الحديث عن قصيدة النثر أخذ حيزاً كبيراً في الساحة الأدبية العراقية، فهي تحتاج الى دراسة وبحث واستقصاء من أجل تحديد هويتها ومرجعيتها الأساسية، لا يمكن أن نخوض في هذه الدراسة الا ضمن رؤيا الحداثة، كنموذج تمثل به قصيدة النثر الحداثة الشعرية العربية وإشكالياتها في المصطلح والتجنيس والتأصيل. وفي بحثنا هذا سنتعرض إلى إشكالية جزئية وهي محاولة تأصيل قصيدة النثر العراقية والملابسات التي رافقت ظهورها.
نحن نعرف جيداً أن قصيدة النثر
عُدت نوعاً شعرياً حداثياً، (معلماً مهماَ في الحداثة الشعرية)، أثار جدلاً واسعاً
عند الباحثين والنقاد في الأدب العربي المعاصر، فأدى هذا الظهور الى الاصطدام بما
هو مقدس من الموروث الشعري شكلاً ومضموناً، فأحدث هزة كبرى في تاريخ الشعر العربي،
وصدمة عند المتلقي الذي تعود على الشعر الموزون المقفى، فكان الموقف النقدي العربي
منقسم إزاءها بين الرفض والتأييد، فمهما اختلف النقاد والباحثين في الذائقة
الشعرية العربية لقصيدة النثر، بين الرفض القاطع، لأبتعادها عن أن تكون شعراً
مقارنة بالشعر العمودي أو شعر التفعيلة، وبين القبول بوجودها الذي اصبح واقعاً لا
يمكن تجاوزه، وجزءاً لا تتجزأ من الأجناس الشعرية.
وفي ضوء هذا الجدل اتجه الحديث في
البحث عن ماهية قصيدة النثر، التي أخذت تطرح كم من الأسئلة الفلسفية الوجودبة
والأنساق الثقافية، كونها قصيدة تمددت على حساب القصيدة العمودية، فقادت الشعر
العربي إلى (فضاءات دلالية ولغوية جديدة)، شكلت شكلاً شعرياً مختلفاً عن بقية الأشكال
الشعرية، بلورت من خلاله المبادئ الأساسية التي قامت عليها، وما قدمه شعرائها من
منجز شعري على مستوى الساحة الشعرية العربية.
من هنا تأتى أهمية توثيق التجربة
العراقية المعاصرة فى قصيدة النثر، ودراستها وأخضاعها الى المنهج التأريخي في تتبع
بواكيرها الأولى، وطبيعة تطورها على أيدي روادها الاوائل، والبحث عن جذورها في
التراث الشعري العراقي، من أجل تأصيلها وترسيخ ملامحها، وامتداداتها التاريخية،
التي هي أبعد من القصيدة العمودية، أي العودة بها إلى جذورها الأولى التي صارت
معروفة لدينا، حين نجدها في الإرث الأدبي السومري، وعلاقة قصيدة النثر العراقية
بالشعر السومري الأكثر تجذراً من النثر العربي، فهي قصيدة (سومرية/آكدية) بامتياز
تفرد بابتكارها الشاعرة السومرية "إنخيدو أنـّا"(2300 ق.م) ابنة
الامبراطور "سرجون الآكدي"، الرائدة الأولى في التاريخ البشري، التي
توحي نصوصها بأنها الأصل او المنبع الاول لقصيدة النثر. فنصوص الشاعرة "إنخيدو
أنـّا" أقدم من (ملحمة كلكامش) بثمانية قرون، أي إن الشعر بدأ في حضارة بلاد
الرافدين متمثل بقصيدة النثر، كذلك أن قصيدة النثر العراقية لم تكن بعيدة عن
التواصل والتأثر بالتراث العربي والإسلامي. واستلهام تجربة النثر الصوفي بوصفه
شعراً يمكن القياس عليه، وأثره الكبير على شعراء قصيدة النثر. حتى أن أصولها
الشرقية، كان لها الاثر الواضح عند بعض شعراء الغرب الذين تأثروا بها، واستمدوا
فكرة قصائدهم من الكتب المقدسة التي ظهرت في الشرق، فرغم جذرها الشرقي إلا أنها
