إن المرأة أنثى ولكن لماذا تتحول هذه الحقيقة البايولوجية المحايدة إلى عامل حاسم ومحدد لشرط المرأة الإنساني والاجتماعي. وإلى أي حد يصح القول (إن المرأة اقرب إلى- الطبيعة منها إلى الثقافة وأن كيانها يتحدد بجسدها أي بوجودها البيولوجي وما يترتب عليه) وذلك رغم أن الدراسات تؤكد أن البايولوجيا قد تقيد سلوك الجنس (في مرحلة حضارية ما)
ولكنها لا تحدده، وأن الاختلافات بين البشر من ذكور وإناث تعكس تفاعلات بين تركيبنا الجسدي ونماذج حياتنا الاجتماعية، لقد تم تفصيل (الشخصية الأنثوية) على مقاس دور المرأة المنزلي في المجتمع الأبوي،
وإن البايولوجيا بالنسبة للإنسان لا تصبح هامة إلا عندما يتم تفسيرها طبقاً لمعايير وتوقعات الثقافة السائدة، فالبيولوجيون يمكن أن يخبرونا مثلاً أن الرجل بشكل عام أقوى من المرأة، ولكنهم يعجزون عن إخبارنا عن السبب الذي يجعل من قوة الرجل ونشاطاته موضعاً للتقدير من قبل الناس في جميع الثقافات.
أليس لافتاً أن المرأة معتبرة، إلى درجة ما، أقل شأناً في كل ثقافة معروفة وقبل أن تكون المرأة أنثى هي إنسان وبالتالي فإن المرأة كائن إنساني وليس مجرد أنثى وهذا الكائن الإنسان لا يقع خارج التاريخ ولا خارج المجتمع ولا يتشكل أيضاً خارجهما بيولوجياً، المرأة أنثى ولكنها قبل ذلك ومعه هي إنسان محكوم بشرطه الاجتماعي والتاريخي الأمر الذي ينفي أو يضع موضع تساؤل على الأقل مقولة
أن قضية المرأة خاصة جداً ومستقلة جداً وبالتالي أفقها مفتوح للتشخيص والفهم والاستيعاب، والخلل الذي ترسخ في المجتمع لصالح المرأة في عصر (الأمومة) تبدل ليصبح لصالح الرجل في عصر (العائلة الأبوية) ليزداد رسوخاً في الأحقاب الزمنية التالية، وهذا ما يؤكد أن هذا الخلل لا يعود إلى النصوص المتعلقة بالمرأة في الكتب السماوية، وأن رحلة قهر المرأة تعود بجذورها إلى أعماق التاريخ السحيقة حتى في تاريخ حضارات منطقتنا القديمة يمكن الاستدعاء إلى الذاكرة موقف حمورابي المتمثل في تشريعاته ضد المرأة.
وهذا ما يفسر أن تكون قضية المرأة واحدة من القضايا الأشد بروزاً والأكثر تقدماً على جدول أعمال مشروع النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وأن تكون واحدة من المحاور الرئيسة لخطاب التنوير العربي الذي يشكل الإطلاع على الغرب (الأوروبي أساساً)، والأخذ عنه (والعمل على تبيئة ما يؤخذ وربما الاقتصار على النقل والتقليد أحياناً) واحدة من سماته الأساسية.
