استأجرنا غرفة في شقة، وكان بالغرفة المجاورة لنا طالبان في كلية الطب في السنة الخامسة تقريباً، أحدهما هادئ الطباع، والثاني يبدو عليه التعالي، لا يتحدث إلينا كصاحبه، وقد لا يلقي السلام إذا التقينا، من الممكن أن يتحدث قليلاً إلى ابن خالتي، فهو في كلية الهندسة، مستواها العلمي قريب من الطب، أما أن يتحدث إلى طالب في كلية التربية فهذا ضرب من المحال، كنت لا أحب لقياه ولا آنس بوجوده، وكنت أبادله نفس المعاملة، تجاهلا بتجاهل، وكنت إذا لقيته هو وزميله سلمت على زميله متجاهلا وجوده، وكان تصرفي يثير حفيظته، فكيف لمثلي _من وجهة نظره _أن يتجاهل مثله؟ ثم بدأ يوجه حديثه إلي في بعض الأحيان، وكنت أرد بابتسامة فاترة تنم عما بداخلي نحوه، وقد كان سبباً في التعجيل بإنهاء تجربة السكن الفاشلة التي استمرت ثلاثة أسابيع، ثم جاءت الضربة القاصمة التي أنهت فكرة البقاء في السكن اللعين :
الشبشب ضاع
كان من عادتنا أننا نصلي في السكن كل الصلوات تقريبا، خاصة أن معظم الصلوات كانت تتزامن مع وجودنا في الكلية، علاوة على الكسل الذي يعترينا.وفي يوم من الأيام كان ابن خالتي في الكلية وأنا وحدي في السكن، وأذن المؤذن لصلاة العصر، فإذا بشحنة إيمانية _غير معهودة _تدفعني إلى أداء الصلاة في المسجد، أو قد يكون الملل لوجودي بمفردي في السكن.
انطلقت إلى المسجد بعد أن توضأت في السكن، صليت السنة، ثم الفرض، وجلست أختم الصلاة، ثم هممت بالانصراف، ولم يتبق في المسجد إلا ثلاثة أو أربعة مصلين، اتجهت حيث وضعت حذائي (الشبشب) فلم أجده، نظرت هنا وهناك بأنفاس مطردة بحثاً عنه فلم أجده.
كل ما دار بخلدي في تلك اللحظة كيف سأذهب إلى السكن حافي القدمين، ياللمصيبة!
شعور لا يمكن وصفه، علاوة على أن (الشبشب) كان جديداً، وفقده فاجعة بالنسبة لي.
استغرقت هذه الفكر لحظات، ثم أُلهمتُ الحل، هناك (شبشب) مازال موجوداً بالقرب من موضع حذائي، لابد أن صاحبه تركه وأخذ حذائي دون أن ينتبه، أو هكذا أقنعت نفسي، فالحذاء الموجود شبه قديم، والمقاس تقريباً أكبر من حذائي.
لم أفكر طويلاً، أخذت الحذاء البديل، وخرجت خارج المسجد وانتعلته، وخطوت خطوة أو خطوتين، ثم سمعت صوتاً ينادي :يا أستاذ.
تسمرت في مكاني لحظة مرت علي كدهر، ثم تجاهلت الصوت، وواصلت السير، فإذا بنفس الصوت مرة ثانية وبصوت أعلى يكرر النداء :انت يا أستاذ.
التفت إليه بين خوف ورجاء، وهنا وقع المحظور.
نظر إلي قائلًا :انت اخدت الشبشب بتاعي.
نظرت إلى الشبشب مظهرا الدهشة والحسرة في نفس الوقت، فأنا أعلم أنها نظرة الوداع الأخيرة للأمل الأخير.
اقتربت من الرجل وقلت له عذراً لم أنتبه، ولكن أين شبشبي.
قال الرجل :أكيد داخل المسجد، ودخل ينظر حيث توضع الأحذية وأنا معه، وما زلت أنتظر المعجزة التي سترد إلي ضالتي، لكن هيهات، فقد ولى زمن المعجزات.
نظر الرجل إلي في إشفاق قائلًا : استعوض ربنا يابني في الشبشب، أكيد واحد ابن حرام أخده.
وقعت الكلمات علي وقع الصاعقة، مع أني أعلمها، وعلي أن أتقبل فكرة المشي حافي القدمين إلى السكن.
ثم جاء حل غير مرضٍ من هذا الرجل، لكنه أفضل من المشي حافيا، دخل عند الحمامات وأحضر (شبشب بلاستيك) خاص بالوضوء، ثم قال :روح فيه وبعدين ابقى هاته المغرب وانت جاي.
نظرت إليه في غضب ممزوج بالحسرة قائلاً له :يعني اي الشبشب ضاع؟
هنا تغيرت نظرة الرجل ونبرة صوته.
رد علي في حدة : حد قالك تجيب شبشب جديد وانت جاي تصلي، هو انت جاي تصلي ولا جاي تتمنظر.
تركني الرجل وانصرف، وأنا أنظر إلى الشبشب البلاستيك تارة، وأنظر إلى الرجل تارة أخرى، لعله يعود ويبحث معي عن حل آخر، لكن ذلك لم يحدث، واستمر في مشيه حتى غاب عن نظري.
انتعلت الشبشب البلاستيك واتجهت إلى السكن وأنا أفكر في كلمة الرجل (حد قالك تجيب شبشب جديد وانت جاي تصلي).
ومن يومها، كلما ذهبت إلى المسجد آخذ حذاءً غير جديد لا أحزن لفقده.
**انتظرونا في العدد القادم
العالَمُ السفليّ ( العفاريت)
0 comments:
إرسال تعليق