرى وضمن صلب
الحدث ومعبراً عن سلوك وطبيعة الشخصية ويكون متلائماً معها ويكشف للقارئ مضمون
القصة ويسهل عليه الإمساك بخيوط الحدث دون أن تضيع أحداثه ..
يساهم
الحوار بشكل فعلي في الكشف والتقصّي عن
البواطن الداخلية والمعتقدات
والمبادئ وهذا النوع من الحوارات ذات
الأصوات المتعددة التي تبين عمق الدلالات والتعبير عن الأيديولوجيات وبيان وتحليل
الملامح النفسية والفكرية التي تتحلى
بها الشخصيات وموقعها ومركزها الاجتماعي والميول والرغبات والنوازع مما يسهل على
المتلقي التعرف عليها..
إلا
إن الكاتبة قد بدأت بحوار مونولوج داخلي ( ذات يوم قلت لنفسي ما الذي يجعلني أبوح
بما اعرف )ص9.
حوار
فردي نابع من ذات الشخصية بتصارع وتضارب الأفكار والتوجهات بين الأنا الّتي تخفي
وتتكتم وتتستر و الأنا الصارخة بعنف من وجدانٍ رافضٍ لكل مظاهر التخلف المجتمعي
والتعاملات المبنية على أساس المنافع الشخصية و شرعنة الأفعال القبيحة .. صراع
نفسي لضمير أنثى حيّ (فتتراجع الأنثى
التي ترتقبني بعيونٍ سود مغسولة برذاذ الأحزان
..) ص16
تمتلك
العطار خيال خصب واسع من خلال تجربتها الفنية والأدبية ونهلها من المعارف ساعدها
في نسج وتركيب الجمل ببلاغة عالية فالتخيل والتأمل يعد نمطاً حوارياً داخلياً يتم
من خلاله استرجاع الصور الذهنية العالقة في المخزون التراكمي المعرفي وصياغته
بأساليب حوارية درامية ..
تنفرد
الشخصية في حوارها الباطني بالتعبير عن كل ما يعتريها من آلام وأحزان وضغوطات
نفسية واجتماعية كما في حديثها مع نفسها ( أدور مثل نحلة طنانة حول مائدة أحلامه
فأرى رسوم أنوثتها التي ما ولجت شطآن السعادة ..)ص18.
( أتأمل
الوجوه التي تحيطني فلا أجد غير مسرات كاذبة وجنون يدفع النفس على الهروب ..) ص19.
تتنقل
البطلة ( بديعة ) بين الحوار الباطني المونولوج بالهدم والتشييد ثم الهدم في مراحل
غير منتهية إلى حوار خارجي مع شقيقها جعفر الذي
تعلمت منه ما تروق وتطمئن وتطرب له
نفسها فهو المؤنس والأمان والقريب إلى ذاتها المجروحة بأسى الأحزان والمخاوف وأمّ
مسكينة تقضي سنينها على ذكريات زوجها المتوفي لكن أكثر حواراتها مع دميتها ( الملكة)
بأسلوب حواري شيّق يبين قدرت الكاتبة وامكانيتها في تحويل الطرف الثاني الذي لا
توجد فيه مشاعر وأحاسيس ولا ينطق إلى كيان له رأي وشخصية مستقلة والذي هو في الأصل
ما تصدح وتهتف به ذاتها الخفية ورفضها
بالفطرة لكل قبيح لكن المتلقي يعيش حالة حوار خارجي بين دمية التي أطلقت عليها
العطار ( الملكة ) كما في ( فانتبه إلى صوت ناعم يهز مخاوفي:
-حاذري
؟
-من
؟؟
- من
غيري أيتها البائسة ؟!!
تهزني
الكلمات المستفزة فأسحب قدمي إلى البلاط شاعرة ببعض البرودة تسري إلى أجزاء جسدي
الفاتر اهمس .. من ؟!!
فيرد
الصوت ببرود لذيذ .. أنا الملكة ؟!! ) ص12.
وكذلك
الحوار مع الأم وشقيقها جعفر وداود وزوجها عطوان الذي يكشف للمتلقي ملامح وأفكار
وطموحات الشخصيات المتحاورة ويسهل له تتبع
الحدث ..
المكان
وظفت
العطار المكان توظيفاً فنياً ابداعياً مؤثراً ومتأثراً من حيث حركة الشخوص ودورهم
التفاعلي سواء أكان إيجابي أم سلبي باعتباره عنصراً اساسياً من عناصر الرواية لما
يتضمنه من دلالات معيّنة وضمه للشخصيات والأحداث والمكان الذي تمارس فيه الشخصية
دورها و " ربما كان المكان أهم المظاهر الجمالية والظاهراتية في الرواية
العربية المعاصرة "1.
