عبد الله أبو الجبين، ياسر زنون، عبد الدايم أبو لبدة، وحسين الزبدة، فرسانٌ أربعة، أقمارُ غزة العزة، رجالُ القسام المغاوير، وأسود الوغى الصناديد، وقادة الميدان الروادُ، وأبطالُ الحرب الشجعان، المقاومون الأشاوس، السادة الأماجد، الشُمُ الشُمْسُ الأوائل، عناوين الصبر وبوابات الفرج، نبتَ في صدورهم الأمل، وأزهرَ في قلوبهم الوعد، وبرقَ في عيونهم سنا المجد، وعلت فوق رؤوسهم راياتُ المجد وبيارق النصر، وهدم اليقينُ في صدورهم جدرانَ الزنازين، وكسر إيمانُهم بالغد قيودهم، ورفع من أيديهم الأصفاد وأبعد عن أرجلهم الأغلال، فغدت رؤوسهم فوق الأسوار عالية، وآنافهم عزيزة أَنِفَة، ونفوسهم نحو العلياء شامخةً، يعمرها الإيمان ويسكنها الوعد، ويحذوها نبي الله يوسفُ، الواثق في ربه أن بعد السجن حرية، تتلوها كرامةٌ ورفعةٌ وعزةٌ وسلطة.
فوارسٌ على ظهورِ المجدِ وسروجِ العزة إلى غزة عادوا، بعد سنواتٍ عجافٍ من الاختطاف المرير والغياب الموجع، الذي ترك آثاره على وجوههم أسىً وفي قلوبهم حسرةً، وعلى أجسادهم وجعاً وألماً، فما استطاعت الحرية التي كانوا يحلمون بها أن تخفي معالمها، ولا العودة التي كانوا يتمنونها أن تشطب آثارها، فهي في القلوب غائرة وفي الأجساد باقية، وظلالها في العيون الحائرة ساكنة، فأربعٌ سنواتٍ من التغييب الغريب والمعاناة المستمرة قادرة على أن تترك آثاراً لا تزول، وجروحاً لا تدمل، وأسىً لا ينسى، خاصةً أنهم غابوا بينما كانوا في زهوة السفر وفرحة العبور، بعد طول إغلاقٍ وأسبقية دورٍ، ولكنهم فجأةً في قعر بئرٍ عميقٍ وجدوا أنفسهم، فلا فوهةً له يرون، ولا أملاً بالخروج منه يرجون، ولا حياةً بعده يأملون، إذ لا يعرف بهم أحد، ولا يشهد على مصيرهم مسافرٌ أو عابرٌ، وقد سحبوا بغلظةٍ، وعوملوا بقسوةٍ، واقتادهم مسلحون إلى حيث لا يعلمون.
غيابهم كان مؤلماً، واختطافهم كان موجعاً، وما تعرضوا له كان مرعباً، وما أصاب أهلهم من بعدهم كان محزناً، وقد ألقت حادثة اختطافهم على الوطن صمتاً ران، وحيرةً طالت، وحزناً سكن، رغم أن الفلسطينيين قد اعتادوا الأسر وخبروا الغياب، وذاقوا مرارة السجن وقسوة السجان، وتحملوا سنوات السجن وصبروا على المؤبد ومدى الحياة، وما منعهم الاعتقال عن مواصلة الطريق واستكمال المشوار، وكان المعتقلون دوماً وأهلهم يؤمنون أن السجن لن يبنى عليهم، وأنهم لن يموتوا في الأسر، وأن حريتهم ستتحقق وقيودهم ستتحطم، وعدوهم رغماً عنه سيفرج عنهم، وسيفتح الأبواب الموصدة لهم، وعدوهم أكثر من يعلم أن السجن لا يخيفهم، والأسر لا يوجعهم، وأنهم لن يتوبوا عن المقاومة، ولن يمتنعوا عن النضال خشيةً من السجن أو خوفاً من العقاب.
إلا أن حال الأربعة المختطفين يختلف، وقضيتهم لا تشبه الاعتقال ولا تتماثل مع الأسر، إذ لم يكن غيابهم كأي غيابٍ آخر، فهم قد غابوا في أرضٍ عزيزةٍ، وتلاشت آثارهم في بلادٍ شقيقةٍ، ولم يعترف باعتقالهم أحد، ولم يقر بوجودهم جهاز، حتى حارت حماس التي إليها انتموا، وابيضت عيون أهلهم وأسرهم التي عنها فصلوا ومنها نزعوا، وغدا البحث عنهم مستحيلاً والسؤال عنهم غريباً، إذ لا يقر باعتقالهم أحد، ولم تعلن جهاتٌ متطرفة أو تنظيماتٌ متشددة مسؤوليتها عن اختطافهم أو معرفتها بهم، رغم حقد هذه المجموعات على حماس، ورغبتها في الانتقام منها والاعتداء عليها.
