لن يكون "د.حسام أبو صفية" آخر أساطير "غزة" التى لا تفنى ، جرى تهجير أجداده من قرية فى قضاء "عسقلان" خلال نكبة 1948 ، وولد لأبويه فى مخيم "جباليا" شمال "غزة" ، وجرت أعظم ملا حم حياته فى مستسشفى "كمال عدوان " بمنطقة "بيت لاهيا" المجاورة ، كان "أبو صفية" مديرا للمستشفى الذى يحمل اسم "كمال عدوان" قيادى "فتح" الشهير ، الذى اغتاله "الموساد" فى عملية "فردان" بقلب بيروت فى أبريل 1973 ، كان "عدوان" هو الآخر من المطرودين المهجرين إلى "غزة" من قرية بقضاء "عسقلان" نفسه ، وبعد استشهاد "عدوان" بشهور قليلة ، كان ميلاد "أبو صفية" فى أواخر عام 1973 نفسه ، وشهد عامه الواحد والخمسين ملحمته الأخيرة قبل اعتقاله فى معسكر "سدى تيمان" بصحراء "النقب" المحتل ، كان بوسع "أبو صفية" أن يهرب من هول حرب "الإبادة الجماعية" الجارية منذ 15 شهرا ، وأن يقى نفسه وأسرته ، وأن يستخدم جنسيته "الكازاخية" المضافة كقارب نجاة ، لكنه فعل العكس تماما ، ربما لأنه من طبع "غزة" الممتحنة بالجحيم ، وظل يعالج المرضى ومئات المصابين بالقصف الهمجى ، ويدفن إبنه الشهيد فى أرض المستشفى ، ويواسى رفاقه ، وبينهم من فقد عشرات الشهداء من عائلته ، وظل طبيب الأطفال الشهير يواصل عمله المقدس ، رغم حرائق وتفجيرات "الروبوت" من حول المستشفى وبداخله ، وكانت صورته الأخيرة وهو يمشى مرفوع الرأس برداء الأطباء الأبيض ، ويمضى إلى مصير العصف والاعتقال والتعذيب مع المئات من معاونيه ومرضاه بعد احتراق "مستشفى كمال عدوان" وتدميره ، كانت الصورة الملهمة على قسوتها ، مما يليق بمعنى "غزة" ، التى تتحدى الفناء ، وتنجب الأساطير جيلا فجيل .
ظل
الدكتور "أبو صفية" يوجه نداءاته لضمائر العالم طوال التسعين يوما الأخيرة
من حياة مستشفاه ، ومن دون أن يتحرك العالم الأصم الأخرس ، ولا تحرك العرب طبعا ، اللهم
إلا من استنكارات باهتة بعد حرق المستشفى وإخلاء جرحاه وكوادره الطبية ، وادعت
"إسرائيل" كعادتها الوضيعة ، أن المستشفى كان قاعدة لقوات "حماس"
وأخواتها ، ومن دون أن تقدم دليلا أو شبه دليل ، تماما كما حدث عند حصار وتدمير وتفجير
"مجمع الشفاء الطبى" ، وبدعوى أنه كان مقر القيادة العامة لقوات "حماس"
وأخواتها ، ومع تدمير عشرات المستشفيات قبلها وبعدها ، وترك "غزة" خالية
بالكامل تقريبا من أى مرفق صحى ، ومحرومة من أى إمدادات طبية ، مع بلوغ أعداد الشهداء
والجرحى والمفقودين تحت الأنقاض إلى ما يناهز المئتى ألف ، فالهدف هو قتل "غزة"
بشرا وحجرا وشجرا ، وبكل وسائل القتل والترويع من قصف وتجويع وتقطيع الأطفال إلى أشلاء
، وترك ملايين الناس فى عراء ، زادت خطورته مع دخول فصل الشتاء ، وعصف المنخفضات الجوية
بالخيام البالية فى مناطق "المواصى" ، وإغراق الأمطار الغزيرة لآلاف المشردين
، ومواصلة العدو لحرب مسح وإبادة شمال مدينة "غزة" ، وانتقال حرب إبادة المبانى
