حدَّثني صديقي الأجنبي متسائلا: كيف حال المستشفيات عندكم؟ وبكل انتماء وصدق وصراحة ووضوح حدثته عن المستشفيات عندنا، وحالـتها التي أعـجـز عن وصـف مـا بـهـا مِـن تقدُّم، عزيزي "جون": إنَّ المستشفيات المصرية هي خير ما يمثِّلُ هذا الوطن، هي أفـضـل وسـائل الـراحة، لا تـردُّ مريضًا قط إلا بعد علاجه، توفِّرُ له كلَّ سُبُلَ الراحةِ، بها أطباء على أعلى مـسـتـوى، ولأنَّ الـدولةَ قد أراحتهم ماديا، فهم يشعرون بقيمة الانتماء لهذا الوطن، ويشعرون كذلك بمدى الواجب الكـبـير المُلقى على عاتقهم، فكل دقيقة يعرفون جيدا كم هي غالية في تقدُّم وشفاء كلِّ مريضٍ مصريٍّ، وكل مريض
له غرفة مستقلة، وإن لم يجد المريض الثمن الكافي للعلاج فعلاجه على نفقة الدولة دون أية إجراءات متخلفة ومعقدة تجعله يكره نفسه ويفقد انتماءه الكبير لمصر! عن أي شيء أحدثكَ يا عزيزي؟!
وكان جون ينصت إليَّ وأنا أجيبه، ويعقد مقارنة بين مستوى الخدمة الجيدة في مصر، ومستوى الخدمة الرديئة التي تُقَدَّمُ لديهم في بلاده.. وهذا بالطبع لا يُقَارَن؛ فبلادنا في قـمـة ازدهارها، وبعدما ارتسمت على شفتيه علاماتُ التحسُّرِ عاد يسألني عن مستوى العلاج المُقَدَّم حيث يُقدَّم في بلاده نفس العلاج تقريبا لكل الحالات، فضحكتُ ضحكة ساخرة ومشفقة على حاله في نفس الوقت، وأنا أصف
له أنَّ العلاج لدينا يجده المريض بمجرد احـتـياجـه إليه، وأهل المريض يجلسون مرتاحي البال فقط يقومون بالدعاء إلى الله لعله يشفي مريضهم..
إنَّنا ياعزيزي بلد تعرف جيدا حق المواطن، الرئيس والحكومة وكافة الجهات المسئولة لا ينامون من أجل الوصول إلى راحتنا، يتكبدون الخسائر الفادحة، ويضحون بمرتباتهم ورفاهيتهم من أجل "إسعاد يونس"، عفوا أقصد إسعاد المواطنين..
لكننا شعب محسود لذلك تسمعون عنا أشياء غريبة، لكنها غير حقيقية ولكي تعرف الحقيقة لا بُدَّ أنْ تعيشَ وسط المصريين..
وأخيرا تساءل "جون" الفضُولي: كيف تغرسون روح الانتماء لدى الأطباء؟!
قلتُ له بكل فخر: مِسكين أنت يا جون، اليوم فقط أستطيع أنْ أجيبَكَ عن هذا السؤال الخبيث، لقد رزقنا الله بوزيرة جديدة للصحة، تعرف جيدا أنك ستسأل هذا السؤال، لذا أصدرت قــرارها الـتاريخي الـيوم بإذاعة السلام الجمهوري وقَسَم الأطباء بكل المستشفيات الحكومية في مصر!! إنها تُقوِّي روحَ الانتماء للأطباء، وللمرضي أيضًا؛ فالمريض كل صباح يأخذ إجازة بعض دقائق ويهب واقفا متماسكا يلبي نداء الوطن ثم يعود مُتعبا يواصل معاناته على سريره مرة أخرى، وهذا بالطبع يؤكد روح الانتماء الكبيرة التي زرعتها هذه الوزيرة الواعية!!
والآن دعني أسألك عزيزي: هل رأيتم في بلادكم مثل هذا؟!
وأنا متأكد إنَّ إجابتك ستكون بالنفي؛ فنحن بلد فريد في كل شيء، ليس في عبقرية عقولنا أحد، ولا في تفرُّد أفكارنا أحد .. إننا بلد يعلم مسئولوه قبل شعبه قيمة الانتماء والعمل من أجل التقدم!
نظر إليَّ "جون" وهو يبكي ويـتـحـسـر ويقول لي: أنت مسكين ياصديقي، أنت الآن بـحـاجـة إلى طبيب أمراض نفسية، أراك "تهلوس" ماذا حدث لك؟! إنَّني عشت في مصر كثيرا، ولـم أرَ ما تحـكي عنه مطلقا؛ بل رأيتُ التهاونَ في كل شيء، رأيت الاستهانة بأرواح المواطنين، رأيت المستشفيات بلا أبسط احتياجاتها الطبية، رأيت أهل المرضى يصرخون أمام المستشفيات لعجزهم عن الوصول لعلاج مرضاهم، رأيت وسمعت الآلاف يموتون في صمت بارد من الـحـكــومــة والمسئولين، رأيتهـم أحيانا يُعالَجون في الطرقات، حتى غرف العناية المركزة بها عشرات المرضى على سرير وغير سرير.. رأيت أطباء لا يعرفون معنى الرحمة، ويعرفون جيدا معنى المال، سمعتُ بمسئولين مرتشين، وأدوية غير متوفرة من الأساس، ببساطة أدركت أنَّ حياتكم في مصر لا آدمية!!
رفع "جون" رأسي محاولا أن يمسح دموعي التي نزلت بغزارة، وأنا أقول له بصوت متهدج: بل نحن بلد الحضارة، نحن الفراعنة، نحن من علَّمناكم أصول الطب والفن والعمارة، نحن .. ونحن ..
فقاطعني قائلا: كُفّ عن هذا، نحن نعلم جيدا مَنْ مِصر!! ولكنَّ هذا كان قديما فقط.. أما حديثا فأنتم لا شيء!!
قلت له بمنتهى الأسى: صدقت يا جون!
فقال: هل تعلم ما السبب؟!
قلت: نعم!
فقال: ولم لا تعالجونه أنتم يا مصريون، وتعيدون أمجاد حضارتكم؟!
قلت: عزيزي؛ إن بلادنا الآن تنجب الفاسدين يوميا أكثر من الشرفاء؛ فكل كرسي يحمل منصبا مهما هو في الأصل لعنةٌ في وجه المصريين، لقد انتشر الفساد والطمع والمحسوبية والرشوة في كل مكان.. فقاطعني: "الكوسة" هذا ما تطلقونه على هذه الحالة. أليس كذلك؟!
قلت: "الكوسة" أنت تعلم عنا كل شيء يا جون!!
**أحبُّ الاستماع إلى آرائكم قرائي الأعزاء على البريد الإلكتروني الخاص بي
وعلى صفحتي على الفيس بوك بنفس العنوان :
a_ha3im@yahoo.com
0 comments:
إرسال تعليق