في خضم كل المتناقضات التي مرّت على الشعب العراقي طيلة السنوات الماضية ، فانه مازال صامداً صابراً محتسباً أجره عند الله لعل الفرج ياتي في ساعة الغفلة.
كانت الأماني بخلاصه من قبضة جلاّديه ، واذا به يرزح تحت جلادين من نوع آخر ؛ لا همَّ لهم الاّ مصالحهم ، والثروة باية وسيلة وأسلوب .
اندفع الشعب وضحى ، وانتخب ، وتحسّر وندم على اختيار من كان يعتقد انهم أهل الثقة والتقوى ، وإذا بهم أذناب للشيطان ، وحتى الشيطان بات يستحي مما يصنعون .
ففي كل ازمة سياسية او امنية ترى الحقائب حُملت وابواب المطارات تضج بقدوم المسؤولين المغادرين فوراً خارج الحدود ؛ لئلا تطالهم يد الغضب ، وتقتص منهم بلا رحمة ؛ لكن هذه اليد طالما تم تخديرها بمسكّنات شتى ، فنراها تقع تحت تخدير مقدس في أحيان كثيرة ، وتحت تخديرات واهية أخرى ليس آخرها الوعود الكاذبة من الحكومة ، وأياديها الخفية ، وجيوشها الالكترونية .
قيل لرئيس الحكومة : اضرب بيد من حديد ؛ فاذا بها تتحول ورقة من الكارتون المهلهل ، يتمزق مع اول ريح ، ويذوب في قطرة ماء صغيرة . طلبَ مائة يوم للاصلاح ، فاصبحت أعواماً بلا اصلاح !
في كل دورة جديدة لتظاهرات عارمة تطلق آلاف الوظائف ، وتُسنّ أسرع قوانين الخدمات ، لكنها سرعان ما تنتهي .
كان البعض يتصور ان ارتفاع درجة الحرارة، وانقطاع الكهرباء هي سبب الشرارة التي قد تحرق كل شيء لاسمح الله ؛ لكنه واهم أبعد حدٍّ للوهم ؛ فالشتاء ايضاً شهد تظاهرات شتى .
الشعب يريد الحرية ، والحكومة لا يوجد في قاموسها معنىً للحرية . الشعب يريد ان يرى وجهه جميلاً مكرّماً في مرآة الحياة ، والحكومة دائماً تسعى لتكسير كل المرايا أينما وجدت . الشعب يقول : إرحموا من في الارض يرحمكم من في السماء ، والحكومة تنكّرت لقيم الارض قبل السماء !
الملفت للنظر ان رئيس الحكومة واغلب الحاكمين معه ينحدرون ، وينتمون لتيارات واحزاب دينية ، والدين لا يريد للانسان الاّ العزة والكرامة ، والحياة السعيدة ، ولا يسعى الاّ للعدل ؛ لكنّ بعضهم
( تديّنوا ) من أجل الهوى واللذة والقصور الفاخرة ، والصباح المليء بـ ( الحليب وجبنة لافاش كيري والبقرة الضاحكة ) وأرقى انواع عسل الشمال ، او العسل الاوربي الشهير ، امّا موائد غداءهم وعشاءهم فلا تخلو من ارقى انواع الزيتون الاسباني او المغربي على حدٍّ سواء . تفوح من مكاتبهم اعطر روائح الازهار والورود الأوربية ( الفريش ) ومن ملابسهم وبدلاتهم أفخر اريج فرنسي من اشهر الماركات والمحلات .
هكذا هم يريدون ، والشعب نسي كل حقوقه وابقى على شيء بسيط هو واجب على الحكومة ( توفير الكهرباء) التي طالما اُعطيت الوعود الرنانة من اجلها، ووقعت العقود وصرفت مليارات الدولارات عليها التي لو بنيت منها مدن لسدّت الحاجة بسكن لائق لهذا الشعب المسكين الذي حُرم حتى من احلام اليقظة .