حيث أن الكاتبة
اتخذت من البيت وبالذات الغرفة التي ظلت تلازمها البطلة ( بديعة ) طيلة
فترة حياتها وحتى بعد انتقالها إلى بيت زوجها فإنها بقيت تتخيل وكأنها بنفس غرفتها
السابقة, الاثاث, الجدار وحتى الدمية ( الملكة ) لا زالت تنظر إليها وتحدثها ولكن
بطريقة أخرى ..
فكان
المكان ( البيت والغرفة) لما يمثّله من قيمة رمزية اعتبارية يستطيع الشخص الحالم
والمتخيل من خلاله الرجوع إلى خزانة ذكرياته بأفراحها وأحزانها, بتفاصيل الأماكن
والأشياء فيها علقت في مخزونه التراكمي الباطني وتحضر له كلما حنَّ إليها أو مرَّ
بموقف يذَّكره بها إلا أن ذلك المكان ( الموطن الجميل ) الرحمي قد يتحول إلى مكان
عدائي كما حصل للبطلة ( بديعة ) عند انتقالها إلى بيت الزوجية فأصبح البيت
والغرفة شبح مرعب يكشر أنيابه بوجهها
وتصرخ جدرانها بصوت البرق والرعد كما في ( تبللت ذاكرتي بدم الوجوم تلفت باحثة عن
مخلص يدليني على ما افعل أطنان من الحيرة ركبت فوقي فصار كل عضو بي يتحرك دون رغبة
مني وجدتني أتراجع إلى قلب الظلمة وأتمنى لو أني رأيت أمي ..) ص23.
( ظهرت
أمامي وجوه شوهاء تسكن ظلمات الأمكنة ..) ص38.
(تتحطم
الكلمات داخل حنجرتي وبتحطمها تتحطم آمالي وتموت الحياة التي أحس جذوتها تشتعل في
أعماقي وأبدو مثل رماد تتلقفه رياح النسيان ..)ص39.
صورت
لنا العطار بيت الزوجية الذي يفترض أن يكون مكان آمن مُحاط بهالة من الحب والجمال
والتسامح والعطاء والتلاحم الأسري إلى مكان عدائي وذلك من خلال نظرة الشخصية التي
تحرك سير الأحداث وانعكاس حالتها النفسية ورؤيتها للمكان واحساسها به وحتى بيت
أهلها تحول بسبب المآسي والأحزان والضغط النفسي وتسلط شقيقها ( داود ) وتحكمه
بمصيرها عبارة عن بيت موحش (و أنا يا جعفر .. لا استقر عند مكان واحد .. أحس بألفة
مع الأشياء والأمكنة ولكني وببرود ارفض الانتماء .. حتى أحسكم غرباء عني ولا
يربطني وإياكم سوى هذه الحجرة التي لا اعرف كيف جئتها !! ) ص39.
(ثمة
أمكنة دكناء تنضح منها روائح زنخه تبعث على القيء .. وامكنة متفوقة بالفوضى
والصراخ أمكنة لها طعم الليمون وأخرى حامضة تضج من بين طياتها رائحة البول والبراز
أمكنة شاهقة تصدر فحيحاً يشبه فحيح أفاعٍ سامة, أمكنة تتساوى القبور بصوتها الناعم
الباعث على الدفء ..) ص134.
وظّفت
العطار مكاناً ( البيت ) سواء بيت العائلة أو بيت الزوجية الذي يُفترض أن يكون
مكاناً جميلاً رحمياً يترسخ في الأذهان وفي النظم الإنسانية الرفيعة والعدل
والمساواة بالسكينة والهدوء والحب والمودة والطمأنينة والاستقرار الاجتماعي
والنفسي إلى مكان عدائي اذا فقد الأسس القويمة وسبل العيش الرغيدة ولقمة الحلال
والتفاهم المبني على الألفة والانسجام وهذا ما ورد على البطلة ( بديعة ) ..
إلا
أن المفارقة الرائعة التي كسرت أفق التوقع لدى المتلقي تحول الشخصية السوداوية
البائسة الانطوائية الرافضة لكل مظاهر الفساد إلى أنثى لا تكترث لكل الماضي أنثى
تقاوم ذاتها الرافضة بكل قوة كما ورد بقولها ( لا فائدة من أن نحب, ونكتب, ونؤمن
بقيم ومبادئ لا تستطيع الدفاع عن نفسها ؟!! .. لا فائدة !! , ابتسمت المرأة وللمرة
الأخيرة عدلت حالها واخترقت باب الحجرة باتجاه صالة الاستقبال تاركة وراءها البنت
البكماء المتلعثمة تلاحق أطياف ماض موحل لا يفيد ..) 155.
