"إن مما لا شك فيه أن لوسائل الإعلام تأثير كبير على حياتنا وتصرفاتنا، ومن أهم تلك القضايا تأثير التلفاز على المشاهدين، خاصة الأطفال نتيجة لدور التلفاز في عملية التنشئة الاجتماعية (المجتمعة)، حاله حال العائلة والمدرسة وحتى التفوق عليهما أحيانا".
اهتم الكثير من الباحثين بتأثير وسائل الإعلام على المشاهدين بعد أن لاحظ الباحثون مدى تأثّر المشاهدين بالمضامين الإعلامية المُقرّرة، وقد ظنّ الكثير من الباحثين في السنوات الأخيرة بأن تأثر المشاهدين بالمضامين الإعلامية خلقت نظرة خاطئة ومختلفة عن العالم، وبلورت أفكار جديدة، وأكثر تلك المضامين التي لفتت نظر الباحثين، مضامين العنف في الجانرات المختلفة المعروضة في وسائل الإعلام، وقد اهتم العلماء ببحث ظاهرة العنف، وكيفية تقبل المشاهدين لتلك المضامين، وأي تأثير يتركه في نفوسهم بعد التعرض لها، وخاصة لدى الأطفال.
إن نظرة فاحصة للبرامج التلفزيونية تُظهر الاستخدام المُفرِط للعنف، فنجد معظم الجانرات (الأنواع) التلفزيونية تحتوي على الكثير من العنف الواضح أو الخفي (غير مباشر)، بدءا من الأفلام، المسلسلات، النشرات الإخبارية، الأفلام الوثائقية، البرامج الرياضية، أفلام الكرتون وحتى في الفيديو كليبات والإعلانات...
ونتيجة لذلك نرى بأن التعرض للعنف في وسائل الإعلام يتم من جيل صغير، فالأطفال يتعرضون لبرامج كثيرة ومنوعة وفي أحيان كثيرة لا تلائم بمضامينها جيلهم، كالعنف، الجنس، المخدرات... لقد استحوذ هذا الموضوع على انتباه العديد من الباحثين في مجال الإعلام في الولايات الأمريكية المتّحدة، فوجد الباحثون الكثير من المضامين العنيفة في التلفزة الأمريكية، فعلى سبيل المثال، وجد الباحثون أن الأطفال حتى نهاية المرحلة الابتدائية يشاهدون أكثر من 20000 عملية قتل في التلفاز، وحوالي 100,000 عمل عنيف آخر.
وفي بحث آخر اتضح أن الأطفال الأمريكيين يتعرضون في المعدل لحوالي 50000 محاولات قتل في التلفاز حتى جيل 16 عاما؛ الأبحاث أثبتت بأن الجريمة في التلفزة الأمريكية منتشرة في التلفزة الأمريكية أكثر بعشر مرات منها في الواقع الأمريكي.
مع التطور الهائل لوسائل الإعلام، ودخولها مجال التقنية المتقدمة جدا تضاعف مرات عديدة التأثير الذي تحدثه تلك الوسائل في الجماهير. لم يعد الفرد يتعامل مع الرسالة الإعلامية مجردة وبشكل مباشر، بل صارت تأتيه محفوفة بكثير من المؤثرات النفسية والسمعية والبصرية، وصار الإخراج (طريقة العرض) فنا قائما بذاته تبدي فيه العقول أعمالا خلاقة.
فعلى مستوى الإعلام المطبوع وظفت الصورة والألوان وحجم الخط والخطوط والرسوم التوضيحية والخلفية المضللة، ومكان النشر في الصحيفة أو المجلة لدعم عنصر التأثير في الرسالة الإعلامية.
أما على المستوى الإعلام المرئي فقد خرجت عدسة التصوير التلفزيونية من الأستديو هات إلى الفضاء الرحب فصارت تختلط بالناس في الشوارع وأماكن العمل وتطير معهم على متن الطائرات. ولم تقف تقنية الإعلام المرئي عند هذا الحد بل أصبحت تحلق بأجنحة الخيال وتجعل من المستحيل ممكنا وهو ما يعرف بالخدع أو الحيل السينمائية،
حيث لم تعد الرسالة الإعلامية تأتي للفرد (بريئة) ومباشرة، بل ضمن حشد ضخم من المؤثرات التي تستهدف عقله وسمعه وبصره وعواطفه فتحرك كوامن نفسه وكوامن غريزته، وتجعل الواقع الصعب قريب المنال وتصير المستحيل ممكنا.
نظرية استزراع العنف ويقوم الافتراض الأساسي لهذه النظرية على أن العالم الرمزي لوسائل الإعلام وخاصة التلفزيون يشكل إدراك الجمهور وتصوره للعالم الواقعي. فالتلفزيون بانتشاره الواسع في المنازل أصبح يشكل البيئة الرمزية المشتركة التي يولد فيها معظم الأطفال، وأن بيئة التلفزيون الرمزية، وكما جاء في العديد من دراسات تحليل المضمون، أنها بيئة سيئة دنيئة يسودها العنف والإجرام بشتى أنواعهما.
تمثل صياغة الرسالة عاملا آخر من العوامل التي تسهم في تأثير الرسالة الإعلامية في الجمهور. وإذا كان العامل السابق طريقة عرض الرسالة الإعلامية يتعامل مع الحس، فإن هذا العامل -صياغة الرسالة -يخاطب العقل والفكر والخيال، والصياغة هي القالب الذي تصاغ فيه أفكار الرسالة بطريقة منظمة من خلال الاستخدام الذكي للغة والترتيب المنطقي للوقائع والأحداث، في الإعلام المطبوع، (الصحافة) تسمى (الصياغة) أما في الإعلام المرئي (التلفزيون والسينما) تسمى الصيـاغة بالسيناريو.