رغم التعتيم والغموض، والإنكار والنفي، إلا أن أحداً من الفلسطينيين لم يتخلَ عنهم، وبقي الأمل في العثور عليهم واستعادتهم كبيراً، حتى قدر الله سبباً به عُرفَ مكانُهم، وتحددت الجهة التي تحتجزهم، فتنفس الفلسطينيون وحماس الصعداء، وأدركوا أنها مسألة وقتٍ ليس إلا، أو ظرفٌ سياسي فيه تتحسن العلاقات وتتوثق الروابط وتتحسن النوايا، حينها سيعود المغيبون وستنتهي محنة اختطافهم، وهو الأمر الذي كان بعد ذلك، إذ وعدت مصر مراراً بالإفراج عنهم، وإعادتهم إلى بيوتهم وأسرهم، وقد أوفت بوعدها ولو كان ذلك بعد لأيٍ وحينٍ، وما كان الفلسطينيون يستطيعون عمل شئٍ غير الصبر الذي أتقنوه وبرعوا فيه.
فرحة الفلسطينيين بالإفراج عن المختطفين الأربعة من المعتقلات المصرية تضاهي فرحتهم بصفقة وفاء الأحرار، بل تفوق فرحتهم بتحرير أبنائهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال الجماهير الغفيرة التي خرجت لاستقبالهم، واجتمعت في المساجد لتحتفل بهم، والمسيرات الشعبية العفوية التي جابت المخيمات ومناطق القطاع المختلفة، ولعل صفحات الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي تشهد على أجواء العيد والفرحة التي سادت أنحاء قطاع غزة، وحجم الصور التي تبادلها الناس وحرصوا على مشاهدتها والتركيز فيها، ولعلهم بعودتهم إلى القطاع قد أدخلوا الفرحة إلى كل بيت، ورسموا البسمة على كل الشفاه، وأعادوا الأمل إلى كل القلوب التي أصابها اليأس من عودتهم سالمين معافين إلى بيوتهم وأسرهم.
احتفاءً بالعائدين وفرحةً بعودتهم سالمين كانت غزة كلها بانتظارهم، وأهلها جميعاً في استقبالهم، ازدانت بهم الشوارع وغصت بهم قاعة الوصول، وارتفعت الرايات وانتشرت الصور والرسوم، وكثرت عبارات التهنئة وكلمات الترحيب، وتنافست وسائل الإعلام وتزاحمت الكاميرات ووسائل التسجيل والتصوير، وأقبل سكان القطاع جميعاً بحبٍ ووفاءٍ، وشوقٍ وحنينٍ، فكانوا في استقبال العائدين مشارب شتى، فصائل وأحزاباً، وقوى وشخصياتٍ، إلا أنهم كانوا جميعاً صفاً واحداً، رجالاً ونساءً بالأسود والأحمر والأصفر والأخضر اصطفوا لاستقبالهم، ومقاتلين حملوا السلاح تحيةً لهم، وأمهاتٍ أتين يزغردن لهم، وأخواتٍ على استحياء جئن وفاءً لهم، وأطفالاً فرحين لفرح آبائهم وسعداء للبسمة التي تعلو الوجوه، والضحكة التي تجلجل وتملأ الأشداق والعيون.
رغم فداحة الوجع، ومرارة ما وقع، واستنكار ما حدث، إلا أن أهل غزة جميعاً وفي المقدمة منهم قادة وكوادر حركة حماس، قد التزموا الصمت، وآثروا الصبر والانتظار، وفضلوا الحوار والمفاوضات، والطلب والسؤال، فلم يضجوا في مواقفهم، ولم يخرجوا عن طورهم بتصريحاتهم، ولم يفقدوا الحكمة في تصرفاتهم وطريقة تعبيرهم، وحافظوا على قنوات اتصالهم بأشقائهم المصريين، مبدين لهم الاحترام والتقدير، إذ أن مصر تبقى عند الفلسطينيين جميعاً مصر العظيمة، التي لا يجوز المس بها أو العبث بأمنها، بل يجب الحفاظ عليها والوفاء لها والصدق معها، فهنيئاً للمختطفين حريتهم، ومباركةٌ عودتهم، ومرحى بهم بيننا، وسلامٌ من الله عليهم، وأثابهم على ما أصابهم خيراً وعوضهم فضلاً، ولا أرانا الله في أبنائنا من بعدهم مكروهاً، وجزى الله من سعى في حريتهم خير الجزاء.
بيروت في 3/3/2019
0 comments:
إرسال تعليق