لا ريب أن علاقة التشريع بالتنمية علاقة وطيدة، فلا تشريع بلا تنمية، ولا تنمية إلا بتشريع ينظمها ويؤطرها، ويعد من متطلباتها الأساسية، ويكفل لها تحقيقها، ويذلل لها الصعاب، ويفرض الردع على المخالفين لطريقها، ويراعي الأسس التي تُبْنَى عليها من عدل، ومساواة، وشفافية، إذ يعد التشريع من الأدوات الجوهرية والهامة لتحقيق التنمية، بل هو الأساس الذي تبنى عليه التنمية والعمود الذي لا تقوى على الوقوف دونه.
إن التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتوالية تخلف حتما أعباء جساما على الدول من جوانب مختلفة يلزم أن تكون الدولة مواكبة لها ومتطورة بتطورها، فتلجأ إلى التماس الحلول الناجعة لمجابهة تلك التطورات والمستجدات بما يجلب لها منافعها ويدفع عنها مضارها، وقد يكون المجال التشريعي الملاذ الأمثل لتحقيق ذلك؛ ذلك أنه مما لا ريب فيه أن للتشريع دورًا فعالًا في تحقيق التنمية اقتصادية كانت أم اجتماعية،
فالتشريع وسيلة ضرورية وهامة من الوسائل المتعددة لتحقيق التنمية بشتى ضروبها بوصفه أهم وسائل الضبط الاجتماعي والإصلاح الاقتصادي التي تتكفل بحماية مصالح المجتمع الأساسية سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية لإحداث التوازن المنشود بين المصالح العامة والخاصة بما يضمن سلامة المجتمع وتحقيق أمنه واستقراره، وكفالة تطوره المستمر، ونقطة البدء في ذلك أن لكل دولة أهداف وسياسات معينة ترنو إلى تحقيقها،
وتتولى الدولة تنفيذ سياساتها عن طريق ما تسنه من قوانين أو تشريعات جديدة، أو تعّدل من التشريعات القائمة لتواكب تلك التطورات الاجتماعية والاقتصادية.
وإنه لمن نافلة القول؛ وعلى الأخص في عصر الثورة العلمية والتكنولوجية والتطور الاقتصادي والاجتماعي المتسارع أن يواكب التشريع مستجدات التنمية ومتطلبات العصر كي يستوعب مفاهيم وعناصر وأبعاد تلك المستجدات باعتبار أن التشريع انعكاس لواقع المجتمع، وأن ما يصلح في زمن قد لا يصلح لزمن آخر،
حيث أن التشريع ومرونته وسرعة تعديله إنما يعكس حيوية الدولة ومرونة تعديل تشريعاتها بما يواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، وأن عدم مجابهة التشريع وعدم مسايرته للتطورات التي تحدث في الدولة اقتصاديًا واجتماعيًا إنما يخلق فجوة عميقة بين نصوص التشريع القائم والواقع العملي الذي تعيشه الدولة الأمر الذي يعد بلا ريب إحدى عيوب التشريع.
كما يجدر التنويه إلى أن دور التشريع الهام في تحقيق التنمية لا يعني أن هناك قالب ثابت للتشريع وتحقيقه للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، حيث أن التشريع يجب أن يراعي في تحقيقه للتنمية الاجتماعية والاقتصادية الظروف المحلية التي تمر بها الدولة والواقع اليومي الذي تعيشه، فلا يصلح اقتباس التشريعات المقارنة التي قد تنجح في دولة محددة ولا تنجح في حال تطبيقها على دولة أخرى لاختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية في كلتا الدولتين.
كما أن ينبغي الاخذ بعين الاعتبار عند استخدام التشريع لتحقيق أهداف التنمية الاجتماعية أن يتم ذلك من بعد دراسة متأنية لواقع المجتمع والظروف الاجتماعية السائدة فيه والقيم و العادات والتقاليد المترسخة، بحيث يكون التشريع مصلحًا لبعض الممارسات الاجتماعية السائدة، وحافظًا على القيم و المبادئ المترسخة في المجتمع، حتى لا يحدث تصادم بين التشريع والظروف الاجتماعية السائدة، حيث أن الواقع العملي في كثير من الحالات يثبت ميول الأفراد على التمسك بالقيم والمبادئ المترسخة وإن كانت تتعارض مع تشريعات صدرت مؤخرًا الأمر الذي يلقي على عاتق القائمين على التشريع استعانتهم في الجوانب الموضوعية للتشريعات الاجتماعية بالمختصين في المجالات الاجتماعية سواء كان ذلك من خلال الجهات الحكومية المختصة أو من قبل منظمات المجتمع المدني والأفراد.
وسيرًا على ذات النسق، فإن التشريع باعتباره من أهم وسائل تحقيق التنمية الاقتصادية ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار المبادئ الاقتصادية التي تبنتها الدولة في دستورها أو نظامها الأساسي، علاوة على دراسة واقع الدولة من الناحية الاقتصادية وإمكانياتها المادية والبشرية التي تعد حجر الأساس للتنمية الاقتصادية والتي يتعين على التشريع مراعاتها وعدم الانجراف وراء بعض التجارب الناجحة لبعض الدول المتقدمة اقتصاديًا،
فتجد الدولة نفسها أمام تشريعات عاجزة عن توفير الامكانات المادية والبشرية لتطبيقها على أرض الواقع، حيث أن عدد كبير من التشريعات يكون متطورًا بشكل سابق على تطور المجتمع وإمكانياته المادية والبشرية مما يجعل الجهات القائمة على تنفيذه عاجزة عن تطبيقه على أرض الواقع لعدم توافر المقومات المادية والبشرية لتطبيقه.
