القصة أخطر من نشر كيان الاحتلال لخرائط توسع جديدة على صفحة "إسرائيل بالعربية" التابعة لوزارة خارجيته ، وأكبر من محض استنكارات وإدانات عابرة صدرت عن دول عربية معنية ، فلا شئ يمنع من تحويل العدو خرائطه إلى حقائق على الأرض ، والخريطة الجديدة الممستفزة لرسميين عرب ، ضمت لكيان الاحتلال مناطق واسعة إضافية من أراضى سوريا ولبنان والأردن ، وبدأ تنفيذها فعليا حتى قبل نشر الخرائط رسميا ، فقد استثمرت "إسرائيل" أجواء الفوضى السورية الأخيرة ، وبادرت بضم مناطق فى الجنوب السورى إلى قرب دمشق ، تكاد مساحتها مع التوغل المتصل تزيد على ضعف مساحة قطاع "غزة" ، وتضاف إلى "هضبة الجولان" التى ضمتها "إسرائيل" رسميا بتأييد أمريكى ظاهر ، فوق عزم "إسرائيل" على التلكؤ فى تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار فى لبنان ، وإعلان رغبتها فى الاحتفاظ بتلال وأحراج فى قرى الشريط الحدودى اللبنانى ، وهى تراقب الوضع الداخلى فى الأردن ، وتتحين الفرص لتدبير انفلات عام ، وتخطط للقفز من ضم الضفة الغربية الفلسطينية إلى الضفة الشرقية الأردنية ، وبدعوى مخاطر "أمنية" قد تأتيها من الأردن ، مع تصاعد درجات العدوان "الإسرائيلى" فى الضفة ، وإعلانها رسميا عن جعل العام الجارى سنة لإتمام عملية ضم الضفة بالكامل ، واستثمار عودة "دونالد ترامب" رسميا إلى رئاسة أمريكا ، وانتظار تحقق وعوده المعلنة والضمنية بإهداء الضفة لكيان العدو ، وعلى نحو ما فعل فى رئاسته الأولى بإهداء "القدس المحتلة" بالكامل إلى "إسرائيل" ، كسبا لرضا صديقه وسيده "بنيامين نتنياهو" واللوبى الصهيونى المتحكم فى واشنطن .
وعملية
ضم الضفة الغربية تجرى من زمن ، وتزايدت وتيرتها باطراد منذ عملية "السور الواقى"
عام 2002 ، التى اجتاحت قوات "آرئيل شارون" فيها كامل الضفة ، وصولا إلى
عزل الزعيم الفلسطينى "ياسر عرفات" فى مبنى المقاطعة ، واغتياله مسموما عام
2004 ، وخنق وهج الانتفاضة الفلسطينية المعاصرة الثانية ، ومضاعفة معدلات الاستيطان
اليهودى فى الضفة بعد تهويد القدس ، وزيادة عدد المستوطنين اليهود فى الضفة إلى ما
يزيد على 750 ألفا ، بعد أن كان العدد نفسه عند عقد "اتفاق أوسلو" أواسط
تسعينيات القرن الماضى عند حدود المئة ألف أو يزيد قليلا ، فقد وفرت اتفاقات
"أوسلو" وأخواتها هدوءا غير مسبوق لقوات الاحتلال ، توحشت معه عمليات الاستيطان
فى أمان نسبى ، إضافة لخفض تكاليف الاحتلال دما ومالا ، فى حين عولت السلطة الفلسطينية
على مفاوضات عبثية ، توقفت رسميا منذ عام 2014 ، وبدا رئيس وزراء العدو "نتنياهو"
مصمما على إفناء فكرة الدولة الفلسطينية تماما ، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى إطار
وظيفى موقوت ، ولم يخف "نتنياهو" أبدا هدفه ، لا فى كتابه "مكان تحت
الشمس" أواسط التسعينيات ، ولا مع نوبات عودته المتكررة إلى رئاسة الوزراء ، واعتبر
أنه من الجنون ، أن يفكر أحد فى إمكانية خروج "إسرائيل" من أى مناطق فى