طيلة اربع سنوات كانت مختفية الدرجات الوظيفية الاّ لِـ
( ليلى وصويحباتها ) وحين يتغزّل بها قيس يقال له : منعنا صندوق النقد الدولي منها لغاية عام ٢٠٢٢.
أفرغ العراق من عقول نيّرة ، ودثرت افكار خلاّقة ليبقى الشعب يعيش في ( فوضى خلاقة ) مع سلطة متحكّمة وليست حاكمة ، تعرف من السياسة فقط (انفعني وانفعك) ومن الاقتصاد ( سعيد من ملأ جيوبه ) ومن الحياة تعرف فقط ( فاز باللذات من كان جسوراً ) ومع المجتمع تتبع قول الله تعالى وتطبقه بحذافيره (( متّعوا انفسكم حلالاً طيباً )) ..
والمضحك الآن أن كثيراً من الحاكمين يحملون الجنسية البريطانية ، وكثير من الخبرات الفنية والعلمية من العراقيين في بريطانيا ؛ لكننا لم نجد متجنّساً واحداً من الحاكمين قدم خدمة للعراق وإن كانت بحجم ثقب إبرة . فرحوا بتحرير الارض من داعش ونسوا ان المحرر هو الشعب ، والمضحي هو الشعب ، والدماء التي سالت هي دماء الشعب ، واصبح المتظاهر مخربّاً ، والفاسد مجني عليه يستحق ان تُذرف من اجله الدموع !
كلُّ إمكانيات الحلول متوفرة لو أريد لها ان تكون ، لكنّها لن تكون في ظلّ تكالب سلطوي مقيت ، ومحاصصة محببة وهي معشوقة الحاكمين .
فخصماء الإعلام اصدقاء تحت سقف ارقى المطاعم ؛ سواء في الداخل أو في الصالات العربية والغربية ، ولا يحلو لهم شرب العصير – إن كان عصيراً – الاّ في حمامات السباحة المظلّلة بـ ( اللحوم البيضاء ) من كل مكان !
امّا الشعب فلقد تعوّد على السباحة في البُرَك والسواقي والأنهر ليطفئ حرَّ الصيف ، ويرفّه عن نفسه بعض الشيء ساعات من يومه المتعب المليء بقذى السياسيين المترفين ، واليوم جفت الانهر واخواتها ، وماتت السواقي وبناتها ، وتيبّست اشجار الصفصاف والتوت ، ولم تبقَ الاّ بعض سيقانها العارية كراقصة في ملهى ليلي افريقي ؛ وربما تمنّى البعض ان يكون نادلاً هناك إن كانت كرامته مصانة ، وعيشه رغيد رغم إزعاج طلبات المدمنين والسكارى ، فلقد اُسكر الشعب بالمكر والخديعة بلا مسكرٍ من كحول أو حشيشة ، وتمنى لو انه لا يملك من ولادته أصبعاً يسمّى سبابة ، الذي تسبب بجرِّ الويلات عليه مع ارقام خاصة وكأنّها اختيرت من صالة روليت فخمة في ( لاس فيغاس) مدينة القمار والعاهرات المحفوظة كرامتهن ايضاً ، والمستورة عوراتهن مهما بلغن من الخلاعة والانتقال بين احضان المقامرين .
الشعب يبحث عن حضن آمن يأويه بدأً من أرقى الأماكن وأطهرها نزولاً الى الرصيف ؛ فلم نجد مع سياسيي اليوم الاّ حقن الموت البطيء الممتلئة بسمومٍ شتى ، وهو لا يريد الموت رغم كل طعنات أعدائه ، ولدغات افاعي الشرّ له .
شعبٌ يحب الحياة ويضحي من أجلها ، لكنه الى الآن لم يعرف طعمها ولونها ورائحتها ؛ عرف لون الدخان، وطعم الموت ، ورائحة الفاسدين ، وكلما حاول ان يتطهّر منهم ، أو يدني إناء الطهور لهم اتهموه بالتخريب ونسوا أنهم المخرب الأول .