برزت وتطورت في الغرب، وعلى وجه الدقة في نهاية القرن التاسع عشر، فقد مرت في
الغرب بارهاصات متعددة حتى تبلورت في فرنسا على يد الشاعر "بودلير". وإذا
أردنا أن ننطلق نحو قصيدة النثر وتأصيلها، فالعراق يمتلك إرثاً شعرياً حداثياً
رائداً، فالتجربة العراقية ثرية ومتنوعه في نتاجها الشعري، فلا بد أن نبدء بروادها
الاوائل، الذين كان لهم الدور البارز في تجارب شعراء قصيدة النثر عراقياً وعربياً،
لقد أختطت قصيدة النثر العراقية لها عالماً شعرياً مغايراً يختلف عن عالم قصيدة
النثر العربية والغربية، الناقد "زهير الجبوري" يرى أن ثمة أثر كبير
لقصيدة النثر العراقية في فضاء الشعر العربي حين غايرت المألوف في البناء والأداء
الشعري، وتميز تجارب مبدعيها بوضوح مآئز، إن من أبرز الامور المثيرة في قصيدة
النثر هي الجذور الحديثة المكتوبة في العراق في الربع الأول من القرن الماضي سنة (1920)
كإتجاه شعري يجمع بين مشتركات الشعر والنثر من دون قيود شعرية، عابر القوانين
التقليدية، كُتبت بروح عراقية، تحت مسمى (الشعر المنثور).
ففي مطلع القرن الماضي انبثقت
كتابات نثرية، قد لا يسمح القول فيها أنها قصيدة نثر، بل أنواع من الشعر المنثور
والنثر الشعري، تجعلنا نقول بوجود قصيدة نثرية عراقية، فكان الشاعر "جميل
صدقي الزهاوي" (1863 - 1936) يفضل كتابة (النثر الفني)، دون أن يطلق عليه
شعراً منثوراً، تمثل في قصيدته المكتوبة في (1905) والمنشورة في (1908)، اعتبرت
شكلاً تمهيداً بدائياً لقصيدة النثر، كمرحلة أولى من مراحل تطورها وفق رؤية فنية،
فقصيدة النثر تختلف عن النثر الشعري كونها (قصيرة ومركزة، ذات ايقاع أعلى، ومؤثرات
صوتية أوضح مما يظهر في النثر، فضلاً على أنها غنية بالصور الفنية، تعتمد جمالية
العبارة)، "محمد ديب، قصيدة النثر بين الموهبة الفردية والرافد الغربي، مجلة
الطريق، العدد 3/ 1993"، ومن أبرز مفارقاتها أن ظهورها كـ(شعر منثور) سابق
لظهور تجربة (الشعر الحر) في منتصف الأربعينيات.
إذا أردنا أن نشخص واقع قصيدة
النثر العراقية تاريخياً، كانت التجارب المبكرة لثلاثة رواد أساسيين لقصيدة النثر
في العراق تأخذ صفة الريادة الاولى، هم "روفائيل بطي" و "مراد
ميخائيل" و "حسين مردان"، الذين شكلوا طليعة من كتب قصيدة النثر،
ثم يأتي بعدهم شعراء أمثال (معروف الرصافي، وشكري الفضلي، ومير بصري، وأنور شاؤول،
ومحمد بسيم الذويب وغيرهم).
الأديب والشاعر"روفائيل بطي"(1898-
1954) اعتبر من الذين ساهموا منذ عشرينات القرن الماضي في نهضة الحركة الأدبية في
العراق، ومن الرواد الاوائل لقصيدة النثر العراقية عندما كتب أولى قصائده النثرية
سنة (1920) تحت مسمى (الشعر المنثور)، وطبع مجموعته الشعرية الأولى (الربيعيات) عام
(1925)، التي تشتمل على أربع عشرة قصيدة، كتبها بأسلوب شعري مرسل، (الشعر المنثور)،
كانت قصائد هذه المجموعة مذيلة بتواريخ تعود إلى الأعوام (1920- 1925)، ونشرت في
مجلة (الحرية) التي كان يرأس تحريرها. المجلة التي لها الدور في الدعوة لكتابة
قصيدة النثر في العراق وسبباً مباشراً لظهور الشعر الحر.