كما أنه ينبغي لتحقيق التشريع لأهدافه في تحقيق التنمية بشتى أنواعها وصورها، أن يستتبع التشريع بعد سنه ووضعه موضع التطبيق وجود إرادة سياسية حقيقية على تطبيقه على أرض الواقع وإنفاذ أحكامه بما يتوافق مع الأهداف المتوخاة منه،
حيث يظل التشريع في كثير من الأحيان قائم من الناحية القانونية في المجتمع دون أن يمتد أثره على الواقع العملي، لعدم وجود إرادة ورغبة من قبل الجهات القائمة على تنفيذه على تطبيقه، الأمر الذي يدعو في كثير من الأحيان للقول بأن التشريع في عدد من الدول بعيد عن الواقع العملي المرير الذي تعاني منه وترزح تحت وطأته.
ومما تجدر الإشارة إليه -في هذا الصدد-أنه ينبغي عند إجراء التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية مراعاة قواعد المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع، وتنظيم ذلك بموجب نصوص آمرة في التشريعات المصاحبة للتنمية صونا للحقوق واستتبابا للأمن،
وإزالة جميع العوائق المؤسسية من طريق التنمية، وصولا إلى تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، حتى لا تقتصر التنمية على أفراد من المجتمع دون الآخرين أو على مناطق محددة دون الأخرى، إذ أن في ذلك انحراف في تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي ينبغي أن تبنى على قواعد المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أنه ولئن كان للتشريع دور لا يمكن إنكاره في المساهمة في تحقيق التنمية بكافة ضروبها، إلا أنه ليس كل شيء؛ إذ لا يعمل به في معزل عن الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية، فلا بد أن تتضافر هذه الظروف مجتمعة لكي يتسنى العمل بأحكام التشريع، وتتحقق الأهداف التي من أجلها تم إصداره، وإلا أصبح التشريع معطلا غير منفذ.
وفي السياق ذاته فلا يكفي أن يكون في الدولة نظام قانوني شامل ومحكم من أجل تحقيق تنمية مستدامة، بل يجب أن يكون هناك تنفيذ أمين لأحكام القانون وقضاء عادلا يجب أن تتسم إجراءاته بالسرعة ومنظومته بالتطوير، وبالأخص ولوجه النظام الإلكتروني في كافة مراحل الدعوى وتأهيل كوادره، والنظر في شروط ومعايير الالتحاق بالقضاء، وخضوع القاضي لنظام تفتيش صارم، وأخذه بنهج القضاء المتخصص، بما من شأنه تحقيق عدالة منجزة وبما يحفظ للدولة والقضاء - على حد سواء - الهيبة والإذعان، حيث أن من أهم مقومات التنمية الاجتماعية والاقتصادية في أي مجتمع وجود نظام قضائي يؤدي إلى الحفاظ على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية
ويؤدي إلى شيوع الأمن والاستقرار لدى المواطنين والأفراد المقيمين والمستثمرين في حفظ حقوقهم وعدم التعدي على حرياتهم، وبخلاف ذلك فإن أي قصور في المنظومة القضائية من الناحية التشريعية أو الواقعية من شأنها إهدار جميع التشريعات المتطورة التي تهدف للنهوض بالمجتمع وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
فقد ظهرت محاكم متخصصة في نظر القضايا التي ترتبط وتمس بالاقتصاد الوطني وقطاعاته بعيداً عن اللجان شبه القضائية ليكون لها أحكام قضائية ذات قوى كما هو الحال للسلطات الممنوحة للمحاكم بجميع أنواعها وتنظر كل قضية من قبل خبراء في المجالات القضائية والاقتصادية والقانونية والشرعية حيث يكون لها كافة الصلاحية في إيقاع كافة العقوبات والجزاءات المالية والجنائية المترتبة على الجرائم الاقتصادية دون الحاجة للنقل الدعاوى من اللجان شبه القضائية الى المحاكم الاقتصادية
**كاتب المقال
دكتور القانون العام
عضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
مستشار وعضو مجلس الإدارة بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا
مستشار الهيئة العليا للشؤون القانونية والاقتصادية بالاتحاد الدولي لشباب الأزهر والصوفية
مستشار تحكيم دولي محكم دولي معتمد خبير في جرائم امن المعلومات
نائب رئيس لجنة تقصي الحقائق بالمركز المصري الدولي لحقوق الانسان والتنمية
نائب رئيس لجنة حقوق الانسان بالأمم المتحدة سابقا
عضو استشاري بالمركز الأعلى للتدريب واعداد القادة
عضو منظمة التجارة الأوروبية
عضو لجنة مكافحة الفساد بالمجلس الأعلى لحقوق الانسان
محاضر دولي في حقوق الانسان
0 comments:
إرسال تعليق