إلى أحياء مدينة "غزة" نفسها ، ومن دون أن يرفع الفلسطينيون المشردون رايات
بيضاء لا تحميهم من أقدار الموت ، فهم بحاجة إلى القماش الأبيض لتكفين الشهداء لا إلى
إعلان الاستسلام ، ولا إلى ترك أراضى "غزة" المقدسة ، التى تبقى شوكة مستعصية
فى حلق العدو ، الذى أعياه البحث عن صورة نصر فوق الأنقاض ، فلا يجد سبيلا إلى فوز
موهوم ، ولا إلى تهجير الفلسطينيين خارج وطنهم ، رغم نيران الجحيم فوق الرءوس ، وتعثر
كل مفاوضات الوسطاء للوصول إلى وقف الحرب البربرية حتى إشعار آخر ، قد يخفف من عذاب
"غزة" الأسطورى ، التى تواصل رغم العذاب مقاومتها الأسطورية ، وتعجز العدو
عن نيل مراميه ، مع ارتقاء عشرات ومئات الشهداء الفلسطينيين يوميا وتلاحق المجازر ،
لكن صوت المقاومة مع ذلك كله ، لم يخفت ولا اختنق ، ولا انفض ضحايا العذاب الفلسطينى
من حول فصائل المقاومة المسلحة ، التى زاد عديدها آلافا ، ربما بسبب تلاشى المسافات
بين أن تخضع أو أن تقاوم ، فالموت بانتظارك فى كل الأحوال ، لكن الموت بالمقاومة استشهاد
وكرامة عند الله وعند الناس ، وهو ما قد يفسر ـ مع أسباب أخرى ـ حيوية المقاومة المتصلة
فى "غزة" ، التى تبادر بما تملك إلى إيذاء العدو وتوجيه الضربات ، وبطرق
مبدعة ، من استخدام الأسلحة المصنعة ذاتيا فى شبكات وورش الأنفاق ، إلى العمليات الاستشهادية
، وقتل جنود العدو وضباطه وفرق نخبته بالسكاكين والحراب ، حتى فى مناطق شمال
"غزة" ، التى لم يبق فيها حجر على حجر ، وتحول ركام مبانيها إلى أنفاق من
نوع آخر ، تدير منها المقاومة كمائن موت للمعتدين ، وعبر ثلاثة شهور من حرب مسح وإزالة
"جباليا" و"بيت لاهيا" و"بيت حانون" ، سقط عشرات القتلى
بينهم ضباط كبار من فرق النخبة ، وحسب الأرقام التى سمحت الرقابة العسكرية "الإسرائيلية"
بإذاعتها ، سقط من جنود العدو وضباطه من بداية الحرب ما يزيد على الألف قتيل ، فوق
مئات ممن يوصفون بالمدنيين ، إضافة إلى ألف جريح ومعاق شهريا ، تراكمت أعدادهم إلى
نحو 15 ألفا حنى اليوم ، عدا تدفق هجرة معاكسة من كيان الاحتلال ، بلغ عددها حسب مكتب
الإحصاء "الإسرائيلى" 83 ألفا إلى اليوم ، بينما يقول المؤرخ "الإسرائيلى"
البارز "إيلان باييه" أن عدد الذين تركوا "إسرائيل" بغير عودة
، وصل إلى نحو 700 ألفا من 7 أكتوبر 2023 إلى اليوم ، وهذا هو النزيف الأخطر فى بنية
الكيان الاستيطانى الإحلالى منذ 1948 إلى اليوم ، بينما تناقص عدد المهاجرين اليهود
الذاهبين لاستيطان فلسطين المحتلة إلى 24 ألفا لا غير فى عام 2024 باعتراف مكتب الإحصاء
"الإسرائيلى" ، فيما يصمد الفلسطينيون فوق أرضهم ، ويزيدون فى أعدادهم الإجمالية
على عدد يهود الكيان جميعا ، الذين يألمون كما يتألم الفلسطينيون ، ولا يرجون من الله
ما يرجو ويحتسب الفلسطينيون ، ويصابون بالهلع كلما انطلق صاروخ يأتى من "غزة"
العزة ، رغم كل هذا العذاب وأهواله وفواجعه .