"يهودا والسامرة" ، والأخيرة هى الاسم الرسمى المعتمد "إسرائيليا"
للضفة الغربية ، وإلى أن صار الاسم الرسمى المعتمد أمريكيا ، على طريقة "مايك
هاكابى" الذى رشحه "ترامب" ليكون سفيره لدى "إسرائيل" ، و"هاكابى"
كما صار معروفا ، كان قسا ومبشرا إنجيليا متطرفا ، ويعتبر ضمان توسع "إسرائيل"
واجبا دينيا مسيحيا ، يعجل بالعودة الثانية للسيد المسيح ، ويؤمن بعقائد "الصهيونية
المسيحية" كلها ، ويقول أنه لا شئ اسمه الضفة الغربية ، بل هى "يهودا والسامرة"
، وأنه لا شئ اسمه الشعب الفلسطينى ، بل جماعات سكانية "تغتصب" حق اليهود
المطلق فى أرضهم المقدسة (!) ، ولا يعترف بشئ اسمه المستوطنين ولا المستوطنات ، التى
هى عنده مدن "إسرائيلية" وجدت لتبقى ، وكلهم فى "إسرائيل" على
ملة "هاكابى" ، فلا فرق بين "هاكابى" و"سموتيريتش" و"بن
غفير" وغيرهم من وزراء "نتنياهو" أتباع تيار الصهيونية الدينية ، ورغم
تفاوت لهجات السياسة أحيانا ، فلا أحد فى التجمع السياسى "الإسرائيلى" يعارض
السعى لضم الضفة الغربية نهائيا ، اللهم إلا بعض أصوات "يسارية" محدودة خارج
دوائر التأثير العام ، بينما كل الحكومة والمعارضة الأعلى صوتا فى الكيان ، جميعهم
من أنصار ضم الضفة ، وهى عندهم ـ مع القدس ـ مركز الأساطير المؤسسة للدولة "الإسرائيلية"
، وهى الدولة الوحيدة فى منظمة الأمم المتحدة ، التى لا ترسم حدودا ولا خرائط نهائية
لوجودها ، فالحدود متحركة ، ويرسمها سيف القوة وحدها ، وقبل "طوفان الأقصى"
والهجوم الفلسطينى المزلزل فى 7 أكتوبر 2023 ، كان "نتنياهو" فى الأمم المتحدة
، يحمل ويعرض خريطة "إسرائيل" بلون أخضر ، تضم كامل أراضى فلسطين التاريخية
، بما فيها الضفة و"غزة" مع "الجولان" السورى المحتل ، كان ذلك
قبل شن حرب "الإبادة الجماعية" فى "غزة" ، التى دخلت شهرها السادس
عشر ، وتتزايد المطالب "الإسرائيلية" اليوم بنقلها حرفيا إلى الضفة الغربية
، على نحو ما طالب به "سموتيريتش" أخيرا ، ودعوته لجعل "نابلس"
و"طولكرم" و"جنين" نسخا مطابقة لما جرى فى مخيم "جباليا"
شمال "غزة" ، وتسوية المبانى بالأرض ، ومسح الوجود الفلسطينى بالقوة الكاسحة
، ومطالبة آخرين بجعل شوارع مخيمات وقرى ومدن الضفة حقولا ممتدة لجثث الفلسطينيين ،
وإعلان ما يسمى المجلس الأمنى المصغر فى حكومة العدو أخيرا ـ بعد عملية "الفندق" الفدائية ـ عن حملة
هجومية شاملة فى الضفة الغربية من الشمال إلى الوسط والجنوب ، وجعل الضفة ساحة مركزية
لحروب "إسرائيل" الراهنة ، وتخيير الفلسطينيين فى الضفة بين القتل أو التهجير
إلى الأردن ، بعد أن قامت "إسرائيل"
ـ فى سنوات مضت ـ بتدمير 25 تجمعا فلسطينيا سكانيا فى الضفة ، وسلحت مئات آلاف
المستوطنين ، وكونت منهم جيشا مضافا لجيشها الرسمى فى حرب إفناء الفلسطينيين ، وكلنا
يذكر مطالبة "سموتيريتش" بمحو بلدة "حوارة" جنوب نابلس من فوق
سطح الأرض قبل عملية "طوفان الأقصى" بكثير ، فلم تكن حملة العصف بالضفة كما
