اذكر جيدا عندما كنت طالبا في الدراسات العليا العام 2000, اني كلفت بكتابة بحث عن ايديولوجية احدى الانظمة السياسية, فاخترت البحث والكتابة في ايديولوجية الحزب الشيوعي الصيني, واستوقفتني كثيرا المراحل التي مرت بها الصين, وكيف استطاعت بناء دولة قوية على كافة الاصعدة اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا, عبر بناء منظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية تعد الاكثر انضباطا من بين دول العالم. وكنت قد وضعت تصورا مستقبليا عن تطور الصين يؤكد ان العام 2010, سيكون عقدا صينيا بامتياز, واكدت فيه على ان المعجزة تكمن في وجود نظام قادر على طعام شعب تجاوز تعداده المليار واربعمئة مليون نسمة, فما بالك في جعل شعب بأكمله منتجا لا مستهلك, واستطاعت الصين ان تنتقل من بلد كان يعتاش من الزراعة لا يمتلك اي مورد من موارد الطاقة, الى بلد مصنع لملايين المنتجات, التي تغزو اسواق العالم.
ان مما يثير الانتباه والاعجاب تطور الصين الملحوظ في الربع الاخير من القرن العشرين فمنذ الثورة الثقافية التي قادها زعيم الثورة الصينية (ماو تسي تونك)الى يومنا هذا نجحت الصين في المزاوجة بين النظام الاشتراكي والرأسمالي لإيجاد نظام اقتصادي ناجح جعل من الصناعات الصينية تكاد لا تخلو منها قرية او مدينة في العالم. وكان من جملة الاسباب التي دعت الامة الصينية الى الاعتماد على النفس, ان الصين دولة فقيرة الموارد واقتصادها زراعي بالدرجة الاساس, ثم ان الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة كانت تلقي بضلالها على المشهد الصيني, ومع ان الصين كانت تتبنى نهجا مشابها لنهج الاتحاد السوفيتي الا ان السوفيت شعروا بإمكانية تهديد الصين لمصالهم وربما تفوقها عليهم مستقبلا وهو ما حصل فعلا لذا لم تتلقى الصين دعما من الاتحاد السوفيتي. وفي الوقت ذاته, كانت الولايات المتحدة تضع الصين ضمن قائمة الدول المحسوبة على المعسكر الاشتراكي المعادي لتوجهاتها في قيادة العالم الى جانب المشاكل التي خلفتها الحرب العالمية الثانية وطبيعة علاقة الصين مع جيرانها كاليابان التي كانت تحتل اجزاء من الصين والنزاع الصيني الهندي على الحدود واقليم التبت ومشاكل اخرى عديدة. كل ذلك جعل الصين تشعر ان مستقبل وجودها كأمة هو في الاعتماد على النفس وتحشيد طاقات شعبها باتجاه العمل كخلية النحل لبناء نظام اجتماعي واقتصادي وعسكري ناجح يضع الصين في مصافي دول العالم المتقدمة اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا. وبالتالي الوصول الى ان يكون الاقتصاد الصيني الانجح عالميا, فاليوم يشكل ما يقرب من (22%) من مجموع ناتج الاقتصاد العالمي. واكثر ما يثير الاعجاب هو الانتقال السريع وفي عقود بسيطة الى الاقتصاد الصناعي المبني على قاعة تكنولوجية متطورة والسيطرة على السوق العالمية.
ولاشك ان ما يمر به العالم اليوم من تطورات واعظمها تفشي وباء (كورونا فيروس كوفيد19) يعد امرا مزعجا ومروعا بكل المقاييس. ففي الوقت الذي تم اكتشاف الفايروس في مدينة ووهان الصينية التي تأتي منها ما يقرب (75%) من مجموع الصناعات الصينية اتخذت الصين جميع التدابير الممكن اتخاذها في سبيل احتواء الفايروس بالسرعة الممكنة. ولا اعتقد ان هنالك دولة في العالم عدا الصين بإمكانها ان تقوم بما قامت به الصين من تدابير للحد من انتشار الفايروس الذي تفشى في المدينة وخلال ايام كما تتفشى النار في الهشيم, فالصين وحدها تمتلك القدرة على انشاء مستشفى لعزل المصابين بالفايروس, مجهز بأحدث التقنيات التكنولوجية في عشرة ايام, وهي وحدها القادرة على ضبط واحضار وعزل المصابين بالكيفية التي شاهدناها عبر وسائل التواصل الاجتماعي والفيديوهات المصورة من المناطق التي سجلت فيها اصابات بالفايروس.
ان من الامور التي تحسب للصين بغض النظر عن تعدد النظريات حول حقيقة تفشي الفايروس ومن يقف ورائه, فالصين وبامتياز نجحت في السيطرة على الوباء. وذلك يعود بالأساس الى طبيعة النظام الصيني الذي يمتاز بالانضباط والجدية ومركزية القرار فدول كبيرة في العالم باعتقادي لو ان الفايروس ابتدأ عندها لوقعت كارثة انسانية اكبر واعمق مما نعيشه اليوم والشواهد حاضرة امامنا كثيرة كإيطاليا وايران, والتي لم تنجح في الحد من انتشار الفايروس, وفشلت في احتواءه وفي معالجة المصابين وعزلهم, وسجلت اصابات بشكل متزايد وحالات وفيات في تصاعد مستمر, حتى وصلت الاصابات بالألف الى يوم كتابة المقال, والدول التي اعلنت عن تسجيل اصابات بالفايروس وصلت الى اكثر من (130) دولة, بينما تتجه الصين الى الاعلان عن انتهاء الازمة واحتواء تفشي الفايروس. وهذا يعود باعتقادي بالإساس الى القرارات التي اتخذتها الحكومة الصينية, كالقرار بإعطاء الاولوية لإنقاذ ارواح الشعب الصيني كأولوية ثم العمل على التقليل من اثار الازمة اقتصاديا, ثم ان الصين لم تتأخر كثيرا في الاعتراف بوجود الفايروس, ولم تتأخر كثيرا في ترتيب اولوياتها. لذا اعتقد ان الصين اليوم قدمت نموذجا اخر يحتذى به يضاف الى سجلها الحافل بالإنجازات الاقتصادية, بان الثروات لا تصنع الامم, ولكن الشعوب والامم هي من تصنع الثروات والتقدم والرقي, وانه في الازمات تظهر مدى رقي وجدية الانظمة السياسية في الحفاظ على شعوبها ومكتسباتها التي حازتها عبر عقود من العمل الدؤوب. ويبقى السؤال الاكثر جدلا الذي يعتري صدورنا, كم من ازمة وكم من كارثة وقعت او ستقع, حتى يتنبه مسؤولينا الى اهمية الشعوب وتنميتها في بناء البلدان وتكوين الثروات الوطنية التي اساسها الشعوب, فمن يصنع شعبا متعلما مبتكرا خلاقا سيصنع امة عظيمة وثروات لا تنضب.
*كاتب المقال
استاذ العلوم السياسية
والدراسات الاستراتيجية والمستقبلية\
جامعة بغداد
0 comments:
إرسال تعليق