دراسة:ا.د. عبد الكاظم العبودي / الأمين العام لحركة اليسار التقدمي في العراق
قضايا الانتقال وحوار الأجيال
ولا بد أن الحركات الجماهيرية المستقبلية تكون نواتها ومحركها حركات الشباب التي تكون مشبعة بهواجسها الوطنية والقومية وتتعزز قدرتها على استيعاب كل التيارات التي تتوافق مع الاستجابات الشعبية ، ولا يضير آن يتواجد فيها الإسلامي واليساري واليميني والليبرالي والقومي، شرطها خلال الانتفاضات الشعبية أن تكون على توافق وطني وتتجاوز الخلافات السياسية الموروثة لدى الكبار من السياسيين، وأن يكون من أهم شروطها الاستعداد نحو التغيير والقدرة على خلق كتل سياسية أكبر، مؤمنة بالتغيير الفعلي، ولا تتجادل طويلا وكثيرا وتتوقف عند المسائل الايديولجية والنظرية التي لا تمنحها سوى المزيد من الانقسامات والتفكك وحتى الصدام أحيانا، وهذا في مصلحة خصومها.
إن الأحزاب والحركات الوطنية منها والقومية العريقة، والتي امتدت وتشعبت وتغلغلت لسنوات في مفاصل الحياة العربية بشتى أقطارها تخطأ كل الخطأ إن اشتغلت على مبدأ الكسب والتكسب التنظيمي التقليدي لها ولأنصارها واستبعادها الآخرين ومحاولة إقصائهم عن ساحات تواجدها ، ولهذا لا بد من توفير فرص التفاعل والحوار الديمقراطي بأجواء من الحرية الفكرية واحترام مواقع ومكانة الآخرين والسعي إلى بناء التحالفات الجبهوية انطلاقا من الحد المشترك الأدنى، وبس من مستويات وشروط السقوف العليا لأي تحالف مطلوب، وفي حالات التحالفات ليس بالضرورة أن يتم كل شئ بالتوافق بكل شئ .
إن التنوع الإيديولوجي في كل حراك سياسي أو اجتماعي وفي كل تحالف أو حراك سيكون مصدر قوة، وليس سببا للانقسام والتشرذم؛ولا بد من توزيع الأدوار، وفقا للقدرات المختلفة التي تتمتع به كل عناصر التحالف، وخاصة بين الشباب ومنظماتهم التي تتوافر فيها خلفيات ورؤى فكرية مختلفة، ولا ضير من اتخاذ القرارات في نشاط المجموع المتحالف والجبهوي عبر التصويت، وهو ما يقلل من الخلافات الداخلية ولا يحمل المسؤولية طرفا دون آخر.
ويجب أن لا يجري التطير والتخوف من تلك المجموعات التي تعمل خارج اطر الأحزاب والتكتلات الحزبية التقليدية، وفهم طبيعة وظروف ونشاط عمل تلك المجموعات، والذي يبرره البعض منها: إما خوفا من الملاحقة والقمع أو الاتهام بها من قبل النظام السياسي الحاكم.
لهذا لا بد من العمل والنشاط خارج الأطر والقنوات والتحالفات التقليدية قدر الإمكان بالمحافظة على بعض التنسيق والتعاون والتقارب، وليس بالضرورة اللجوء إلى الضم والإلحاق وتطابق الرأي بالكامل.
إن أفضل الحالات في الحركات الاحتجاجية الشبابية الجديدة تلك التي تتسم بطابع تحالفي أو تنسيقي عابر للإيديولوجيات، والتركيز على الأهداف المشتركة والعمل السياسي المباشر أو تحقيق الحراك على الأرض والساحات، والابتعاد عن السجالات والمناكفات الفكرية والنضالية ولا بد من الابتعاد عن روح الأنا المضخمة المعبئة بالنرجسية الثورية والتنظيمية التي تحملها شخصيات وكوادر الأجيال السياسية السابقة.