والخائن بلا ضمير الذي شاهدَ النساء تباع في سوق النخاسة بعشرة دولارات وهو يُسكِن اهله ونساءه في بروج مشيدة محصّنة ؛ لا تهمه الاعراف بقدر ما يهمه ان يكون مليارديراً ذائع الصيت ، ونسي انه في يوم ما كان يبحث في سوق الملابس المستعملة
( اللنگات ) عن سترة له او قميص مستعمل لبسه قبله اجنبي يعُدّه مناقضاً له في ايديولوجيته وعقيدته الصّماء .
قبل ايامٍ قلائل وصف نائب سابق رئيس الحكومة بالخائن الجبان عِبرَ فضائية الفرات ، وحين ساله مقدم البرنامج عن ذلك اجابه :
" اين كانت العشرة آلآف درجة وظيفية قبل ان يتظاهر ابناء البصرة ؟ إن كانت موضوعة في درج مكتبه ولم يظهرها الاّ الآن فهو خائن ؛ امّا جبنه فلانه رئيس الحكومة ولم يستطع محاسبة اي فاسد ، وطالما ردد كسابقه انه يمتلك الأدلة والوثائق والملفات على المفسدين ولم نرَ ايّ فاسدٍ تم محاكمته ! "
هناك المئات من الارهابيين المصادق على احكام إعدامهم مازالوا يرتعون بالهواء والماء البارد ، واطيب انواع الأطعمة تقدم لهم في السجون ، والشعب يتضور جوعاً ، وألماً من حرقة الحر وملوحة الماء وتفشّي الامراض . الشعب لم يعرف الى الآن غير سلطة متسلطة عليه باسم الدستور والديمقراطية ؛ إنتهَكَت كل حرماته واستولت على كل حقوقه وجيّرتها لصالحها ؛ الحق اصبح أمنية، والباطل تسيّد المشهد .
ومشكلة اخرى ؛ هي الخطر بذاته ؛ حين يكون هناك من تستشيرهم الحكومة لوضع علاجات للازمات ، ويزيد هؤلاء من شدتها بلاءً ونقمة كي تبقى يد الفساد هي العليا ، ويد الشعب هي السفلى .
منهم من يُسمّى خبير نفطي ، ومنهم كهربائي ، وآخر اختصاصه القانون ، وهم الى الجهل اقرب ، وعن اهل العلم والخبرة أبعد . فحين يضع مثل هؤلاء الأسس الأولى للقوانين والتشريعات والارشادات وتفسيرها كناصحين ، لابد ان ينقلب المعروف الى منكر ويتحول المفيد الى مأساة تبقى تتكرر كلّ يوم كما هو حال الشعب الآن .
سبق وان تظاهر الشعب في كل مكان وقدّم مقترحاته ومطالبه للحكومة ، ولم ينجز منها شيء وازداد السوء سوءً ، والمريض ابتلاءً .
والذي يحصل اليوم كما في الامس ؛ من هناك تسللت داعش وضاع نصف البلد ، ومن هنا سيتسلل المغرضون وكل عملاء المنطقة ويحيلوا الغضب الجماهيري الى موجة عنف واضطرابات إن لم تعالج الحكومة مطالب الشعب بجدية وقناعة وحكمة ؛ لان الفرصة بيد الحكومة الآن ، فلا مجلس نواب يعترض ولا محاصصة تملي شروطها ، ولإثبات حسن النية يجب اتخاذ القرار السريع وتنفيذه بشكل اسرع .
لابد من مصداقية فعالة تعود بثقة الشعب الى حكومته ، وكما صرّح وزير الداخلية : لقد وصلت رسالة الشعب المتظاهر والبقية على الحكومة .
إنْ تلبّي الحكومة مطالب الشعب بهذه السرعة وهي مقبلة على تشكيل جديد فستعيد كثيراً من الحق الى نصابه واصحابه ، وتنطلق المسيرة نحو الافضل وبشكل سلمي ، أمّا لو كانت كلها تسويفات – وهذا ما يُخشى منه – فان الحالة لا تحمد عقباها ابداً ، طال الزمن او قصر ..
0 comments:
إرسال تعليق