إن السؤال المركزي الذي كان ولا يزال يحرك الجهود الفكرية والاجتماعية والسياسية المتعلقة بالمرآة والإعلام لا يتعلق أساسا بطبيعة المخرجات الإعلامية التي تقدم المرآة في أطر سلبية، بل يدور في معظمه حول العوامل والمتغيرات التي تقود لبناء تلك الصورة السلبية. فالمهم هو أن نفهم أسباب هذه الظاهرة قبل الشروع في التفكير في البحث عن حلول لها، وألا أصبحت الجهود التي نقوم بها لا تستند إلى قراءة علمية ودقيقة للواقع الذي نبحث فيه. ولا شك أن العديد من البحوث في العلوم المعرفية المتداخلة Interdisciplinary Fields قد لامست بعض الجوانب المتعلقة بهذه الظاهرة الاجتماعية الثقافية، وخرجت باستنتاجات مهمة ترى أن إصلاح صورة المرآة في الإعلام هي عملية متعددة الجوانب والأبعاد، وبالتالي فهي متعددة الحلول والطروحات. فهي ظاهرة تمتد جذورها في القيم والتقاليد الاجتماعية الموروثة التي لا تنظر للمرآة على أنها كيان إنساني واجتماعي مكافئ للرجل، مثلما أنها مشكلة ثقافية أفرزتها الظروف الاقتصادية التي تواجه المرآة في المجتمعات العربية المعاصرة، بما فيها انتشار الأمية، وعدم تكافؤ فرص العمل، وتزايد الضغوط لإبقاء المرآة محاصرة في إطار فضاء اجتماعي محدد سلفا وفق معايير مغلوطة.
إن الأمر ببساطة يتعلق بكون المؤسسات الإعلامية ليست سوى امتداد لمنظومة اجتماعية ثقافية تراكمت تفاصيلها عبر قرون كثيرة، لتفرز هذا الإرث الاجتماعي والثقافي الذي يحرك اتجاهات المجتمع ويؤطره نحو النساء. ولعل هذا الاستنتاج يطرح تساؤلات جمة عما يمكن القيام به لتصويب الوضع القائم. فمن أين نبدأ يا ترى؟ هل نبدأ بالمجتمع ونشرع في إصلاحه من خلال برامج استراتيجية تقود في نهاية المطاف إلى إحداث تطور اجتماعي وثقافي تتلاشى من خلاله الاتجاهات السلبية نحو المرآة مما ينعكس إيجابا على المخرجات الإعلامية؟ هل نبدأ بالمؤسسات الإعلامية ذاتها ونعمل على إصلاحها بشكل يضمن لنا الحد الأدنى من التعامل السوي مع قضايا المرآة في المجتمع؟
ولعل السؤال الثاني ينطلق من أطروحة تقول إن وسائل الإعلام تعمل على تسليع وتشييئ المرآة ليس لأنها تقوم بتجسيد عادات وتقاليد بالية، بل لأنها تعمل على استغلال المرآة لتحقيق الأرباح التجارية، وبخاصة في عصر العولمة الذي لا يمت بصلة لروح التقاليد العربية الإسلامية بمفهومها الصحيح.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار ما تقوم به وسائل الإعلام من بناء الوجدان وتشكيل الرأي العام وبلورة الاتجاهات نحو القضايا التي تهم المجتمع، فإننا سندرك النتائج السلبية التي ستتمخض عن بروز صورة سلبية لنصف المجتمع في وسائل الإعلام بالنسبة للتنمية في أوجهها المختلفة ولا بد من التأسيسي لتشابك أكبر مع الكيانات المؤسسية المختلفة من أجل تحقيق أهداف هذا المشروع. ومن ناحية أخرى،
فإن تعقيدات هذه الظاهرة وتشعباتها المتنوعة هي أمور لا يجب أن تجعلنا نشعر باليأس تجاه الفرص المتاحة للتخفيف من وطأتها، حيث أنه لا يمكن الحديث عن حل سحري لها، بل إن أي توجه للتعامل معها لا بد أن يستند إلى برامج متنوعة القطاعات وبعيدة المدى تعمل جنبا إلى جنب بشكل متواز لرفع مستوى الوعي الاجتماعي بالدور المركزي للمرآة في المجتمع، وتحويل هذا الوعي المتقدم إلى مخرجات إعلامية متطورة، تضع صورة المرآة في سياقها الصحيح بعيدا عن الإثارة والتسليع، والقيم المستهلكة.