كما لا بد من الاهتمام بالاغلبيات المجتمعية الصامتة في كل القطاعات، ولا يستهان أيضا بأقلياتها، ولومها من عدم ظهورها بارزة في بعض المناسبات والتظاهرات وبعض أنواع الحراك الاجتماعي أو السياسي ، وترك الأمر لها في تقديرها للأخطار التي تتخوف منها عند الكشف والتعرض للقمع السلطوي وحتى الاجتماعي أحيانا.
إن ثمة خطاب شبابي عربي ثوري بدا يبرز في كثير من البلدان العربية وهو تقدمي في مضمونه موحيا بآمال الشباب ومجتمعاتهم في الإصلاح، من أهم ميزاته انه يفهم لغة التكنولوجيا وتطورها ويدرك قدراتها الرقمية وإمكانياتها في الاستقطاب والتعبئة واستهداف الخصم وزعزعته بأقل الإمكانيات المتاحة لدى الشباب عندما يتوفر الوعي السياسي والاستعداد في الانخراط به وتتوفر الهواتف الذكية والحواسيب المرتبطة بشبكة الانترنيت وقدرات ووقت وتشكيل خلايا مركزية تتابع حالات التعبئة الجماهيرية وإيصال صوت الشارع الذي خانته المؤسسات الإعلامية الرسمية للدولة وتجاهلته النخب السياسية المتواجدة في برلمانات مغشوشة ومعينة بطرق التزوير والاستلاب السياسي وتطبيقات الديمقراطية المزورة .
وإذا كان المواطن في المؤسسة والعمل والمدرسة قد تم تدجينه بوسائل القمع أو الاحتواء والترهيب والترغيب لكن الفضاء الافتراضي حرره من الخوف ومنحه إمكانيات التخفي والحماية ، وكذلك أعطاه فرص التحدي والابتكار وحتى المقاومة و تشكيل وتنظيم قيادات للحركات الاجتماعية والتفاعل معها وتغذيتها وتعبئة الناس من حولها، انطلاقا من وجود المواطن العادي و من لحظة الفضول والاقتراب من الحراك حتى قرار الانخراط بصفوفها والنضال في صفوفها وفق ظروفه وقدراته وإمكانياته وموقعه الاجتماعي والعلمي وحتى سنه ومحل إقامته وهو ما يسمى بالتفاعلية التي لا ترتبط بالضرورة الحتمية بالمكان أو الزمان وتجاوز الفروقات الاجتماعية والسياسية والثقافية على مستوى كل قطر أو إقليم وحتى على المستوى الوطني والقومي.
هنا لا بد من الإشارة والتنبيه من أخطار أخرى قد يتغافلها البعض من نشطاء العالم الافتراضي تكمن في طبيعة وسهولة الاختراق في المجال الالكتروني والسيطرة على شبكات ألنت من قبل مصادر وقوى رصد عالمية مرتبطة بشبكات التجسس ورصد المخابرات الدولية وخاصة الأمريكية منها ،وما لم يتم الاحتراس من ذلك فسوف تنتكس الكثير من حالات الحراك السياسي والاجتماعي في البلدان العربية ، لأن نشطاء المجتمع الافتراضي مثلهم مثل نشطاء الطبقات والفئات السياسية والاجتماعية التي بنت عليها استراتيجيات الأحزاب التقليدية سابقا ، يعملون في ظروف وأدوات معقدة وخطرة أيضا تكمن قي هيكلة المجتمع الافتراضي الذي لازال هشا إزاء حالات الهكر والاختراق وحتى التخريب.