هذه
الشخصية البطلة تركت وراءها عديلة ( البنت البكماء) كما وصفتها الشخصية المرأة
العصامية الطيبة والودودة أصبحت قديمة بكماء وهذا هو حال الكثيرات في زماننا وبذلك
فإن الروائية العطار قد وظفت ورصدت لنا ظاهرة اجتماعية مسكوت عنها بأسلوب درامي
تتابعي ينقل لنا تحول الشخصية وتغير ميولها ومبادئها وأفكارها نتيجة ضغوط قاهرة لم
تستطع الصمود بوجهها كما أنها كانت تحس بأنها المجنونة الوحيدة وسط مجتمع يقدر
وينزه الفاجر ويهين الشريف والفقير " تقول: واقعك يرسم لك أكاذيب لا يمكن أن
تستمر !! أقول: بل هي الأبقى .. والأكثر صلاحاً !! "ص157.
"
فأرى بديعة المخبولة تقف عند طرف السرير وهي تداعب ضفيرة الملكة الصفراء " 160.
الشعريّة في السرد
اتبعت
العطار في سردها طريقة التلاحم والترابط والاقتران باللغة الشعريّة المتمردة على
المعتاد والمألوف من القول والمغايرة واضفاء الصور الشعريّة التي تمنح النص قوة التحفيز
والإثارة والجذب لدى القارئ وابتعادها عن الكلام المباشر بلغةٍ محبكةٍ مُثيرةٍ
سردية متسعة ايحائياً ورمزياً " ثمة ما يشدني إلى الخراب وما يجعلني أنفر
الارتياح والكشف عن سواتر أعماقي, ثمة معارك تصطخب في رأسي, جيوش من الأفكار التي
تتحارب محاولة كسر شوكة الارتخاء .." ص35.
" ضحكت رؤوس الأشجار المقابلة ونفشت ريح
مرقت سريعاً سعف النخيل الذي أحسسته يومئ ناحيتي "ص47.
"
وحدي أشم روائح الألم فتنهمر ألوان جنوني دون أن أقدر على لمها ... لبرهة تصهل في
أعماقي خيول الارتباك "ص68.
"
نصبت مشنقة أرتباكه ورميت إليه غرور حكاياتي" ص95.
اتسمت
اللغة في رواية ولام العطار بالشعريّة من خلال خلق صور ابداعية فنية تعتمد الرمز
والمجاز والتشبيه وتحويل الصور إلى حركية درامية ارتدادية وتراسل الحواس مما كان
لها الأثر الفعال في تحريك وتهيّج مشاعر وأحاسيس المتلقي الذي يتلذذ بتلك المقاطع الموسيقية
والتي لا تؤثر على سير الاحداث في الرواية " أمسكتني رعشة الدروب وألقت بي
إلى بئر من الهذيان "ص100.
"
أقف عند مرآة وحدتي ببطء أخلع عني ثيابي فتصرخ البنت التعسة التي تقابلني محتجة "ص101.
"
كانت المعاني تركض مثل جياد تبحث عمن يروضها" ص107.
"
أمسح فضة أخيلتي فتتلألأ تيجان دهري"ص154.
قدمت لنا العطار سرد روائي مُفعم بالصور
البلاغية الشعريّة التي لم تؤثر على سير الاحداث وشخوصها والمكان والزمان لتنقل
لنا المسكوت عنه وكل ما تعانيه المرأة العربية من عنف أسري وضغط نفسي واجتماعي بأسلوب لغوي اعتمد الانحراف
والانزياح اللغوي والابتعاد عن المباشرة والمألوف وذلك لأن الشعريّة " هي
باستمرار علاقة جدلية بين الحضور والغياب الجماعي أو الابداعي الفردي والذاكرة
الشعرية "2.
فيكون
للصور الشعريّة في النص السردي دور المساهم في تطوره وارتقائه وقبوله من خلال
الدهشة والصدمة وخيبة التوقع لدى المتلقي..
امتازت
الرواية بالشعريّة والمفارقة والمغايرة وكثافة الصور البلاغية كالتشبيه والمجاز
والرمز والاستعارة وغيرها من أساليب الخروج والتمرد على القوالب الجاهزة والحوار
الخارجي والداخلي وربط الأحداث والخيال الواسع الذي جعلها تتحرر وتنطلق بسيل متدفق
من الألفاظ والصور والأحداث رغم ضيق مكان الحدث وبذلك يكون محتواها ذا دلالات
واسعة وعميقة ترتبط مباشرة بالمتلقي ..
0 comments:
إرسال تعليق