أما الرائد الاخر هو الشاعر "مراد
ميخائيل"
(1906-1986) التي تميزت قصائده (بكثرة
اسئلتها الوجودية، وبنهاياتها الحائرة القلقة)، كان من المتحمسين لقصيدة النثر من
خلال إطلاعه على قصائد الشاعر الهندي "طاغور" حيث طبعت اعماله الشعرية
الكاملة عام (1988) بعد رحيله بعامين، فهو يعد رائد (الشعر المنثور) في العراق،
المصطلح الذي اطلقه الشاعر "معروف الرصافي" عام (1922)، حين كتب مقدمة
ديوان "مراد ميخائيل" (صلاة الشيطان)، الذي ألقى منها قصيدة (نحن
الشعراء) في بغداد بمهرجان مبايعة الشاعر "احمد شوقي" أميراً للشعراء
عام (1927) وكانت من أغرب قصائده ولم يعترض عليها أحد من الشعراء الذين اشتركوا في
هذا المهرجان الشعري، ألا يدل ألقاء قصيدة من (الشعر المنثور) في مهرجان عام،
اعترافاً أو قبولاً على هذا النوع من الشعر؟! وبحضور شعراء (رفائيل بطي، وجميل
صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، ومحمد مهدي الجواهري، وغيرهم). ومن رواد قصيدة
النثر العراقية الآخرين الشاعر "حسين مردان" (1927 - 1972) الذي يعد من
أهم شعراء قصيدة النثر، فقد أصدر عدة مؤلفات أسماها (نثر مركز) تحمل عناوين مختلفة:
(صور مرعبة) بغداد 1951، (عزيزتي فلانة) بغداد 1952 (الربيع والجوع) بغداد 1953 (هلاهل
نحو الشمس) بغداد 1959. إن عدم تسمية مجاميعه الشعرية بقصيدة النثر هو عدم ترجمة
المصطلح في ذلك الوقت، لذلك أختار مصطلح أقرب وهو ( النثر المركز). إن (نصوص
الشاعر حسين مردان، تبدو مفعمة بالشعرية، إلا أنه كان يرفض أن يسمي هذه النصوص
شعراً. فهو كان يؤسس لقصيدة نثر عربية).
يقال عن تجربة "حسين مردان"
أنها (مختلفة عن تجارب جماعة كركوك، فهو
يغور بقوة في نقد الواقع)، بل يمكن أن نحصر الريادة الحقيقية لقصيدة النثر
بالشاعر (حسين مردان) الذي ينافس على ريادة قصيدة النثر عربياً، لأنه يعتبر أول من
كتبها. كذلك لا بد أن نذكر الشاعر "معروف الرصافي" الذي شرع بكتابة نصوص
شعرية منثورة في العشرينات أطلق عليها (الشعر الصامت) مرة و(الشعر المنثور العاري
عن الوزن والقافية) مرة أخرى. يذكر الدكتور "يوسف عز الدين" في كتاباته
النقدية أن الشعرية العراقية تميزت في الثلث الأول من القرن العشرين، من خلال
قصائد الشعراء "شكري الفضلي" (1882 - 1926) و"ميري بصري"(1911-
2006)، الذي أصدر مجموعته النثرية بعنوان (نشيد الحرية) في (1928) والشاعر "أنور
شاؤول (1904- 1984) الذي بدأ ينشر قصائد نثر في (1921).
في بداية ستينيات القرن الماضي
شهدت قصيدة النثر تطوراً شكلياً وفنياً، فكان ظهورها في الساحة الثقافية العراقية
مؤثراً، فلم تشكل مفاجئة ثقافية في الوسط الثقافي العراقي، لأن سبقها شيوع قصيدة
التفعيلة في حركة الشعر العراقي الحديث.