والهيكلة الافتراضية تحتاج غالى قادة نابهين وطبيعة عملهم على الأرض وفي المجال الافتراضي لا بد إن تتم بذكاء يتجاوز ظروف الأمية الالفبائية التي يعرفها العمل السياسي التقليدي وحمايته من رصد القمع والبوليس التقليدي إلى جمع النشطاء الجدد واختيار القادة منهم بخطة وذكاء ودراية عالية خاصة عند دعوة الفاعلين إلى الانخراط ضمن النخب المعلوماتية والسياسية والاجتماعية الساعية إلى التغيير المستقبلي في بلدانهم ، ولا بد من تهيئة ظروف ومستلزمات الانتقال الديمقراطي ومراحل الإصلاح على الأرض والساحات وفي المدارس والجامعات ومنظمات المجتمع المدني ، وهم يعملون أيضا على إعادة النظر بكل المفاهيم الطبقية التقليدية السابقة ، حيث يشكل هؤلاء النشطاء مع جمهورهم المتفاعل والمشارك معهم في الحراك الثوري ضمن تشكيلات وطبقات جديدة من النخب السياسية والاجتماعية التي تكون قد أدارت ظهرها فعلا إلى تلك النظم التسلطية التقليدية الموروثة في مجتمعاتنا ،كتلك النظم القمعية والمترهلة والفاسدة التي أدارت ظهورها لمجتمعاتها وأهملت شبابها واقتسمت خيرات وامتيازات البلاد من دون رقيب آو حسيب لها. ولا شك أنها ستجد في الوقت نفسه الكثير من الاختلافات في نمط التفكير والحرية وروح المبادرة التي لازالت ضعيفة لدى التنظيمات العاملة في مجال المعارضات السياسية التقليدية، التي تميل إلى المحافظة وحتى رفض الليبرالية وأحزابها الجديدة وتوجهاتها العولمية.
قليلة هي النخب الناشطة في الفضاء الافتراضي التي شخصت وكشفت أكذوبة السياسات الليبرالية الجديدة وكثير من مدعي الحداثة وما بعدها، خاصة تلك الجماعات التي رطنت بها السنة نخب محسوبة على أجهزة الحكومات العربية أو تعرض نفسها كوكلاء لتمثيل التوجهات الغربية ومشاريعها في المنطقة. وهي في نفاقها السياسي والإعلامي لم تحسم موقفها بطريقة ثورية وواضحة بعد في مواقف وممارسات عدة لاحظناها تسترت تماما على كل الإمراض والخلل الاجتماعي وما أصاب الشعوب بكل طبقاتها من أمراض يغذيها التدخل الخارجي ويستدعي التحرك الاجتماعي المطلوب جماهيريا وعلى الأرض مواجهة وايقاف مظاهر الفساد المالي والإداري المتغلغل في جسد الدولة القطرية إضافة إلى الفساد الذي ينخر أيضا في هياكل الحركات السياسية وأحزابها وفي مضامين خطابها المستهلك دون تأثير وفاعلية.
لازال هذا الخطاب السلطوي وحتى السياسي المعارض ينتقص ويتجاهل فاعلية الحراك المعبر عنه عبر الفضاء الافتراضي باعتباره لازال بعيدا عن اقتحام أجهزة السلطة وكواليسها وقدرة الأنظمة السياسية على احتواء معارضيها وتدجينهم وشراءهم بالرشى والصفقات .
لقد فاجأت الثورات العربية أكثر القوى ثورية وتفاؤلا حين كشفت مكامن الضعف في التعبئة والحراك المطلوب نظرا لما ينظر إلى هذا الحراك بعد خفوت موجة الربيع العربي واعتباره مجرد حركة احتجاجية قد تكون عابرة، ومحدودة الأثر في كثير من البلدان، كما حدث أخيرا في إيران، ويعتقد البعض أنه يمكن إيقافها بوقف نشاط شبكة الانترنيت وإطلاق أبواق الفضائيات الخاصة للتعبئة ضد أي حراك محتمل.
وغالبا ما تنسب الأنظمة القمعية أن الحركات الاحتجاجية منسوبة إلى فعل خارجي أو تحركه جهات من دول معينة ومعادية، ولهذا تم إهمالها ونسب إلى الربيع العربي وقواه ما نسب إلى ذم الخمرة من المنكرات والموبقات.
