يُفْتَح
الستار على الأسرة لتجد الأب ممسكًا بهاتفه يعلق ويقهقه على صفحات الفيسبوك، ثم
على الأم المشغولة هي الأخرى في هاتفها، وتصفُّح بعض صفحات الجمال وتبادل النكات
التافهة مع صديقاتها، ثم تسليط الضوء على الأبناء لنجد كلا منهم في ناحية إما على
هاتفه أو على الحاسوب ليشاهد بعض الفيديوهات على الإنترنت.
هذا المشهد
ليس مشهدا خاصا، وإنما هو مشهد عام لأية أسرة في هذا العصر الذي احتلت فيه الوسائل
التكنولوجية أعلى المنازل وأصبحت حياة كل فرد مقتصرة على هذه الهوامش التكنولوجية
التي لا تغني ولا تشبع بعضَ من تبقَّى لديهم نبض الإنسانية.
والسؤال الذي
يطرح نفسه: ما فائدة التكنولوجيا بالنسبة لكل فرد ومجتمع؟! لا يستطيع أي إنسان أن
ينكر فضل التكنولوجيا والتطور ومدى احتياجنا الشديد لها، وكذلك هي المقياس الذي
ندرك عن طريقه مدى تقدم كل مجتمع، ولكنَّ المشكلةَ الكُبرى في سلبيات هذه
التكنولوجيا وخاصة تلك الروابط التي اختلقها هذا التطور فيما يُسمَّى وسائل
التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك، والواتساب وتويتر وغيره مما يخترع من وسائل
للترابط والتواصل الاجتماعي بين الناس، ومن هذا الترابط ما هو حقيقي ومنه ما هو
مجرد معرفة سطحية بين بعض الناس الحقيقيين، ومنه ما هو مجرد معرفة بين أناس وهميين
يدَّعون شخصيات أخرى غير الحقيقة.
مشكلتنا
الآن أن هذه الوسائل برغم تعددها أصبحت تغني معظم الناس عن الترابط الحقيقي؛
فعندما اختُرع الهاتف كان تطورا جميلا ومميزا حيث تتواصل مع مَنْ يبعدون عنا من
خلال مجموعة أرقام نقوم بالاتصال بها ونسمع أصواتهم ونطمئن عليهم، وهذا شيء جيد
وربما كان الحياة كلها لدى البعض ممن ابتعد عنهم أبناؤهم وبناتهم بحكم عوامل كثيرة.
وقد يستخدم
البعض من هذه الوسائل على الإنترنت ما ييسرله الاتصال بالآخرين لنفس الأسباب،
مشكلتنا الآن في هذه الطريقة من التواصل أنه مجرد تواصل مصطنع من وراء الشاشات لا
يكفي في كثير من الأحيان لإشباع المشاعر الإنسانية.. فما فائدة أن تعجب بنشور فتضع
عليه علامة الإعجاب وانتهى الأمر أو يضحكك آخر فتضع علامة للحزن! فأين الإعجاب
الحقيقي والتعبير عنه في نفس الإنسان وأين الضحك الحقيقي بين الأصدقاء؟! وأين
الحزن العميق وأثره على الإنسان وموقفه تجاه من يحزن لأجله؟! إذا بحثنا عن كل ذلك
من مشاعر فلن تجد إلا نفوسا خاوية تتظاهر بهذه العلامات وحسب بلا أية مشاعر حقيقية
وربما تجد البعض غير صادق في انفعالاته..
خلق الله
لنا نفسا وقلبا وعينين "ولسانا وشفتين" خلق لنا ما يُعمِّق داخلنا
الشعور وتأثيراته العميقة التي لا يستطيع أي عنصر من عناصر التطور مهما بلغ من
الدقة أن يكون كفيلا بتوصيلها إلى الطرف الآخر.
أعزائي؛ إن
حياتنا قصيرة جدا، وإذا اقتصرنا على هذه الوسائل للترابط وحسب فإننا ندمر أنفسنا
من طبيعة الإنسانية، ونقتل أرواحنا، سنصبح كالإنسان الآلي الذي يحتاج إلى مجرد
أوامر وحسب وليست به أية عواطف ومشاعر!
ما أشد
احتياجنا إلى فطرتنا الإنسانية البديعة التي تحاول مستجدات الحياة أن تنتشلها منا
جزءًا بعد جزء.. هذا الإنسان الذي أبدع الخالق في تكوينه وقدرته أيما إبداع، وهو
بمنتهى البساطة يتنازل عن هذه الإنسانية التي مهما بلغ من تطور فإنه يدمر كل ما هو
جميل حوله..
انظروا
حولكم في الشوارع لتجدوا من لا يجدون اليد الحانية عليهم، انظروا في البيوت لتجدوا
- بلا مبالغة – الملايين من القصص المبكية، والمآسي المرعبة بين الناس، انظروا
لتجدوا من يقتل أباه أو أمه أو أخاه أو أخته أو أولاده أو زوجته يقتل أقرب من لديه
في الحياة لأجل شيء تافه يُدْعَى المادة مهما تعددت صورها. وما هذا التطور الحديث
إلا نوع من المادة التي تحاول جاهدة أن تنزع عنا أرواحنا لتدعنا مجرد أجساد مادية
بلا روح..
كم نحتاج
إلى أن نفرح سويا وجها لوجه، ونحزن يدا بيد، ونضحك ونحن نسير في مفترقات الطرق
وعلى شواطئ الحياة .. نحتاج وجودنا وكينونتنا وفطرتنا وجمالنا .. نحتاج الثائرين
على هذه القوالب المادية التي تريد أن تملكنا .. نحتاج أن نملكها نحن لنجعلها مجرد
وسيلة بسيطة لاستكمال التواصل، وليست هي فقط كل التواصل! فما أبدع تواصل القلوب
والأرواح والوجوه والابتسامات بين الأحباء والأصدقاء والأقارب! تمسكوا بمشاعركم
وأحاسيسكم المختلفة حتى لا تكونوا أرواحا جوفاء خاوية في عصر يُدْعَى عصر الإنترنت!
** أحبُّ
الاستماع إلى آرائكم قرائي الأعزاء على البريد الإلكتروني الخاص بي
وعلى صفحتي على
الفيس بوك بنفس العنوان :
a_ha3im@yahoo.com
0 comments:
إرسال تعليق