النقلة النوعية التي حدثت في
كتابة قصيدة النثر، تمثلت في تجارب شعراء عراقيين في قصيدة النثر، حين ظهرت في
الساحة العراق جماعة شعرية حملت اسم "جماعة كركوك الأدبية"
(1964 - 1968)، تحمل مشروعاً
شعرياً موحداً يعتبر أنطلاقة حقيقية لقصيدة النثر من حيث اللفظ والمعنى، هذه
الجماعة تعد واحدة من أبرز التيارات الشعرية داخل العراق وخارجه، وأكثر شهرة
وإنتاجاً وتأثيراً في الشعر العراقي المعاصر.
لقد تبوؤا شعراء (جماعة كركوك) مركز
الصدارة في كتابة قصيدة النثر منذ مطلع الستينات، فكانوا الأكثر قدرة على الإبداع،
من خلال أهم روادها (فاضل العزاوي، وسركون بولص، صلاح فائق، ومؤيد الراوي وجليل
القيسي وجان دمو والأب يوسف سعيد). الذين مثلوا الجيل الثاني لقصيدة النثر العربية
ذات (الرؤية الفنية في الخلق الشعري الذي يثري لغة النثر الفني اللافت ذا الممكنات
الشعرية الباعثة على الإدهاش). فبعد أن نشرت مجلة (شعر) اللبنانية نصوصهم التي
تركت أثراً عند شعراء قصيدة النثر في العالم العربي، وأصبحوا رموزاً لها. علما أن "جماعة
كركوك الأدبية" (ظهرت بالتزامن مع شيوع أنموذج رواد قصيدة التفعيلة التي أطلق
عليها الشعر الحر وشيوع تنظيرات أدونيس وأنسي الحاج المأخوذة عن سوزان برنار). فكان
لمجلة (الكلمة) العراقية، التي يرأس تحريرها "حميد المطبعي"، دوراً في
تبني نفس المبادئ التي نادت بها مجلة (شعر) اللبنانية ذاتها.
فكان أبرز شعراء قصيدة النثر هم
عراقيون، قدمتهم مجلة (الكلمة) سركون بولص، وصلاح فائق، وفاضل العزاوي وغيرهم،
فيكون العراق منطلقا لقصيدة النثر لتنتشر في مساحات واسعة من البلدان العربية. فكانت
مجلة (الكلمة) أضافة الى مجلة (شعر) اللبنانية منبرا يمكن ان يُعبر الشاعر عن
منهجية تفكيره ورؤيته الشعرية وآرائه الشخصية دون قيود.
في العراق لم تتجاهل الدراسات
الأكاديمية والمناهج المدرسية والمجلات العلمية قصيدة النثر العراقية في دراسة
مرتكزاتها النصية، وفحص نصوص نتاج شعرائها، وفنيتها وجمالياتها على مستوى اللغة
والصورة والإيقاع والدلالة. فقد أجتازت قصيدة النثر موانع الدراسات الأكاديمية في
الدرس والبحث والنقاش، كجنس إبداعي نثري نوعي لا يزاحمها أحد، وتفردها بميزة
القراءة، فأخذت مكانها على مستوى الإلقاء، الذي يتطلب مهارات، فكان لها فرادتها
وخصوصيتها من قبل شعراء لهم القدرة على الإبداع، وصار لها قرائها، رغم كون غالب
جمهورها نخبوي ومحدود، بالرغم من إشارة بعض الباحثين والنقاد أنها ليس قصيدة
منبرية تلقى من فوق المنابر. لكن اصبحت اكثر رسوخاً ونضجاً وقوة ورؤية ذات مسحة
شاعرية، بنهكة سردية، تنطلق من بؤرة شعرية ولكل شاعر رؤيته. فأصبحت طاغية ومهيمنة
فيما يُكتب في الشعر العربي المعاصر.
0 comments:
إرسال تعليق