كما أن القوى السياسية التقليدية التي تفرجت على الحراك العربية وربيعه عادت شامتة لما آل إليه الوضع العربي، واعتبر البعض : إن كل ما نجم عن الربيع العربي مجرد متاهة قادها برنار ليفي وكوشنر وأمثالهما وحركته أصابع الصهيونية وإسرائيل، وكواليس استوديوهات قناة الجزيرة وغيرها وبتخطيط وإدارة أمريكية وعولمية محكمة.
ومهما اختلفنا مع كل هؤلاء في معايير التقييم للمحصلة النهائية لنتائج الربيع العربي وعن ما جاءت به حصيلة إرهاصات الثورات العربية خاصة فان الأحداث، بما يحسب لها وعليها ،عبرت عن نوع من أنواع الانقطاع والصراع بين الأجيال الجديدة وذوي السلطة في المجالات الأكاديمية والإعلامية والسياسية ، كما عبرت عن مضمون عميق للاحتقان الشعبي العام على مستوى اغلب الأقطار العربية، ورفض الجماهير العريضة بكل طبقاتها الاجتماعية وأجيالها لأساليب القمع والاستبداد ومحاصرة الحريات واستفحال مظاهر الفساد .
ومثل شعار " الشعب يريد إسقاط النظام" الذي رفعه شباب الثورة الشعبية في اغلب الساحات التي رددت صداه، بصيغة أو أخرى، تحديا لم يألفه الشارع العربي من قبل، مقارنة عندما كان مثل هذا الشعار يلفظ همسا أو نشرا ببيانات مسحوبة بالات الطبع الورقي أو يكتب تحت جنح الظلام على حيطان المدن العربية النائمة ، غالبا ما تمسحه دوريات الشرطة ورجال الأمن وحتى بعض السكان المرعوبين خوفا من سلطات حكوماتهم قبل أن يخرج الناس المبكرين فجرا إلى أعمالهم ودوائرهم ومدارسهم.
هذه الهبة والروح الجديدة لشباب المدن المنتفضة عبر عن رفض هيمنة وسيطرة وذهنية الجيل القديم من السياسيين التي امتدت إلى عقود من الزمن القريب حتى أيامنا هذه ، هذا ليس على مستوى الأنظمة السياسية ومعارضاتها؛ بل حتى وسط النخب الأكاديمية والبحثية التي ترقب التغيرات الاجتماعية على مستوى البلدان العربية باجمعها وتربطها شبكات تعاون مع جامعات أوربية وغربية ومراكز مخابرات وأجهزة رصد متقدمة ولها عيون في كل زاوية وبيت وركن و شارع ومسجد ومدرسة وجامعة ومقهى.
لقد تنكرت كل الأنظمة القمعية العربية فجأة ، ومن دون سابق إنذار، لماضيها القمعي وبدأت تتكلم عن حقوق الإنسان، وتدين وكالات أنباءها وناطقيها الرسميين والإعلاميين، أساليب بعض من رجال وضباط شرطتها وأجهزتها القمعية ، بل أنكرت دول عربية عديدة سجل جرائمها ووسائل تعذيبها وملاحقة معارضيها، ولكنها اتخذت أسلوب الرقية والتكتم والتستر عن أفعالها، وهي تتابع وتسجل كل ما ينشر على النت وفي شبكات التواصل الاجتماعي من أفلام ترصد حركاتها وتفضحها ؛ حتى أنها حاولت أن تهذب بعضا من أفعالها البربرية والدونية تمام وسائل الإعلام وكآمرات الفضائيات التي يمكن شراء صمتها ، لكنها كانت تعجز ملاحظة ذلك الشاب والرجل والمرأة التي تنشر فضائح السجون وانتهاكات حقوق الإنسان في سجون الوطن العربي .
كانت أخبار الانتفاضات تنقل من أقصى القرى وفي عمق مدن البلاد المنتفضة في مصر وسوريا والعراق واليمن فتقيد من حراك يد أجهزة القمع عند التصدي للمنتفضين.
