" لغةُ التلغيز في القصيدة التشفيرية "
تطرّقتُ في الحلقة السابقة عن لغة الترميز الشعري وأساليبها ، وسأتطرق اليوم بإذن الله عن لغة التلغيز والتي هي أشدّ تعقيدًا ورمزيةً وشفريةً من الرمزيات والإيحاءيات والتلميح والومضات.
كما أنّ لغة التلغيز في الشعر تقتصر استخداماتها لدى الشعراء على الهدفية اﻷنية في حالةٍ معينةٍ بذهن الشاعر تقوم على الإضاءة الخفيفة والشديدة التعتيم للأحداث التصويرية بالقصيدة، في عمليةٍ تلغيزيةٍ معقدة الترادفات أشدّ غموضًا من مثيلاتها البلاغية ، حيث تأتي صورها خارج المشهد الصياغي اللغوي للقصيدة ، مما يُحدث نزعةً إيجابيةً وإثارةً للصعق الذهني لدى القارئ المتلقي حول هذه التضاربات التلغيزية التي تبدو على سطح القصيدة ، دون أن يكون هناك تضاربٌ في اللغز ذاته .
ويأخذ الإسلوب التلغيزي في القصيدة التشفيرية حيزًا من لسانيات اللغة بين ما تراه العين وتسمعه اﻷذن فيها من مفردات ، وبين ما يبحث عنه الحسّ خارج أطار تلك الرؤية وتلك السمعية وتلك المفردات ، مما يوقعُ المتلقي بنهمٍ وشراهةٍ في عملية بحثٍ عن إجاباتٍ لهذه اللغزية علّها تأتي بجزئياتٍ تفكّ شفرات هذه القصيدة.
تحتوي القصيدة التشفيرية على الكم الهائل من التعتيم والتكتيم الشعوري ،
فهي بُنيةٌ لغوية غير مسموعةٍ ولا مقرؤة !
وهنا يكمن سرُّ القصيدة التشفيرية .
يعتمد أسلوب القصيدة التشفيرية الملغزة على ازدواجية الإيقاع المشهدي الثنائي يغلب أحدهما الآخر بنسبة 90٪100 في إطار التلغيز ، وتظل 10 المتبقي للتصريح اللغوي فقط، في محاولةٍ تلغيزيةٍ بحتةٍ من الشاعر .
ولا ينبغي أن يدخل أسلوب التلغيز كل القصائد ، ويجب أن يقتصرَ اﻷمر على قصائدَ بعينها ، ولا بأس ببيتٍ أو بيتين بالقصيدة المعتادة فهذا يزيدها جمالا، بينما القصيدة التشفيرية لها دورٌ لا يقوم إلاّ على كثافة لغة التلغيز وخلق حالةٍ من الاحتكاك الذهني بمبهومات المنطق التلغيزي بالقصيدة يحقق الشاعر من ورائه إثارةً ذهنيةً لدى شخصيةٍ بعينها ومن أجلها كُتبت تلك القصيدة ، أو مطلقة الإثارة يشاركها المتلقي والقارئ في فكّ شفراتها .
وللقصيدة التشفيرية الملغزة قدرٌ كبير في إثارة شحنات الصعق الذهني لدى المتلقي حول مدلولية النّصّ فيها ومقدرة كاتبها على العزف على أوتار لغة التلغيز في تضافر صوره التركيبية، والتي تحتاج لذكاء المتلقي كي يمسكَ بطرف الخيط بالقصيدة لإيصاله للمكاشفة لما خلف اﻷبيات من شفراتها المعقدة الظاهرة على سطح القصيدة ، والتي لا تخلو من المراوغة اللسانية والصور الاستعارية المركزة الشديدة التلغيز تقوده إلى المدلولات المشار إليها أعلاه في عملية تحليقٍ لاستيضاح الرؤية في القصيدة ، والبحث عن المستجدات والمفردات اللسانية المتباعدة فيها والمزواجية المتقاربة في باطنها .
نموذجٌ على إسلوب التلغيز في القصيدة التشفيرية
عُشرُ الصّفر
ولئن أَدمى قلبًا غدرُ
مردودٌ للغدرِ العذرُ
لو كان لبيبًا لم يغدر
ذاكَ الجاني ذاك الوزرُ
فهل الكذبُ الفاشي طبعٌ ؟!
أمْ ذاكَ لدى النّاسِ الذّكرُ
واللؤلؤ في البحر اللاجي
بين الأصدافِ لهُ خِدرُ
من يصدقُ قولًا لا يُمري
من ليس بهِ بترٌ كسرُ
نهوى ودًّا بحثًا نجري
عن قلبٍ قال أنا الصّفرُ
كلّ الأرقامِ هنا تشدو
ما للصّفرِ الهادي عُشرُ
نصفُ العَشرِ الصّافي نرجو
صفرًا يخلو منهُ الكسرُ
أ.د. أحلام الحسن
ءءءءءءءءءءءءءءءءءءءء
بحر الخبب المتدارك
ءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءءء
المصدر / السبيل إلى بحور الخليل " كيف اعدّ نفسي لكتابة الشعر "
أ.د. أحلام الحسن
الحقوق محفوظة يمنع النسخ إلاّ بعد أخذ الإذن من المؤلفة أو الجريدة .
*كاتبة سلسلة المقالات
باحثة عروضية معتمدة أكاديميا
محكّمة عروضية وشاعرة
0 comments:
إرسال تعليق