تخيل أنك تقدمت لمسابقة في التمثيل، وأن المخرج طلب منك أن تحمل في يديك مسدسي صوت لتطارد حفنة من الأشرار في الأزقة الضيقة، فرأيتها فرصة لتفريغ شحنات الكبت التي خلفتها في أعماقك سنوات البطالة والفراغ. فأدرت السلاحين في سبابتيك كآل باتشينو، وانطلقت في الشوارع الزلقة تطلق الرصاص ذات اليمين وذات الشمال. وتصهل كخيل جامح كلما صرخ فار، وتقفز فرحا كلما خر طريد. وبعد أن تنتهي مدة العرض، تضاء الأنوار فتكتشف أن الذخيرة التي كانت تئز من فوهتي مسدسيك كان حية، وأن الدم الساخن لا زال يتدفق عبر الفراغات الضيقة في الجثث الممددة في الشوارع والأزقة.
يعبث المخرج في جيبه، ويمد يده بحفنة دولارات كنت في أشد الحاجة إليها وأنت في الطريق إلى موقع التصوير. تدس الدولارات في جيبك وتعود منكس الرأس من حيث أتيت، وقد تخليت تماما عن فكرة التمثيل لأنك ببساطة لم تعد في حاجة إليه. تدور عيناك في الجثث الملقاة على الجانبين، فتجد بعضها يرتدي زي الأعداء، بينما يحمل البعض الآخر قسمات وجهك وبعضا من جيناتك. تكتشف أنها مؤامرة، وأنه قد تم اختيارك بعناية لتكون أول الخارجين من حلبة المواطنة.
تعتقد أنني أثري خيالك الخصب لاقتيادك إلى حيث أريد من افتراضات جامحة. ليس الأمر كذلك أبدا عزيزي القارئ. لكنني أردت أن أعفيك من دور المشاهد كثير التثاؤب، وأن أضعك فوق حلبة الأحداث لترى بأم عينيك ما يفعله قادة (أو قوادو) العالم التعس فوق رقعة شطرنج الحياة من ممارسات قذرة بحق شعوب وأمم لم تطمح إلا لعيش كريم وحرية مسئولة وكرامة إنسانية. تريد أن تعرف أكثر؟ ليكن.
يمكنك أيها الفقير المسكين أن تمتلك قصرا في المالديف في غضون عام واحد دون أن تضطر للوقوف أمام موظفي السفارات خافض الجبين للحصول على تأشيرة تقترض ثمنها من صديق أو تبيع لأجلها مصاغ زوجتك. يمكنك أن تتقاضى راتبا شهريا يتجاوز العشرة آلاف دولار لتتزوج بفتاة الأحلام وتشتري رقعة الأرض الملاصقة لبيتك دون أن تضطر لركوب الأمواج فوق سفن آيلة للغوص في أعماق المحيطات البعيدة. فقط عليك أن تمتلك شهادة تأدية خدمة عسكرية التي تضمن أنك تستطيع التصويب نحو أي هدف وإن كان يحمل تفاصيل حزنك ولون بشرتك.
يمكنك أن تصبح أثرى من كل رجال جيشك وأن تمتلك سطوة حاكم وسلطان أمير، شريطة أن لا تهتز يدك وأنت تصوب حيث تريد أيشركة اتفقت على شراء ما تبقى لك من أيام فوق صفيح هذا العالم الملتهب.
لا تنزعج عزيزي القارئ إن صنفت الأمم المتحدة هذا العمل على أنه غير أخلاقي لأن الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا وإنجلترا لم توافق على إدانة الارتزاق أو الشركات التي تنظم البلطجة الدولية. فجيش أمريكا الذي دخل العراق كان نصفه تقريبا من المرتزقة، وأكثر من ستين بالمئة من السفاحين فوق الأراضي السورية يحملون الأسلحة مقابل مبالغ طائلة يضعونها في حساب ذويهم شهريا. أما بخصوص اللغة، فلا تنزعج، فلغتك العربية مطلوبة للغاية لأن أكثر العاملين هناك من شراذم أمة كانت خير أمة حتى عهد قريب.
حتى الحرب العالمية الثانية كانت تعتمد على فرق من المرتزقة، وكذلك كانت الهاجناة التي احتلت أرضك ومقدساتك ذات عجز. حتى العصور الوسطى والحملات الصليبية لم تخل من المرتزقة الذين كانوا يوجهون الرصاص نحو أي صدر مقابل المال وبمباركة البابا. الأمر ببساطة يتطلب منك أن تنبتّ عن إنسانيتك وعرقك ودينك وأرضك، وأن تكون مجرد إصبع على الزناد. اطمئن .. لن تذهب بعيدا. فكل حروب الكون تدور فوق أراض عربية، أو بأصابع عربية، وكثير من المرتزقة يتحدثون بلغة الضاد.
ليس في الأمر شبهة تمثيل، ولا شرك خديعة. سيسيل المال بين يديك على قدر همجيتك، وكلما سال الدم من فوهة سلاحك، صرت أقرب من السمسار الذي ستوقع له على صك ببيع روحك، كما فعل دكتور فاوستس الذي باع روحه للشيطان تماما.
سبق وقلت لك أنني لن أدعوك إلى شطحة خيال أيها الصديق القارئ. فالأمر ليس خيالا البتة، إنما هو حقيقة مؤلمة لخصتها الملائكة ذات دهشة حين سألت ربها: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟" نعم، صار الواقع أشد رعبا من أي كابوس، وسبقت الوقائع في سخفها هذيان محموم. المدهش أن بعض الدول العربية قد شرعت في اللجوء إلى تلك العصابات وتوظيفها في بلاد عربية بغية تحقيق أهداف تعجز عن تحقيقها جيوشها النظامية الهزيلة. لا تتعجب أيها القارئ الطيب ولا تشح بوجهك بعيدا، فهذا واقعنا البئيس ينذر بكارثة وشيكة أعلم أنها يقينا لن تبقي ولن تذر.
**كاتب المقال
أديب وكاتب مصرى
مدير تحرير"الزمان المصرى"
Shaer129@me.com
0 comments:
إرسال تعليق