إن الصورة السلبية التي قدمت وتقدم فيها المرآة العربية في وسائل الإعلام الجماهيري في المنطقة العربية والمبادرات الواجب إطلاقها للتخفيف من حدة السلبية في تلك الصورة تمهيدا لإزالتها هي الموضوع الرئيسي لهذا الوثيقة. ولا بد من التأكيد أن تقديم المرآة العربية بالشكل الذي يليق بها في وسائل الإعلام العربية لن يتحقق بين عشية وضحاها، مثلما أنه لن يتحقق نتيجة لجهد فردي تقوم به جهة بعينها، بل هو عملية تثقيفية وتوعوية وتربوية متكاملة تشارك بها جميع قطاعات المجتمع، وتعمل على تعزيز الوعي السليم بدور المرآة وبمركزيتها في البناء والتطور كمرحلة أولى تمهد لتحول هذا الوعي الجمعي إلى مضامين إعلامية هادفة، تنصف النساء في الوطن العربي وتمنحهن المكانة المرموقة التي يستحقونها.
ومن هنا، فإن مخطط المشروع الذي تتضمنه هذه الوثيقة يستند إلى نظرة واقعية لهذه القضية، وفهم عميق لطبيعة المشكلة، بشكل بعيد عن الإثارة والتضخيم، من خلال منهج علمي سليم يعالج هذه الظاهرة من جوانبها المختلفة، وهي بالتأكيد ليست مشكلة إعلامي بقدر ما هي مشكلة ثقافية واجتماعية تحتاج لحلول اجتماعية قبل أن نتحدث عما يمكن للمؤسسات الإعلامية
أن تقوم به للتخفيف من حدتها، فالمؤسسات الإعلامية ليست في نهاية المطاف سوى جزء من الكيانات الاجتماعية والثقافية السائدة، ولا يمكن لها أن تعمل بمعزل عنها. ولا يعني هذا الأمر بأي شكل من الأشكال تبرئة المؤسسات الإعلامية مما تقدمه من صور سلبية للمرآة العربية، بل تحاول أن تضع الإصبع على الجرح، لتشخيص أسباب الداء والبحث عن الدواء. فالداء هو اجتماعي وثقافي بالدرجة الأولى، وتجلياته الإعلامية ليست سوى مظاهر للمشكلة لا أكثر.
ولا بد من الإشارة هنا إلى الأدوار التي لعبتها المؤتمرات العالمية الخاصة بالمرآة في كوبنهاجن (1980) ونيروبي (1985) وبكين (1995) في الترويج لمعالجة إعلامية أكثر إيجابية لصورة المرآة. ففي "مؤتمر المرآة" الذي عقد في بكين عام 1995، كانت الصور الإعلامية السلبية للمرآة تقع في أعلى سلم أواويات الوفود المشاركة، حيث تبنى المؤتمر برنامجا سمي بمنصة العمل في بكين Beijing Platform of Action حدد فيها اثنا عشر مجالا مثيرا للقلق فيما يخص وضع المرآة، من بينها المجال الإعلامي، حيث لاحظ المشاركون وجود فرص غير متكافئة أمام المرآة تعيق قيامها بلعب بدور ذي معنى في الحياة العامة للمجتمعات المعاصرة. وتضمن البند (J) من البرنامج هدفين استراتيجيين فيما يتعلق بوسائل الإعلام: الأول، ويتمثل في الترويج لعرض متوازن وغير متحيز ضد المرآة في وسائل الإعلام، والثاني في زيادة مستويات مشاركة المرآة في العمل الإعلامي، وفي استخدام التقنيات الاتصالية الحديثة.
إن دلالة مؤتمر بكين تكمن في التركيز على علاقة المرآة بوسائل الإعلام في محاوره الرئيسية، حيث أكد على أهمية تولي المرآة العديد من مناصب صناعة القرارات الإعلامية، ودعا إلى إنشاء شبكات إعلامية محلية وقومية وعالمية خاصة بالمرآة لضمان التدفق الدولي للمعلومات، وتبادل الآراء، ومساندة جهود المنظمات النسوية في العمل الإعلامي. وركز المؤتمر كذلك على أهمية استثمار وسائل الاتصال الحديثة من شبكة الإنترنت والوسائط المتعددة في النهوض بالمرآة وتطوير أدائها المهني.
0 comments:
إرسال تعليق