والرسالة الإعلامية قد (تعرض) بطريقة جذابة ومؤثرة، لكن إذا كانت (صياغتها) رديئة فإن ذلك يضعف من تأثيرها، ولو سقنا مثالا على الطريقة التي تؤثر فيها صياغة الرسالة الإعلامية في الجمهور من خلال (قصة شاب)، حيث هدف الرسالة الإعلامية هو الترويج لقيم معينة لها علاقة بمفهوم حرية وتمرد الشباب على قيم وعادات وتقاليد المجتمع المتينة، في مجتمع مسلم محافظ ليس من السهولة عرض رسالة إعلامية مباشرة تدعو الشباب إلى التمرد على القيم السائدة وتشجعهم صراحة على تبني حياة لا تـحكمهــا ضـوابط العرف والأخــلاق.
هنا تتدخل (الصياغة) فتقدم للجمهور (قصة شاب) سافر إلى إحدى دول الغرب في رحلة مليئة بالمغامرات والأحداث المثيرة والمشوقة، للترويج للقيم الجديدة، ثم من خلال الحديث عن ذلك الشاب الذي (سافر) و(استمتع) وتغلب على كثير من المواقف (المحرجة) ونالت (إعجاب) كثير ممن قابلهم، وفوق ذلك كله (أثبت) أن العزيمة الصلبة تقهر المستحيل، ثم هو أيضا بكل (تواضع) يروي (تجربته) لبني جنسه.
الرسالة الإعلامية بفكرتها هذه وبمضمونها الذي لم تصرح به ربما أدت إلى نتائج عكسية لو قدمت هكذا صريحة ومباشرة للقارئ أو الشاهد أو المستمع، لكن من خلال تقديمها بهذا الإيقاع المثير وبتلك الصياغة الذكية تحدث الأثر المطلوب.
فالرسالة الإعلامية من خلال هذا الأسلوب توهم الجمهور أنها لا تدعوهم لفعل ما يفعله الشاب صاحب القصة. إنها (فقط) تقدم لهم قصة ذلك الشاب، وعلى كل شخص أن يفهمها بالطريقة التي تناسبه، وأن يفهم منها ما يناسبه وفي واقع الأمر كل فرد أو على وجه الدقة (كل شاب) اطلع على القصة تمنى أن تكون مكان ذلك الشاب صاحب القصة.
أليس هناك سفر واستمتاع وتغلب على المواقف المحرجة ونيل إعجاب الآخرين وقهر للمستحيل من خلال الإدراك والعزيمة الصلبة لشاب غض طري العود؟ إنها باختصار مغامرة لذيذة لا يقف في وجهها إلا القيم والعادات والتقاليد. هذا هو الذي استقر في العقل الباطن، أما المغامرة واللذة والمواقف الممتعة فإنها تتلاشى بعد مدة ويبتلعها طوفان الأحداث اليومية.
وسائل الإعلام هنا قد لا يكون دورها (دفع) الفرد إلى ممارسة العنف، وإنما مثلت مرجعية لذلك الفرد في (نوع) العنف أو الإثارة أو الخروج على قيم ومبادئ المجتمع، الذي يمكن أن يقوم به في مثل هذه الحالات و (كيف) يقوم به، وربما كيف يفلت من العواقب التي تترتب على ممارسة سلوك عنيف مثل هذا الذي قام به.
إن ما يجب استدراكه هنا هو أن المقارنة بين مفهوم الإثارة الجنسية في المجتمع المسلم ومفهومه في المجتمعات الغربية، يجب أن تأخذ في اعتبارها طبيعة المجتمع المحافظ والطبيعة الإباحية لتلك المجتمعات، وأن الإيحاءات الجنسية في الرسالة الإعلامية المعروضة في مجتمع مسلم تؤدي إلى نتائج أسوء من تلك التي تنتج من عرض رسالة إعلامية تتضمن مشاهد جنسية صريحة في مجتمع غربي.
أن التعرض المستمر للمشاهد التي تتضمن إيحاءات جنسية يشجع على الاغتصاب، وذلك من خلال إحساس الفرد أن فعله أمر عادي ينطوي على المتعة وليس الجريمة التي يمكن أن يعاقب عليها. كما أنه بدافع هذا الإحساس يعتقد أنه بإمكانه أن يقدم على جريمة الاغتصاب ثم ينجو من العقاب بسهولة ويسر.
بالإضافة إلى ذلك فإن التعرض المستمر للمواد الإعلامية التي تقدم فيها المرأة كهدف للإثارة، ولو بشكل غير مباشر مثل وضع صورة المرأة الجميلة على غلاف المجلة أو استخدامها في الإعلانات، يقود إلى احتقار المرأة والنظر إليها كشيء منحط يستخدم للتلذذ فقط، بالإضافة إلى ذلك فإن التعرض المستمر لكل ما يتسبب في حدوث الإثارة الجنسية قد يؤدي إلى نشوء موقف متسامح تجاه الرذيلة والفساد.
فالفرد الذي يجد أنه قد استثير جنسيا مرة وأخرى، يصبح أكثر قبولا وأكثر تسامحا مع الفساد الأخلاقي، لأنه يعتقد أنه في النهاية سيوفر له فرصة يشبع فيها رغبته وغريزته التي تحركت بسبب تعرضه لتلك المشاهد المثيرة جنسيا.
0 comments:
إرسال تعليق