للأسف لجأ الخطاب القومي العربي على لسان الجيل الأكبر من المحللين المتطوعين في استوديوهات البرامج الحوارية للفضائيات العربية من تقليل همة الزخم الثوري في الربيع العربي واعتبروا نشاط الفيسبوكيين مجرد عملية تنفيس لا جدوى من فائدة منها ، وأنها مجرد عالم افتراضي ميئوس منه نتيجة عزلة شعورية عن العالم الواقعي ، ولكن هؤلاء الشباب وخطابهم الإيجازي والدقيق اثبتوا بأنهم يتحركون برشاقة وفعالية اكبر من سبات ومنامات ديناصورات الكثير من الأحزاب والدكاكين السياسية، المعتكفين في أوكارهم ومكاتبهم الحزبية ينتظرون ورود الأخبار من الجزيرة والعربية والحدث والبي بي سي وقناة الحرة الأمريكية.
فضحت أحداث الربيع العربي أيضا الديمقراطيات الزائفة ولصوص وحيتان الفساد في الحكم العربي قبل وبعد الربيع العربي، وحتى ما امتد من فساد وزيف وتجارة سياسية في أحزاب الكثير من المعارضات العربية.
لعبت المدونات العربية ومواقع معينة لأشخاص ومجموعات في أكثر من بلد عربي دورا في الكشف المستمر لما يجري في عالمنا العربي، فهناك مواقع ومدونات وصفحات شخصية صارت أهم من نشرات وإصدارات أحزاب احترفت النشر السياسي منذ أكثر من خمسين سنة.
وإذا كانت أجيال من السياسيين العرب قد تخضرمت وشاخت، ولم تعد تلحق بمسار الأحداث وحتى فهمها، قيادة وتحليلا، فاعترفت بعضها في لحظة نقد ذاتي جريئة وعلنا برفع ذلك الشعار المدوي القادم من تونس الثائرة كان مدويا حيث صرخ كهل " هرمنا " .
وأشعلت جذوة الاحتجاج بعد أن انطفأت جثة الشهيد بوعزيزي النار في هشيم عربي ناله الجفاف منذ عقود.
يحدد قانون "مور" بتعريفه " الجيل التقني"المحدد بفترة زمنية تمتد بين سنة ونصف السنة ، وهذا القانون بسلطته الفائقة على التنبؤ في مسار التطورات الهائلة في التكنولوجيا لم يؤثر في جميع جوانب الاقتصاد العالمي فحسب، بل امتد إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية ، كذلك فان " قانون مور" غير ، بعمق، الحضارة الإنسانية من خلال تغيير مفاهيمنا عن المعلومات وطريقة وصولنا إليها... وبتأثيراته في الكومبيوتر والاتصالات والالكترونيات المعدة للاستهلاك وصناعة البرمجيات، فانه قد غير عالمنا بأكمله " . وبهذا المعنى يصير ويتكون لدينا جيل شاب ثقافيا كل ثلاث سنوات تقريبا، وهي فترة دخول التكنولوجيا حيز الاستهلاك بفضل ظهور منتجات، احدث واصرع وأكثر قدرة، بغض النظر عن العمر الفعلي لها.
إن الخطاب العربي تستوجب مراجعاته كليا، أسلوبا وشكلا وحروفا ومترادفات وتوقيتا وظرفا ولا بد من صياغته من جديد، ضمن مفهوم وقدرة الاستيعاب المطلوبة في الرسائل النصية، باعتبارها باتت صيرورة أساسية من وسائل الاتصال والتعبئة والتعبير.
ومع تحول الفيسبوك والتويتر وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي إلى منافذ أساسية للتعبير عن النفس والمواقف، صار الاختزال والتكثيف من السمات التي تطبع الكتابة والثقافة إجمالا؛ لذلك يتحتم على كل كاتب في هذا المجال إن يتدرب بصبر على ضرورة تكثيف الفكرة لكي تبقى ضمن عدد محدد من المساحة والحجم المقرر لها .