يشاع بسبب ما جرى انطلاقا من "غزة" صباح 7 أكتوبر 2023 ، ولا بسبب مخاوف
"إسرائيل" من تكرار ما جرى انطلاقا من الضفة الغربية ، فطالما هناك احتلال
توجد المقاومة، و"يائير لابيد" الذى هو زعيم المعارضة الإسرائيلية اليوم
، هو الذى كان سابقا رئيسا للوزراء ، وقاد ـ ومن قبله "نفتالى بينيت" ـ حملات
عسكرية عنيفة فى الضفة تحت عنوان "جز العشب" ، وكان المقصود ـ طبعا ـ مطاردة
وجز رأس خلايا المقاومة الفلسطينية ، وقبل "طوفان الأقصى" وبعده أكثر ، كان
التركيز "الإسرائيلى" على شن مئات من حملات الاقتحام لمدن ومخيمات شمال الضفة
، وهو ما أدى بالطبيعة إلى عكس ما أرادته "إسرائيل" ، وإلى تصليب عود جماعات
المقاومة ، وإلى اجتذاب مئات وآلاف من الشباب الفلسطينى إلى الكتائب الفدائية المسلحة
، وإلى تنوع متزايد فى نسق عملياتها ، من الطعن بالسكاكين وعمليات الدهس وكمائن الطرق
والهجمات الاستشهادية ، ومن دون أن يخفت صوت المقاومة ، حتى مع استشهاد ما يزيد على
800 فلسطينى ، واعتقال عشرة آلاف من الضفة فى العام الأخير وحده .
والمعنى
ببساطة ، أنه لا مجال لإضاعة المزيد من الوقت فى أوهام "أوسلو" ومضاعفاتها
، ولا مجال حتى للسلطة الفلسطينية فى النجاة من الخطر ، فقد داومت "إسرائيل"
على إضعاف السلطة ، وحجبت عنها أغلب الموارد المستحقة ماليا من ضرائب الجمارك التى
تجمعها "إسرائيل" ، ومنعت عشرات الآلاف من أهل الضفة من العمل داخل
"إسرائيل" ، وأهدرت الفوارق الصورية بين مناطق (أ) و(ب) و(ج) بتقسيمات
"أوسلو" ، وصارت الضفة كلها فى الحالة (ج) ، أى عاد الاحتلال وقواته للعمل
بحرية تامة حتى فى المنطقة (أ) ، وصارت المنطقة (ب) تماما كالمنطقة (ج) ، كلاهما صار
من اختصاص الحكومة "الإسرائيلية" فى الشئون المدنية والأمنية كلها ، والمنطقتان
تمثلان أكثر من ثمانين بالمئة من مساحة الضفة خارج القدس ، وقد صار ضمهما رسميا فى
حكم الأمر الواقع ، ولم يعد أمام حكومة الاحتلال سوى الضم الرسمى للأقل من العشرين
بالمئة المتبقية ، وتحويل ما يتبقى من السلطة الفلسطينية إلى إدارات ذاتية متفرقة ،
تعينها الحكومة الإسرائيلية وتحاسبها ، وعلى نحو أبعد من مخازى التنسيق الأمنى ، ولا
يكفى مع هذه الظروف المتوقعة والمخططة "إسرائيليا" ، أن يكتفى أحد ببيانات
الاستنكار ، أو حتى السعى لاستحصال إدانات دولية على ضرورتها ، بل لا بد من طريق آخر
، يبتعد عن خطايا الاقتتال الفلسطينى الداخلى ، ويؤكد على خط المقاومة بكافة صنوفها
أولا وأخيرا ، فالخطر الداهم على الأبواب وفى الميدان .
وعملية
ضم الضفة إن اكتملت لا سمح الله ، تنقل الخطر الزاحف إلى قلب الأردن وغيره ، وتحول
استفزازات نشر الخرائط إلى حروب جديدة قد يتردد البعض فى خوضها ، وبما يفتح شهية الكيان
لمزيد من التوسع على خرائط الربع "العربى" الخالى ، وتضيع الأوطان بغير سكة
رجوع .
*كاتب المقال
كاتب صحفى ومفكر عربى
رئيس تحرير موقع وجريدة
"صوت الأمة"
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق