النصّ الذي بين أيدينا هو للشاعر جواد الشلال؛ شاعر عراقي مقتدر بأدواته، مهني في عمله، فهو عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء العراقيين، في مرحلة الكهولة من العمر، لكنه بروح شبابية تداعب الابتسامة شفتيه دوماً، له منجزات كثيرة، معروف في الوسط الأدبي المحلي والعربي؛ هذا باختصار جزء يسير من سيرة ذاتية مفعمة بالعطاء.
ما كتبه مؤخراً على صفحته الشخصية ( الفيسبوك) أثار لدي رغبة التعليق على ما كتب، لكني لم أجد الكلمات التي أردُّ بها معلّقاً. تمعّنت مرات عدة فيما كتب فجالت في خاطري فكرة قراءة موجزة لنصّه الجديد وفق طرح مجموعة من التساؤلات نعود اليها بعد قراءة كلماته:
شيءٌ من هذا القبيل
"كنتُ أتعمّدُ أن أضعَ كتاباً على الكرسي الفارغ أمامي، كنت أحلمُ بأنّكِ ستأتينَ يوماً ..
على مدارِ اجازتي الدورية، التي أقضيها في شارعِ دورِ السينما، ومقبرةِ السَّلامِ، وأحيانا بالمكتباتِ التي تبيعُ المجلاتِ والكتبَ الرخيصةَ، أذهبُ بعدها إلى الحديقةِ التي رأيتكِ فيها، لم أسمعْ الكثيرَ من الأحاديثِ سوى أخبارِ الحربِ التي أعيشُ في أتونِها، وأخبارِ بيعِ البخورِ والسمكِ، وارتفاعِ أسعارِ بيعِ الجوازاتِ المزورةِ.
لا أخبارَ عنكِ، لا أرى الورداتِ الملونةَ في تنورتكِ الطويلةِ، ولا حقيبتكِ الجلديةِ الصغيرةِ، ولا اشمُّ عطرَكِ " بروت"،
وكنا نضحكُ على اختلافنا بأنَّ العطرَ رجاليٌ، لكني كنتُ أحبُّ العطرَ لدرجةِ أن أحتالَ كثيراً نحو عنقكِ بحججٍ واهيةٍ للاستمتاع بحاسةِ الشَّمِ المغايرةِ التي أدمنت رائحةَ الملاجئ ،
لم أسمعْ صوتَكِ الناعمِ لدرجة أنني كنت اشبِّهُكِ بالقطةِ الكسولةِ،
كنت أرصف كلَّ التفاصيلِ واخزنُها ذكرياتٍ تمدُّني باللهفةِ والعطشِ ونشاطٍ عقلي بأماكنِ المدينةِ، عند انتهاء إجازتي..
قبل يومٍ من نفاد إجازتي وجدتكِ، لم أرَ سواك والحزنُ الذي يلفُّ ثيابَكِ، وشيئاً من وجهِكِ؛ وقتها نسيتُ أن أضعَ كتاباً على الكرسي الفارغِ، لم تَجدي مكاناً لك، رحلتِ وتركتِ لي كتاباً مملوءاً بالطلاسمِ".
انتهى النص/ بقلم جواد الشلال
هل هذا النص قصيدة نثرية، أو مثلما عبّر البعض أنها تنتمي الى قصائد السردية التعبيرية التي نميل الى تسميتها: القصائد التجديدية؛ استناداً لأدلة استنتجناها على شكل بحوث نقدية منشورة في صحف عديدة، ومجلات أمريكية محكّمة؟ أم أنَّ ما كتبه الشلال لا يعدو كونه قصة قصيرة تحددها ضوابط القصة القصيرة، سواء للمتلقي القارئ المثقف المتابع، أو الناقد المتخصص؟ أم هي خلاف الشكلين السابقين، خاطرة من خواطر الكتاب بأيّة صورة، وأيّ انتماء؛ حِرَفياً أو هواية؟
التحليل:
مع أن النص يبدأ بثلاثة أفعال كان من الأفضل بدايتها بفعل واحد، لكننا نبدأ دراسة هذا النص اعتماداً على رؤية عامة فيما تحدثه للمتلقي ( القارئ)، و رؤية خاصة يتبناها الناقد استدلالاً إن شاء في وجود أثر إبداعي لاحق، أو أن هذا النتاج لا يحمل بين طياته مضامينَ هادفة.
بمعنى آخر الوقوف عند اللغة الفنية المكتوب بها النص، أو الملاحظة الدقيقة لأي عمل يقدمه فاعل ما، ضمن مجالات الحياة المتعددة، ثقافياً، سياسياً، تربوياً، أو فنياً محضاً وغيرها.
هنا جاءت اللغة سهلة واضحة بلا تكلّف أو تعقيد، اضافة لجمالية صوَّرَها الكاتب بمعانٍ متعددة. هذه المرتكزات الثلاث: اللغة، الجمال، والمعنى تأخذ القارئ بعيداً الى تصورات متداخلة تفاعلياً حين ينتهي النص:
" رحلتِ وتركتِ لي كتاباً مملوءاً بالطلاسمِ".. قفلة النص، وهذا أحد الأدلة على أن النص ليس قصيدة شعرية، إنما شيء مختلفة قصديّته، واضحة للعيان، تبناها الكاتب (الشاعر) مجنّساً نصّه بهدوء وأريحية، يعرف ما يريد مسبقاً فيما لو أعيد قراءة النص مرة ومرات كي تنكشف وتتجلى بعض الحقائق المضمرة لمن يظنّ برمزية ما كُتب بها النص؛ التي لا تحتاج لتمحيص دقيق طالما عرف المتلقي أنها مجرد ذكرى انبثقت من حلم يقظة بكل تأكيد: " كنت أحلمُ بأنّكِ ستأتينَ يوماً ".. الذكرى والحلم هما بؤرة واضحة للنص دارت عليهما الأحداث؛ لكن ما هي طبيعة تلك الاحداث السردية الحكائية؟
تلك الأحداث روت بصورة مباشرة قصة بطلها الكاتب، أو التصوّر أنه الكاتب فعلاً، أي أنها حكاية تجلت مبانيها، وليست تفتقد لبطل مضمر خارج السرد، كما يقال عن ( القصائد التجديدية) التي انطلقت في زمن قلنا عنه مراراً أنه زمن (ما بعد- ما بعد الحداثة) وأسميناها في بحوثنا: (الحداثة التجديدية) التي قد يختلف معنا من يختلف، أو يتفق من يتفق. وهذا دليل ثانٍ على أن النص (شيء من هذا القبيل) لا ينتمي للشعر سواء التجديدي، أو الحداثوي.
من الملفت للنظر- في محاولة للتجنيس- أن القصائد التجديدية حسبما أراد لها روادها، أو من كتب قراءات عنها كما في بعض ما كتبناه سابقاً؛ هناك صفة مميزة لتلك القصائد: أنها تُكتب بكتلة واحدة بعيداً عن التنقيط والتشطير وتقطيع الفقرات بنقاط متتالية أو بعد نهايات العبارات، رغم أن كثيرين شذّوا عن ذلك وباتوا يعودون لكتابات مشابهة للخواطر، أو هي كذلك، وهذا مخالف للشروط والضوابط التي قامت عليها القصيدة المسماة قصيدة السرد التعبيرية التي يكتب بها أحيانا الشاعر جواد الشلال، كما قال ذلك عنها (السرديون) مؤسسوها ومن وضعوا قواعدها.
ما كتبه الشلال اليوم ليس نصاً موازياً لنصوص قصائد السرد التعبيرية حسب ضوابطها المعمول بها. لم يكتب بكتلة واحدة مطلقاً، وهناك تقطيعات كثيرة وجمل مفردة انساقت تسير مساراً مختلفاً عما هو الشائع المألوف للسردية التعبيرية. وهذا الدليل الثالث على أن نص جواد الشلال لا ينتمي لقصيدة السرد التعبيرية (القصيدة التجديدية) الطامحة بقوة أن تكون جنساً أدبياً لأنها بصدق تستحق ذلك إن بقيت على مسارها الأول وما صاحبها من ابداعات متجددة ولن تخرج لتكون خاطرة.
بقي شيء مؤكد أن الشلال كتب قصة قصيرة عنوانها هو رأس النص بسيميائيته البيّنة: "شيء من هذا القبيل".. توصيف يقابل توصيف مضاف؛ كما لو أنه أراد لنا فهم التالي:
هذا جزء من قصتي و سيرتي الماضية أيام الحرب:
" على مدارِ اجازتي الدورية، التي أقضيها في شارعِ دورِ السينما، ومقبرةِ السَّلامِ، وأحيانا بالمكتباتِ.." هي إحدى ذكرياتي التي رويتها لكم، أو مستقبلاً لي مثلها معكم، وبمعنى أكثر وضوحاً أيها الأصدقاء؛ هي واحدة من رسائلي اليها: " لم أسمعْ صوتَكِ الناعمِ لدرجة أنني كنت اُشبِّهُكِ بالقطةِ الكسولةِ".. تلك المجهولة، او المعشوقة الغائبة التي لا نعرفها نحن القراء.
إن تحليل مضمون هذه القصة القصيرة واضح جداً جراء اضفاء متعة القراءة عليها بلا تشويش، كون الحدث الأهم في الوصف أنه أيام معركة استمرت طيلة ثمان سنوات ( الحرب العراقية الإيرانية) مع أن الكاتب لم يذكرها صراحة، لا هي، ولا المكان (بغداد، النجف ومكان جبهة القتال) لأنَّ الدلائل واضحة تدلُّ عليه، بل تركها للمتلقي كي يشركه معه في التأويل والتحليل والتصور، ليدرك ماهيّة وفلسفة ما مكتوب، وحالة ذلك المحارب في واحدة من اجازته بعد انقضاء شهر، وأحياناً أكثر بكثير، وهو في جبهة القتال يتصارع مع الموت كل دقيق وربما يتوقعه آتيه طالما شظايا النار فوق رأسه.
كتب جواد الشلال قصته مستفيداً مما أعطته نظرية الجمال والتلقي من ضوء المشاركة الوجدانية للمتلقي، لأنّه فاعل مهم في الحدث، ومتفاعل أصيل ضمن سيرورة الحركة الكيفية لتلقي الرسالة الاعلامية من مرسل ( الشلال)، ونص ( شيء من هذا القبيل).
من أهداف العملية الاتصالية تحقيق المتعة للمتلقي ضمن التشويق النصي، ونقل المعاني بوضوح إليه تصويرياً بكلمات مفهومة غير مرّمزة صعبة الفهم خالية من ( الرتوش) بلا تشويش. لقد نجح الكاتب هنا في إيصال رسالته بدلالات لغة اتصالية، ووسيلة اتصال جماهيرية ( الفيسبوك). لم نجد كقراء، وباحثين تلك اللغة الحشوية المملة هنا، بل لغة بما تحمل من شعرية - كون الكاتب شاعراً – تم توظيفها بنائياً وبيانياً، ما يعني قوة النص، ونجاح النّاص فيما كتب.
لابد هنا أيضاً من ملاحظة مهمة، وهي أن مثل هذه النصوص (كقصص قصيرة) ولا أعني جواد الشلال قطعاً؛ عندما تأتي أحياناً نتاجاً من هواة موهوبين وقفوا عند أولى عتبات الكتابة، تحتاج منّا جميعاً اهتماماً خاصاً، والوقوف معهم دعماً للإبداع، وتشجيعاً لعطاء مستمر، كي لا يُصابوا بخيبات أمل تنهيهم للأبد كما أنهت من قبلهم أقلام نقاد يتحملون وزر وأد أدب قد يكون يوماً ذا شأن.
0 comments:
إرسال تعليق