لذا وجب علينا أساليب وتعلم الاختزال والتكثيف، ونتعلم في ذات الوقت الطريقة الأمثل لشطب الحشوات في نصوصنا السردية، ولا بد من التركيز على الفكرة والمضمون، لكونهما تؤديان إلى ضعف التحليل، إن كان ثمة ما يستوجب دعم الرأي وتبريره، فكثيرا ما أسيء فهم كتابات من هذا النوع.
كما يجب ايلاء النشطاء السياسيين النشاط الحركي activism الأولوية على الأسس المعرفية. ولهذا أسبابه العديدة ، على رأسها البؤس السياسي والمعرفي للأحزاب العربية، وطابعها العام الملحق بالسلطة.
وقد أدى ذلك إلى التخلي عن الحزب، وعما يفترض أن يمثله ( الايدولوجيا والأرضيات المعرفية )، فمن المفترض أن يبنى النشاط السياسي على أرضيات معرفية، وإلا أصبح قائما من اجل ذاته، وينتهي بانتهائه، فلا يحقق أثراً يذكر، ويسهل استغلاله. هكذا نقرأ على لسان شباب قاموا بالانتفاضة التونسية عبارات : ( هذه ثورة بلا منظرين ثوريين ) و ( أغلب الشباب الذين قاموا بالثورة لم يكونوا مُسيسين؛ وبالتالي لم تكن ثورتهم موجهة سياسيا ) و ( يوم الهروب ... هروب بن علي أحسسنا بمأزق، فالجميع في الشارع، لكن لا أحزاب قادرة على تحقيق الخطوة الموالية ).
ومن تحليل خطاب الشباب العربي الأخيرة عبر مدوناتهم وكتاباتهم الالكترونية وعبر نصوص ومقاطع الأدب الساخر تبدو هناك وحدة الأهداف ووحدة المطالب في خطاب الشباب العربي واضحة بشكل كبير .
وهذا ليس فقط سمتاً لنمط التفكير في القضايا العامة الجامعة للأمة، كالقضية الفلسطينية مثلا، بل حتى المطالب التي تتعلق بالداخل تبدو متشابهة إلى حد بعيد، وهي بالأساس المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة واستغلال القضاء ومحاسبة الفاسدين... إلى غير ذلك من المطالب المشروعة في سبيل الانتقال الديمقراطي الذي أصبح قضية جامعة كبرى.
من خلال النظرة التحليلية لمضامين الخطاب للشباب العربي أيضا، نجد التباين الفكري والعملي الواقعي، مستمدا من خطاباتهم عبر الوسائل الجديدة للمشاركة. يمكن القول إن هذا الخطاب، برغم تميزه وجديته وتنوع وسائله ورصانة مضمونه وتعبيره عن هموم وآمال وآلام وطموحات ألامة، فهو تغلب عليه لغة المطالب، وليس الحقوق، إلا في ما يتعلق بحق التظاهر السلمي، مثلا، وهو الحق الوحيد الذي خرجت التظاهرات لقناعة أهميته؛ لكن خطاب المطالب يحتاج إلى التحويل نحو لغة الحقوق والتمسك بها، والذي يؤدي في النهاية إلى تبني النظم الانتقالية لهذه الشعارات المرفوعة في الميادين أو تلك المعبر عنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمساحات الإبداعية، باعتبارها حقوقا للمواطنين، وليست مجرد مطالب تتم المساومة عليها.
وهذا ما يؤكد كذلك : إن هذا الجيل وبالخصائص المشار إليها بات يمثل الأمل الحقيقي لهذه الأمة ، ليس فقط في تطوير المنطقة فحسب، وإنما في بلورة مفهوم جديد أكثر حداثة للهوية العربية.
0 comments:
إرسال تعليق