والأخطر
عند "الإسرائيليين" من صمود جماعات المقاومة المسلحة ، هو صمود المجتمع الفلسطينى
وتماسك تنظيماته المدنية الإدارية إلى اليوم ، ففى تقرير نشرته صحيفة "يديعوت
أحرونوت" قبل أيام ، أبدى الخبراء "الإسرائيليون" دهشتهم المصدومة من
عودة نفوذ "حماس" وأخواتها ، ليس فقط فى ميادين القتال ، بل بين سكان
"غزة" ، رغم إعلانات حكومة "بنيامين نتنياهو" المتكررة عن القضاء
على "حماس" عسكريا وسلطويا ، فلا تزال تنظيمات "حماس" المدنية
تواصل دورها الأبرز فى توزيع مساعدات الإغاثة ، ونجحت فى تقويض وضرب عصابات سرقة المساعدات
التى يرعاها كيان الاحتلال ، ربما أملا فى إيجاد بديل لحركة "حماس" ، حاولت
تكوينه من عائلات و"حمائل" ، وكان مصيره الاحتضار فى مهده ، ثم فشلت محاولات
"إسرائيل" فى استمالة وإغواء سكان "غزة" ، وعرض مكافآت قدرها خمسة
ملايين دولار لكل من يرشد عن مكان أسير "إسرائيلى" محتجز فى "غزة"
، وهو العرض الذى لم يستجب له أحد حتى اليوم ، فوق تلاشى فرص العدو فى تأليب الفلسطينيين
ضد "حماس" وأخواتها ، واستثمار القتل والدمار لتغيير صورة "غزة"
السياسية ، أو دفع الفلسطينيين إلى التجاوب مع نداءات ما يسميه العدو بالتهجير والخروج
الطوعى إلى بلدان آمنة خارج فلسطين ، على نحو ما يواصل تكراره الإرهابى "إيتمار
بن غفير" ، وبهدف تفريغ "غزة" من ملايين سكانها ، فوق مسح شمال
"غزة" كليا من مبانيها وسكانها ، والتمهيد لإقامة مستوطنات يهودية فى الشمال
، بحسب ما تسمى "خطة الجنرالات" ، وضم 40% من مساحة "غزة" ـ شمال
خط "نيتساريم" ـ إلى كيان الاحتلال نهائيا ، وهو ما لا يبدو متاحا ، حتى
إذا عادت إسرائيل إلى احتلال دائم لقطاع "غزة" بكامله ، وهو ما تخشاه دوائر
"إسرائيل" الأمنية والعسكرية ، وترى فيه سببا لحرب استنزاف فدائية لا تنتهى
، حاول الجنرال "آرئيل شارون" ـ قبل عشرين سنة ـ وقف نزيفها بالجلاء عن
"غزة" من طرف واحد ، والعودة تعيد "إسرائيل" إلى مأزق رعب ، عبر
عنه الجنرال "إسحق رابين" بقوله الشهير ذات يوم "أتمنى أن أصحو من النوم
فأجد غزة غرقت فى البحر " ، وهو ما لن يحدث بإذنه تعالى ، والأقرب للحدوث ، أن
يعاود الكيان غرقه فى رمال "غزة" ، وفى بحر دماء الفلسطينيين .
وبالجملة
، لم يأت مثال "حسام أبو صفية" من فراغ ، ومثله عشرات ومئات وآلاف من الأساطير
البشرية الحية فى "غزة" ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، ودونما تفكير
فى التراجع أو إيثار السلامة ، فأهل غزة لا يهابون الموت ، ويطلبون الشهادة دفاعا عن
أرضهم المقدسة ، والذين لا يخافون الموت ، توهب لهم الحياة رغم أنف الطغاة والغزاة
والمتجبرين .
Kandel2002@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق