تتشكل القصص السّرديّة دائماً من أفكار القاص وخياله الخاصّ الخصب، وتأخذ في أحيان كثيرة جزءاً من شخصية الكاتب فضلاً عن الإبداع الفكري الذي يكتب به.
إنّ قصّة ( أدركها النّسيان) بدءاً من عنوانها تحمل من الإثارة ما يشي بشيء غريب.. ماذا أدرك النّسيان؟ و لمن؟ في ثلاثين نسيانا متتالياً؟
"حكاية امرأة أنقذها النّسيان من التذكر".. و هذا بحدّ ذاته يحمل من الصّور النّفسيّة شيئا كثيرا فمما نعرف في العلوم النّفسيّة إنّ ذاكرة النساء لها من القوة الشيء الكثير ولا تنسى.
تبدأ الكاتبة الدكتورة سناء الشعلان روايتها بتعريف شامل جامع أدبيّ نفسيّ بالقول "من ملحمة مزامير العشاق في دنيا الأشواق من عشق حجة على من لا يعشق و من تألم حجة على من لم يتألم.. عندما تحترق الأوطان يصبح العشق محرماً إنّه الميتم في كل مكان"، و كأنّها تنقل ذاكرتنا النّفسيّة إلى أيّام الحرب الكثيرة التي عشناها في العراق، و كيف كنا نخاف من الحب خوف الحرب و ما تجنيه من أرواح.
الضّحّاك سليم بطل الرّواية الرئيس و هناء الحمراء النارية بما يمثلانه من حياة اليتم و الغربة المأساوية.. من الميتم إلى الشارع إلى التبني و الحياة القاسية التي عاشها سليم الضّحّاك مع عمه، كما تتساءل عن الذّاكرة و عطبها، و هل أدرك الذّاكرة أي عطب؟ أم أنّ العطب أدرك حياة البطلين حاله حال حياتهم المأساوية في الميتم؟ فالاثنان عانيا من طفولة معاقة مؤلمة.. تعنيف.. اعتداء على طفولتهم. عدم الإحساس بمرحلة النمو و المراهقة مع شظف العيش الجوع و الإحساس بالغربة داخل محل إيوائهما في ملجأ الأيتام...
بحث الضّحّاك عن حبيبته بعد خمسين عاماً كان خلالها يتذكر اللحظات الحميمية بينهما في الطفولة و شكواها له من المآسي التي تعرضت لها و التي لا مجال للحديث عنها هنا. وهناك أثر للحاجات النّفسيّة في الرّواية تمثّل بوقوف بطل الرّواية أمام تمثال لفتاة يشكوا لها ما يعانيه يتأمل جمالها يشاورها باسم حبيبته المفقودة.. و تأتي مفاجأة وجود حبيبته أمام عينيه عند التمثال.
تأتي الانتقالات التي يستطيع الباحث تسميتها (إخراجية) في القصّة، فنرى انتقالاً سينمائياً في شريط ذكريات البطل بتتابع سني حياته وصولاً إلى عمره الكبير في القصّة، و عودة الرّوائيّة الدكتورة الشعلان إلى انتقالات تأريخية بعيدة في قصّة كلكامش و بحثه عن عشبة الخلود و الحصول عليها، وحصول سليم الضّحّاك على حبيبته اختياراً نفسيّاً رائعاً.. يعطي موقفاً بطولياً أكبر لبطل القصّة، و يشد القارئ لمعرفة حيثيات حياته.
إنّ مرض العاشقة كان سبباً لإظهار الدفين في شخصية سليم و حنانه، كما كان دفتر ذكرياتها سببا بإظهار شخصيات كثيرة في الرّواية كان أهمها سليم نزيل الغرفة (48) في المستشفى، و (ثابت) الشخصية الجريئة بطل المقاومة.
وتذهب بطلة القصّة إلى الحزن بوجود قبرين بقلبها لوفا ذيب و ثابت.. و هنا تورية عن الحزن الدفين بداخلها الذي سنراه في مكان آخر أقوى..سيرد تفصيله لاحقاً... العمل مع شخصية مثل عيسى الإقبالي.. يجعلها تشمئز من فكره و أفعاله السيئة فهو يطلب منها ستر شعرها، لكنه يهتك شرفها بكل سهولة، وهو بنفس سلوك شخصية (أفراح الرّمليّ) الذي كان في الميتم حارساً، لكنه ينتهك كل معايير الشرف. كما وصل الأمر إلى مقارنة عملها بالمبغى بما عاشت في الميتم.
(هملان أبو الهيبات) و شخصيات أخرى تشير إلى الإخفاق النفسيّ والمرض الجسدي النفسيّ الذي يعانيه البعض.. وصولاً إلى نهايات الرّواية نستطيع الخروج من التسع و عشرون ليلة و ليلة (إنّ صحّ تعبيرنا عنها بذلك) إنّ الرّوائيّة الدكتورة سناء الشعلان نقلتنا في الجانب النّفسيّ إلى الآتي :
القلق النفسيّ الذي عاشه أبطال الرّواية.
الجنس و دوره في لاشعور أبطال الرّواية وفقا لنظرية فرويد في التّحليل النفسيّ.
مراحل التطور في (هرم ماسلو) للحاجات النّفسيّة بدءاً بالحاجات الفسيولوجية مرورا بالحاجة للأمن، وصولا إلى ما ذهب إليه البطل من تحقيق الذات في هجرته إلى خارج الأرض التي نشأ بها.
التأكيد على أهمية (الوطن) إذ أخذنا بنظر الاعتبار (التورية في القصّة) باعتبار (بهاء) الوطن السليب بالمرض اللعين.. و (بربارا) المحتل الذي يحاول إغواء (سليم الضّحّاك) بكل الوسائل كي يبعده عن أرضه الحقيقية
و حبه.
الأمراض النّفسيّة التي يحملها بعض شخوص الرّواية و التي تحتاج لعلاج تركته الرّوائيّة الدكتورة سناء الشعلان لذهن القارئ اللبيب الذي يستطيع إيجاد المخرج و العلاج لبعض الشخوص المريضة.
ذكاء البطل (سليم الضّحّاك) في ايجاد الوسائل الملائمة للحصول على حبيبته من خلال إشعال وسائل التواصل الاجتماعي بصوره و نشر صوره على الكتب علّ و عسى أن تجده الحبيبة الغائبة.
التوظيف النفسيّ للتمثال كي يبرز بدور الدليل لإيجاد الحبيبة بينما لم تستطع الشخوص البشرية إن توصل سليم الضّحّاك إلى حبيبته.
في العلوم النّفسيّة والتّربويّة تعد الذّاكرة ببعدين ذاكرة بعيدة المدى وذاكرة قريبة المدى، و قد وجدنا كيف أن الذّاكرة البعيدة تعمل لدى أبطال الرّواية و قد سجلت (بهاء) كلّ ما مرت به على الورق، وكان لذاكرة البطل البعيدة و القريبة دور في تذكر الأحداث.
لقد عملت الدكتورة سناء الشعلان، بالتصوير النفسيّ الرّوائيّ كما أسلفنا عمل المخرج المبدع بالانتقالات بين الصّور المتخيلة للرّواية، بل أنها نقلت المتلقي إلى صور حقيقية عندما تحدثت عن العلاقة بين باربرا مثلاً و الضّحّاك أو بين بهاء و الضّحّاك، وكذلك في تصوير علاقات الرّمليّ مع الساكنات بالميتم و حتى بعلاقته مع مديرة الميتم، في انتقالات متميزة تشغل خيال القارئ، وهذا لوحده يعد عامل جذب نفسيّ في الرّواية.
ختاماً: إنّ النّهايات المفتوحة في الروايات تفتح الباب أمام المتلقي، وتفتح باباً للراوية في إنشاء مدخل آخر لقصّة جديدة، و هذا ليس بجديد على الرّوائيّة المبدعة الدكتورة سناء الشعلان بما قدّمت، واشتغلت، وأشعلت أفكار القارئين والنقاد على السّواء بما قدّمت، و تقدم.
0 comments:
إرسال تعليق